الدرس 112

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في المانع الذي أفاده المحقق العراقي «قده» وهو أن المكلف بعد أن اجرى البراءة وترك ما يحتمل جزئيته أو شرطيته كما لو فرضنا انه شك في أن السورة واجبة أم لا؟ فأجرى البراءة عن السورة وركع من دون سورة، فإنه يحصل له علم إجمالي بأنه إن كانت السورة جزءا من الصلاة فيجب عليه الإعادة، وإن لم تكن جزءاً من الصلاة فيحرم عليه قطع هذه الصلاة، فهذا العلم الإجمالي منجز ويوجب لغوية جريان البراءة عن السورة.

وقلنا بأن هذا المانع له عدة أجوبة:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق العراقي «قده» وهو بنحوين، مضى الكلام في النحو الأول.

النحو الثاني: افأد المحقق العراقي: ان العلم الإجمالي في طول البراءة فكيف يكون رافعا للبراءة إذ لولا جريان البراءة عن وجوب السورة لما ولد علم إجمالي، فإذا كان تولد العلم الإجمالي في طول البراءة فكيف يكون تولده موجبا للغوية البراءة. ولكن يلاحظ على هذا النحو من الجواب:

أولاً: بأن العلم الإجمالي ليس متولداً عن جريان البراءة وانما تولد العلم الإجمالي عن ترك السورة لا عن جريان البراءة، فهو بمجرد ان ترك السورة وركع من دون سورة حصل له علم إجمالي بأنه ان كانت السورة جزءا تجب الاعادة وان لم تكن جزءا يحرم القطع، فوجود هذا العلم الإجمالي ليس مسبباً عن البراءة بل حتى لو كان إخبارياً لا يجري البراءة أو لم يلتفت لجريان البراءة أو انه ترك السورة مع ذلك يحصل له علم إجمالي بأن السورة اما جزء فيجب الاعادة أو ليست بجزء فيجب الاتمام، وبالتالي فلو قلنا بمنجزية العلم الإجمالي الحاصل بعد الركوع بلا سورة لم يكن هذا منافياً لجريان البراءة في ظرفها، جرت البراءة في ظرفها غاية ما في الباب لما ركع من دون سورة حصل له العلم الإجمالي فصار منجزاً، فمنجزية العلم الإجمالي لا معنى للاشكال عليها بأن هذه المنجزية فرع جريان البراءة فكيف تلغيها؟ لأن هذه المنجزية ليست مسببة عن جريان البراءة.

ثانيا: بأن هذا العلم الإجمالي موجود من البداية لا انه تولد بعد الركوع إلى سورة. بيان ذلك: ان المكلف بمجرد ان شرع في الصلاة قبل ان يصل إلى ظرف السورة، هذا المكلف بمجرد ان شرع في الصلاة وهو متردد هل ان السورة جزء أم ليست بجزء؟ حصل لديه علم إجمالي من الاول، حصل لديه علم إجمالي بأنه اما تجب الصلاة مع السورة أو يحرم قطع هذ هذه الصلاة وان خلت من السورة، فهو لديه علم إجمالي من الاول، لا ادري ان هذه السورة جزء أم ليست بجزء، إذن ان كانت جزء فيجب عليه الصلاة مع السورة، إن لم تكن جزءا يحرم عليه قطع الصلاة الخالية من السورة، وان خلت من السورة لكن يحرم القطع، أي يجب الاتمام، فهو من قبل ان يترك السورة لديه هذا العلم الاجمالي. بعد ان ترك السورة وركع بلا سورة بدل ان نقول: يجب عليه الصلاة مع السورة قلنا يجب عليه الاعادة، فوجوب الاعادة ليس وجوبا آخر كوجوب الصلاة مع السورة، ليس هذا طرفا جديدا، فإن المكلف إذا ترك السورة وركع فعلم بأنه ان كانت السورة جزءا يجب عليه الاعادة، ان لم تكن جزءا يجب عليه الاتمام، معنى انه ان كانت جزءا يجب عليه الاعادة هو نفس معنى انه تجب الصلاة مع السورة، هذا ليس شيئا آخر وراء ما حدث له أولاً، وبالتالي بما أن هذا العلم الإجمالي موجود من الأول لا انه متولد عن جريان البراءة فهو مانع من جريان البراءة من الأول، إذ ما دام موجوداً منذ الشروع في الصلاة، فهو منذ شرع في الصلاة قال: ان كانت السورة جزءاً فيجب علي الصلاة مع السورة، ان لم تكن جزءا يحرم قطع هذه الفريضة الخالية عن السورة، مقتضى منجزية هذا العلم الإجمالي من اول الامر ان لا تجري البراءة، لا ان البراءة جرت ثم تولد العلم الإجمالي فلا يعقل ان يكون هذا العلم الإجمالي المتولد من البراءة ملغيا لها، بل نقول: هذا العلم الإجمالي موجود من الأول وهو مانع من جريان البراءة فما توجه اليه المحقق العراقي في بيانه للمانعية صحيح، واما ما اجاب به عن المانعية فهو محل تأمل.

هذا بالنسبة إلى الجواب الأول عن هذا المانع وهو ما ذكره المحقق العراقي «قده» وهذا الجواب محل تأمل.

الجواب الثاني: أن يقال: بأنه يجري استصحاب وجوب الاتمام ومقتضى استصحاب وجوب الاتمام انحلال العلم الإجمالي الجديد، بيان ذلك: أن المكلف قبل ان يترك السورة لديه علم تفصيلي بوجوب الاتمام لأنه شرع في فريضة فيجب عليه اتمامها على اية حال بناء على حرمة قطع الفريضة، فيجب عليه اتمام هذه الفريضة التي شرع فيه على كل حال، ترك السورة اعتمادا على البراءة وركع، بعد ان ركع ذاك العلم التفصيلي بوجوب الاتمام زال لأنه ان كانت السورة جزءا فهذه الصلاة باطلة والباطل لا يجب اتمامه، وان لم تكن جزءا وجب الاتمام، فذاك العلم التفصيلي بوجوب الاتمام وبحرمة القطع زال لأنه بعد ترك السورة والركوع إذ لعل السورة جزء فإذا كانت جزءا فالصلاة باطلة والباطل لا يجب اتمامه، إذن ليس هناك علم تفصيلي بوجوب الاتمام بعد ان ركع بلا سورة، لكن يقول: بما ان الاتمام وجب سابقا يعني قبل ان يركع، بما ان الاتمام كان واجبا قبل الركوع فاستصحب بقائه، فمقتضى استصحاب وجوب الاتمام انحلال العلم الاجمالي، لأن العلم الإجمالي حتى على مبنى العراقي القائل بالعلية التامة ينحل إذا قام منجز تفصيلي في احد طرفيه، فأنا بعد ان تركت السورة وركعت حصل لي علم إجمالي اما السورة جزء يجب علي الاعادة، أم السورة ليست بجزء يجب علي الاتمام، هذا العلم الإجمالي في احد طرفيه وهو مسالة وجوب الاتمام، قام منجز تفصيلي وهو استصحاب وجوب الاتمام، فلما قام منجز تفصيلي في احد طرفيه وهو استصحاب وجوب الاتمام، إذن الطرف الآخر تجري البراءة عنه بلا مانع فتجري البراءة عن وجوب الاعادة ويكتفي بهذه الصلاة.

ولكن، أولاً: لم يحصل يقين سابق بوجوب الاتمام الا على نحو الجامع بين الشرط واللا بشرط، واستصحاب وجوب الجامع لا يجدي شيئا، فإن هذا المكلف قبل ان يركع كان لديه علم إجمالي بأن الصلاة اما واجبة بشرط السورة أو واجبة لا بشرط السورة، فوجوب عليه اتمام الصلاة الأعم الذي علم به تفصيلا هو: يجب اتمام الصلاة الاعم من كونها لا بشرط أو بشرط شيء؟ لانني لا ادري هل هي لا بشرط أو بشرط شيء على اية حال اقول: يجب اتمام جامع الصلاة بين اللا بشرط والبشرط. ترك السورة وركع، شك بعد ان ترك السورة بأنه هل وجوب الاتمام ما زال باقيا أم لا؟

يقول: استصحب وجوب الاتمام. فيقال له: ما هو المستصحب؟ إن المستصحب هو وجوب اتمام الصلاة الاعم من اللا بشرط والبشرط، هذا هو المستصحب وهذا المستصحب لا يثبت وجوب اتمام هذه الصلاة التي ترك فيها السورة، فإن ما تيقن به سابقا انه يجب اتمام الصلاة الجامع بين اللا بشرط والبشرط، اما الآن اختلفت الصورة، الآن صارت صلاة بدون سورة، هذه الصلاة الخالية عن السورة بحيث لا يمكن التدارك هل يجب اتمامها أم لا؟ نقول: استصحاب الجامع لا يجدي، لأن هذا الاستصحاب احد طرفيه خرج عن محل الابتلاء، لأن المستصحب وجوب اتمام جامع الصلاة بين اللا بشرط والبشرط فعنوان البشرط خرج عن محل الابتلاء لانني اتيت بالصلاة من دون سورة، فبعد ان اقتحمت وارتكبت احد الطرفين الطرف الآخر الذي هو شق من ذلك المعلوم قد خرج عن محل ابتلائي فالاستصحاب لا يكون منجزاً، كالعلم الاجمالي، كما ان العلم الإجمالي إذا خرج احد طرفيه عن محل الابتلاء لم يكن منجزا كذلك الاستصحاب، استصحاب جامع خرج احد طرفيه عن محل الابتلاء لا يزيد عن العلم الإجمالي فلا يكون هذا الاستصحاب منجزا فإذا لم يكن منجزاً لم يمنع من منجزية العلم الإجمالي الجديد وهو اما السورة جزء فتجب الاعادة أو ليست بجزء فيحرم القطع.

ثانياً: أنهم في باب الصلاة اختلفوا هل الحكم هو وجوب الاتمام اوا لحكم هو حرمة القطع، ويترتب على ذلك آثار شرعية، مثلا في باب الحج اتفقوا على ان الحكم هو وجوب الاتمام «وأتموا الحج والعمرة لله» فمن احرم وجب عليه الاتمام كي يخرج من احرامه. اما في باب الصلاة، هل ان متعلق الحكم هو وجوب الاتمام أو حرمة القطع، فاستدلوا برواية حريز عن أبي عبد الله : «إذا كنت في الفريضة فرأيت غلاماً لك قد أبق أو غريما لك عليه مال أو حيّةً تتخوفها على نفسك فاقطع الصلاة واتبع غلامك وغريمك واقتل الحية».

فاستدلوا بهذه الرواية بمقتضى مفهوم الشرط على انه إن لم تجد عذرا فليس لك ان تقطع الصلاة، لأن قوله «اقطع» امر في مقام دفع توهم الحظر، فهو يدل على جواز القطع، مقتضى المفهوم انه إذا لم يحصل المبرر يحرم القطع، لا انه لا يجب القطع، كما ان ما ذكره سيدنا «قده» من ان الشرط هنا مسوق لتحقق الموضوع غير عرفي، ليس الشرط هنا إذا كنت، حتى يقال إذا لم تكن فهي سالبة بانتفاء الموضوع، بل الشرط هو الجزء الثاني: «اذا كنت في الفريضة ورأيت» ليس الموضوع هو انه ان تكون في الفريضة حتى يقال: واذا لم يكن في الفريضة فلا معنى لأن يقال له لا تقطع، لأنه ليس فيه فريضة فالقضية من باب السالبة بانتفاء الموضوع فلا ينعقد لها مفهوم، لأن الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع ليس لها مفهوم، بل المفهوم هنا بلحاظ الشك الثاني: «اذا كنت في الفريضة ورأيت غلاما لك قد أبق..... فاقطع». يعني ان لم تجد لك ذلك فليس لك القطع.

الآن الكلام: هل المستفاد من هذ هـ الرواية حرمة القطع؟ أم حرمة إيجاد القاطع؟

بحث ذلك سيدنا الخوئي «قده» وغيره من الاعلام نظير البحث الذي ذكروه في باب الصيام، حيث قالوا: بأن قصد الافطار مفطر في شهر رمضان أو قصد ذات المفطر مفطر؟ ورتبوا عليه ثمرات هنا. هنا أيضاً: ما هو المحرم؟ هو إيجاد ذات القاطع؟ أو ما يصدق عليه انه قطع؟ ما الثمرة العلمية؟ الثمرة العملية تظهر بالاستصحاب، إذا قلنا بأن المستفاد من الرواية حرمة إيجاد ذات القاطع، ما هو قاطع يحرم ايجاده، بالنتيجة هذه الشخص بعد ان ركع بلا سورة يشك في انه هل يجوز له ترك السجود أم لا؟ بما أن ترك السجود إيجاد لذات القاطع فأنا استصحب هذه الحرمة التي كانت ثابتة قبل الركوع، حيث كنت قبل الركوع يحرم عليّ إيجاد القاطع الآن بعد الركوع يحرم عليّ إيجاد القاطع وترك السجود هنا إيجاد لذات القاطع، اما إذا قلنا بأن المحرم القطع لا ادري ان ترك السجود قطع أم لا؟ إذ لعل ترك السجود ليس قطعاً لأن الصلاة باطلة من اساسها، فلا يصدق على ترك السجود انه قطع، إذن إذا استفدنا من الرواية ان المكلف يحرم عليه إيجاد ذات القطع لا محالة ترك جزء من أجزاء الصلاة إيجاد لذات القاطع فيجري الاستصحاب مع غمض النظر عن اشكالنا الأول، فيجري الاستصحاب، كان قبل الركوع يحرم إيجاد ذات القاطع الآن بعد الركوع يحرم إيجاد ذات القاطع بالاستصحاب.

أما إذا قلنا بأن المحرم القطع، قبل الركوع لو أتيت بأي فعل لكان قطعا، الآن بعد الركوع بدون سورة لعل ترك السجود ليس قطعاً، فاستصحاب حرمة القطع لا يثبت ان ترك السجود قطع حتى يكون هذا الاستصحاب منجزاً.

إذن فالاستصحاب لا يفيد في حل العلم الإجمالي المزبور.

والحمد لله رب العالمين.