الدرس 115

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

بعد الفراغ من ان جريان البراءة في الاكثر عند دوران الواجب بين الاقل والاكثر انه لا مانع من جريانها، يقع الكلام في انه في بعض الموارد قد يقال بان البراءة عن الاكثر لا تجري لوجود علم اجمالي منجز.

والضابط في هذه الموارد كلها هو انه قلنا سابقا: ان البراءة إنما تجري عن الاكثر لأن العلم الاجمالي اما بالاقل أو الاكثر ينحل لعلم تفصيلي بالاقل، بحيث لا يكون الأقل مجرى للبراءة، فحيث إن الاقل معلوم تفصيلاً، فلا يكون للبراءة عن وجوبه اثر اذن تجري البراءة عنه.

اما متى ما صار للبراءة عن الاقل اثر، متى ما صار للبراءة عن اصل الوجوب اثر كان العلم الاجمالي منجزا ولم تجري البراءة عن الاكثر. فالموارد التي سوف نتعرض اليها هو تشترك في انه لا يكون اصل البراءة عن الاقل ملغى بل يكون بالبراءة عن وجوب الاقل أو عن اصل الوجوب اثر بحيث يعارض البراءة عن وجوب الاكثر فيكون العلم الاجمالي منجزاً.

المورد الاول: ما إذا تعددت الواقعة وعجز المكلف في احدى الواقعتين، وهذا المورد له صورتان:

الصورة الاولى: ان يحرز المكلف عجزه عن الاكثر في احدى الواقعتين، مثلاً: يعلم المكلف ان الصوم واجب، لكن هل الصوم الواجب الصوم بقيد التحرز عن الغبار أم لا؟ دوران بين أقل وأكثر، لكنه يعلم انه اليوم غير قادر عن التحرك عن الغبار، ان كان الصوم الواجب هو الصوم المتقيد بالتحرز عن الغبار فهو اليوم غير قادر على ذلك، فهنا يقول المكلف، انا ادري ان الصوم الواجب اما بقيد التحرز عن الغبار أو لا بقيده، لكن ان كان الصوم الواجب هو الصوم المتقيد بالتحرز فأصل الصوم ساقط عني هذا اليوم لأنه لا يحتمل التبعيض في الصوم، ان كان الواجب علي هو الأكثر أي الصوم المقيد بالتحرز فليس اليوم واجبا عليّ لأنني غير قادر على التحرز. وان كان الواجب هو الاقل فيجب علي الصوم غدا لانني غدا متمكن. فإذن البراءة عن الاكثر أي البراءة عن تقيد الصوم بالتحرز معارضة بالبراءة عن اصل وجوب الصوم هذا اليوم، ان كان الاقل واجبا يجب الصوم غدا، ان كان الأكثر واجبا فاليوم غير واجب. إذن البراءة عن وجوب الاكثر _التقيد_ معارضة بالبراءة عن اصل الصوم هذا اليوم. فلدي علم اجمالي منجز.

الصورة الثانية: ان لا يحرز المكلف العجز وانما يشك، انا اليوم متمكن من الصوم عن التحرز عن الغبار، وغدا لا اعلم هل استطيع ان أصوم متحرزا عن الغبار أم لا؟ هنا هل يمكن ان نقول: البراءة عن الاكثر هذا اليوم معارضة بالبراءة عن اصل الصوم غداً فيكون العلم الاجمالي منجزا أم لا؟

نقول: لا، لأن هذه المورد بصورتيه من موارد العلم الاجمالي في التدريجيات والعلم الاجمالي في التدريجيات انما يكون منجزا إذا بقي العلم الاجمالي الى ظرف مجيء الواقعة الثانية. مثلاً: إذا علمت المرأة أنه إما الدم الذي عندها فعلا هو الحيض أو الدم الذي سيطرقها جزما بعد عشرين يوما، فهي في هذه الناحية قالوا: بان العلم الإجمالي منجز وان كان تدريجي الأطراف، لكن هذا العلم الاجمالي المنجز شرط منجزيته ان يحرز المكلف بقاء هذا العلم الاجمالي الى حين مجيء الطرف الثاني، سيبقى عندي هذا العلم الاجمالي، اما هذا الدم حيض أو الذي سيأتي بعد عشرين يوماً، فلو شكت المرأة قالت: احتمل انه بعد عشرين يوم تصير عندي امارة، كوجود جهاز يخبرها عن وقت مجيء الدم، فهذه المرأة تقول: احتمل انه عند مجيء الدم الثاني يكون عندي هذا الجهاز الذي يكشف لي ان هذا الدم حيض أم ليس بحيض. أي احتمل ان يتنقح هذا الدم الثاني في انه حيض أم ليس بحيض، إذن فهي لا تحرز بقاء العلم الاجمالي الى حين مجيء الطرف الثاني حيث لا تحرز ذلك لا يكون العلم الاجمالي منجزاً، فشرط منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات ان يحرز المكلف بقاء العلم الاجمالي الى حين مجيء الطرف الثاني فاذا لم يحرز ذلك تجري البراءة الآن عن حرمة الوطء أو حرمة الدخول الى المسجد بلا معارض.

بناء على ذلك نقول: في الصورة الثانية إذا قال المكلف ان لا ادري هل الصوم الواجب بقيد التحرز عن الغبار أو لا؟ وانا متمكن من أتي بالاقل _مع عدم التحرز_ أو أأتي بالاكثر، _يعني مع التحرز_ اليوم انا متمكن من كليهما، اما غدا لا ادري هل اني قادر أم غير قادر، اذن لا احرز بقاء العلم الإجمالي الى حين مجيء الطرف الثاني، بما أنني لا احرز ذلك لا يكون العلم الاجمالي منجزاً، تجري البراءة اليوم عن الأكثر يعني تقيد الصوم بالتحرز عن الغبار بلا معارض فيجوز لي ايقاع الصوم هذا اليوم بلا تحرز عن الغبار. إذن هذا المورد الاول انما يكون العلم الاجمالي فيه منجزا فلا تجري البراءة عن الاكثر إذا احرز المكلف عجزه في احدى الواقعتين، فاذ احرز المكلف عجزه في احدى الواقعتين، يقول بالنتيجة: ان كان الواجب هو الاكثر فلا وجوب، إن كان الواجب هو الاقل فهو باقي، إذن البراءة عن الاكثر بحيث يصح لي الاتيان بالاقل معارضة بالبراءة عن اصل الوجوب لو كان الواجب هو الاكثر.

المورد الثاني: ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في بحث الفقه في مسألة زكاة الفطرة: حيث افاد هناك بأنه: إذا شك المكلف في ان صلاة الفطرة الواجبة هل هي متقيدة بنهار يوم العيد أو يجوز اخراجها ليلة العيد، فالواجب مردد بين الاقل والاكثر، هل هو مطلق زكاة الفطرة أو زكاة الفطرة نهار يوم العيد؟ فهنا افاد «قد» بأنه: يجري استصحاب عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع الفجر لأنه إذا لم يدري ان الزكاة الواجبة متقيدة بالنهار أو غير متقيدة بالنهار، إذن هو يحتمل عدم وجوبها ليلاً، طبعا مع فرض انه ليس من قبيل الواجب المعلق، يعني يحز المكلف ان زكاة المكلف ليست من قبيل الواجب المعلق، فهو يقول: انا لا ادري هل ان زكاة الفطرة مقيدة بالنهار الآن غير واجبة، زكاة الفطرة غير مقيدة بالنهار فأنا مخير بين اخراجها ليلا أو اخراجها نهاراً. حيث انه يحتمل عدم وجوبها الان يجري استصحاب عدم الوجوب الى حين طلوع الفجر، ولا معنى لاجراء البراءة عن الاكثر، أي يجري البراءة عن تقيد زكاة الفطرة بكونها في النهار، لأن جريان البراءة عن الاكثر فرع احراز اصل الوجوب، إذا احرزت اصل الوجب وشككت في الواجب بين الاقل والاكثر اجريت البراءة عن الاكثر، أما ان الآن لا احرز اصل الوجوب، اصلا لعل زكاة الفطرة غير واجبة الآن. فإذن بالنتيجة لا معنى لاجراء البراءة عن الاكثر بل يجري استصحاب عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع الفجر، فاذا استصحبنا عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع الفجر تقيّدت الزكاة بالنهار قهراً، حيث لا وجوب قبل طلوع الفجر، فإذا لم يكن وجوب قبل طلوع الفجر ما كان قيدا في الوجوب فهو قيد في الواجب، كما ان الزوال قيد في وجوب صلاة الظهر فالزوال قيد في صلاة الظهر، بحيث لو اوقع صلاة الظهر قبل الظهر لم تكن صحيحة، فاذا استصحبنا عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع النهار تقيدت زكاة الفطرة بالنهار بحيث لو اخرجها ليلاً لم تجزه.

ولكن _النقاش معه في المثال_ استصحاب عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع الفجر لا يثبت التقيد، ما زال التقيد مشكوكاً، صحيح ان هناك شكا في الوجوب، فليكن، ولكن استصحاب عدم الوجوب الى حين طلوع النهار لا يثبت تقيد زكاة الفطرة شرعاً بالنهار، فإذا لم يثبت زكاة الفطرة بالنهار إذن عن الاكثر لها اثر، فنجري البراءة عن تقيد زكاة الفطرة بالنهار وأثر هذه البراءة أنه لو اخرجها ليلا لأجزأته، فلا معنى لأن يقال بان البراءة عن الاكثر هنا لا اثر لها لأنه يشك في الوجوب فيستصحب عدم الوجوب فيثبت التقيد قهراً؟! نعم لا يجب عليه الاخراج ليلاً لأنه يشك في الوجوب. اما لو اخرجها ليلا فمقتضى التقيد عن البراءة ليلا هو الاجزاء.

المورد الثالث: ما وقع فيه النقض والابرام: وهو انه: إذا لم يكن زمان الإتيان بالاكثر في زمان الإتيان بالأقل ممكنا، بيان ذلك:

أنه إذا علم بواجب مردد بين الاقل والاكثر وكان الاتيان بالاكثر ممكنا في زمان الاتيان بالاقل، انا في زمان الاتيان بالأكثر اتمكن من الاكثر وأتمكن من عدمه، هنا تجري البراءة عن الاكثر.

اما إذا كان الاتيان بالاكثر غير ممكن في زمان الاتيان بالاقل، هنا لا ينحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بوجوب الاقل بحيث تجري البراءة عن الاكثر بلا معارض. نذكر هنا مثالين:

المثال الاول: نذر صوم يوم، لكن لا ادري نذرت صوم يوم غد لأنه اول رجب أو نذرت صوم يوم، فالواجب مردد بين الاقل والاكثر.

هنا في زمان الإتيان بالاقل لو افترضنا غدا لم اصمه، سيبقى الاقل وهو الطبيعي، في زمان الاتيان بالاقل وهو صوم يوم لا يمكنه الاتيان بالاكثر لأن الغد ذهب، فلم يجتمع زمان التمكن من الاكثر مع زمان الاقل، في زمان الاقل لا يتمكن من الاتيان بالاكثر.

هنا نقول: لو فرضنا انه علم حتى بعد الفوت، يعني بعد افطر الصباح تذكر انه نذر أما صوم اليوم أو صوم يوم، اما صوم اليوم فقد فات فلا يمكنني الاحتياط بالاتيان في الصوم بهذا اليوم، وان كان الاقل يعني صوم يوم، فيجب علي الصوم مثلا. ففي مثل الفرض العلم الاجمالي غير منجز، لأنه ان كان المنذور هو صوم اليوم «الاكثر» فقد ارتفع قطعا، خرج عن محل ابتلائنا، وصوم الاقل وهو طبيعي اليوم مشكوك فتجري البراءة عنه.

فاذن لو حصل هذا العلم بعد الفوت لم يكن منجزا فلو حصل قبل الفوت يعني انا من الليل من قبل طلوع الفجر بدقائق علمت اجمالا ان المنذور اما صوم يوم غد أو صوم، هل استطيع ان اجري البراءة عن صوم يوم غد فاتركه الى اليوم الذي بعده فاصوم بطبيعي اليوم؟! كسائر الموارد دوران الموارد بين الاقل والاكثر، حيث تجري البراءة عن الاكثر بلا معارض.

الآن قبل طلوع الفجر بدقيقة مثلا لا ادري ان المنذور صوم غد أو صوم يوم، هل اجري البراءة عن صوم يوم آخر أم لا؟

قال بعضهم: لا تجري فيه البراءة، لأنه من الموارد التي لا تجري فيها البراءة. لأننا كما قلنا في اول البحث ان جريان البراءة عن الاكثر في فرض انحلال العلم الاجمالي لعلم تفصيلي بالأقل وشك في الاكثر فتجري البراءة عن الاكثر هنا لا يحصل العلم التفصيلي لأن في البراءة عن الاقل اثراً، والسر في ذلك:

أنه لو كان الواجب عليّ صوم الاكثر يكون اليوم اصوم، لو لم يكن الاكثر واجبا اصوم غداً، فأصالة البراءة عن الأكثر اثرها ان لا اصوم هذا اليوم، واثر البراءة عن الاقل «عن اصل الصوم» انني لو تركت صوم يوم غد ولو جهلا لم يكن الصوم في ذلك اليوم منجزا في حقي، فإذن للبراءة أثر، البراءة عن صوم يوم غد لها اثر، البراءة عن وجوب طبيعي صوم لها اثر وهو انني لو تركت الإتيان بالاكثر لشككت في وجوب الاقل بعده، فيتعارض البراءتان فيكون العلم الاجمالي منجزاً.

المثال الثاني _ما ذكر في الفقه_: لو شككنا في الوقت، هل ان الغروب بسقوط القرص أو لمغيب الحمرة، فنحن نشك هل ان وقت العصر ينتهي بسقوط القرص أو ان وقت العصر ينتهي بمغيب الحمرة؟ يقال هذا من الاقل والاكثر، لأنه نعلم بوجوب العصر إنما نشك في تقيّد وقتها بمغيب الحمرة والا قطعا الى حين سقوط القرص الوقت باقٍ؟

فهنا يقال هل تجري البراءة عن تقيّد الوقت بسقوط القرص؟ انا ادري ان صلاة العصر واجبة لكن هل تقيد وقتها بسقوط القرص فبعدها لا تصح أداءً؟ أو لم يتقيد وقتها بسقوط القرص فبعدها الى حين مغيب الحمرة تصح أداءً؟ هذا هو محل البحث.

فقد يقال: بأنه تجري البراءة عن التقيد، واذا جرت البراءة عن التقيد صح إيقاعها بعد سقوط القرص قبل مغيب الحمرة أداءً. لكن يقال: هنا علم اجمالي منجز، وهو: ان البراءة عن الاكثر أي البراءة عن تقيد الوقت بسقوط القرص معارض بالبراءة عن الوجوب بعد سقوط القرص، البراءة عن التقيد بسقوط القرص اثرها ان أتي بها اداء بعد سقوط القرص، لكنني بعد سقوط القرص اشك في أصل الوجوب فأجري البراءة عنه. اذن البراءة عن الاكثر وهو البراءة عن التقيد معارضة بالبراءة عن اصل الوجوب بعد سقوط القصر فيكون العلم الإجمالي منجزاً. هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ يأتي عنه غداً إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.