الدرس 116

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ البراءة عن الأكثر تجري لعدم مانع عامٍ أو خاصٍ. ولكن ذُكِرَ في كلمات الاعلام بعض الموارد التي مع كونها من باب الأقل والاكثر مع ذلك لا تجري فيها البراءة عن الاكثر، وهذه الموارد:

المورد الاول: ما إذا افترضنا أن البراءة عن الاقل لها ثمرة عملية، حيث قلنا فيما سبق: أن السر في جريان البراءة عن الاكثر هو عدم جدوى البراءة عن الأقل. فإن المكلف إذا علم بأن الواجب إما الأقل أو الاكثر فالأقل معلوم، ولذلك فالبراءة عنه لا اثر لها، فتجري البراءة عن الاكثر بلا معارض، اما إذا افترضنا ان البراءة عن الاقل لها ثمرة فلا محالة يتشكل علم إجمالي منجز لتعارض البراءة عن الاكثر مع البراءة عن الاقل، وهذا المورد ما إذا شك في أن الصوم مثلاً هل هو مأخوذ فيه التحرز عن الغبار أم لا؟ فلو فرضنا ان المكلف عليه يومان من الصوم، يجب عليه صوم يومين وهو ايضا شاك على نحو الشبهة الموضوعية، هل ان الصوم اخذ فيه التحرز عن الغبار أم لا؟ وفرضنا ان هذا المكلف عاجز في اليوم الاول عن التحرز عن الغبار فيقول: لو لم انظر الى اليوم الثاني الآتي وقصرت النظر على اليوم الأول لكان شكي دائرا بين الاقل والأكثر، إذ لا ادري هل يجب علي الصوم مع التحرز عن الغبار أو يجب عي الصوم لا بشرط، ولكن لو كان الصوم الواجب علي هو الاكثر أي بشرط التحرز لم اكن اليوم قادرا على الصوم لأنّي قادر على التحرز عن الاكثر الا بناءً على قاعدة الميسور. وإلا فمع غمض النظر عن القاعدة فإن العجز يسقط الواجب من اصله. فبالتالي: يقول: لو قصرت النظر على هذا اليوم لكان شكي شكا في الوجوب، لأنه لو كان الواجب هو الاكثر لا اقدر فيسقط عنّي، وإن كان الواجب هو الاقل فيجب علي فأنا شاك في أصل الوجوب، اما إذا نظرت الى غد ايضا حيث ان علي صوم يوم آخر وهو غد، والمفروض انني غدا متمكن من الصوم، بمجرد ان انظر الى غد يحصل عندي علم اجمالي على نحو العلم الاجمالي في التدريجيات، وذلك: اقول ان كان الصوم الواجب علي هو الصوم مع التحرز عن الغبار فغدا يجب علي ان اتحرز فاني متمكن غدا من ذلك، وان كان الصوم الواجب علي هو طبيعي الصوم لا بشرط فاليوم يجب علي الصوم، إذن بمجرد ان انظر الى غد يحصل عندي علم اجمالي من قبيل العلم الاجمالي في التدريجيات، فأقول: البراءة عن وجوب الصوم مع التحرز عن الغبار غداً معارضة بالبراءة عن وجوب الصوم اليوم، لانه إمّا أن يجب الصوم علي غدا مع التحرز عن الغبار ان كان الواجب هو الاكثر أو يجب علي اليوم اصل الصوم. إذن فالبراءة عن وجوب الصوم _عن الاكثر_ مع التحرز عن الغبار غدا معارض بأصل البراءة هذ اليوم. فإذن عندي علم إجمالي منجز بنحو العلم الإجمالي في التدريجيات، ولذلك لو كنت اليوم متمكن من الصوم، أي متمكن من التحرز عن الغبار ولكنني اشك في انني غدا متمكن من ذلك أم لا؟ لا يكون هذا العلم الاجمالي منجز لانه يعتبر في العلم الاجمالي في التدريجيات ان يبقى العلم الى مجيء الزمان الثاني، فاذا انا اشك، انا اليوم متمكن لكن غدا لعلي متمكن لعلي غير متمكن، فلم يحصل لي علم اجمالي باقي ليوم غد بحيث أقول: بأن البراءة عن وجوب الاكثر اليوم معارضة بالبراءة عن اصل الصوم غداً إذ لعلي غدا اكون متمكن ايضا ولعلي اكون عاجزا.

هذا بالنسبة الى المورد الاول وهو متين بمعنى ان البراءة عن الاكثر لا تجري فيه لأجل المعارضة.

المور الثاني: ما ذكره السيد الخوئي في مسألة زكاة الفطرة:

اذا شك المكلف ليلاً في أن زكاة الفطرة هل يعتبر فيها نهار العيد أو يجزي إخراجها ليلة العيد؟ _مع غمض النظر عن النصوص الخاصة لأن النصوص جوزت اخراج زكاة الفطرة من اول يوم من شهر رمضان_. ولكن مع غمض النظر عن النصوص الخاصة إذا شك المكلف هل يعتبر في زكاة الفطرة نهار العيد أم لا؟ يجزي اخراجها ولو ليلة العيد؟ فبدوا قد يقول القائل هذا من موارد دوران الأمر بين الأقل والاكثر. إذ لا يدري ان الواجب مطلق زكاة الفطرة؟ أو الواجب زكاة الفطرة يوم العيد؟!.

لكن السيد الخوئي قال هذا ليس من موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر، لا قبل طلوع الفجر ولا بعد طلوع الفجر، لا قبل طلوع الفجر لأنه يشك في اصل الوجوب، وموارد دوران الامر بين الاقل والأكثر ما إذا احرز اصل الوجوب وشك في تقيد الواجب بالاكثر فيقال حينئذ تجري البراءة عن تقيده بالاكثر، اما إذا شككت في اصل الوجوب فكيف تجري البراءة عن الاكثر، جريانها لغو، لأن اصل الوجوب مشكوك في الليل. طلع الفجر، يقول طلوع الفجر لا يكون من موارد دوران الامر بين الاقل والاكثر. لأنه باستصحاب عدم وجوب الزكاة الى حين طلوع الفجر تتقيد زكاة الفطرة بكونها في نهار العيد، هذا تقيد قهري، باستصحاب عدم الوجوب الى حين طلوع الفجر صار التقيد بالأكثر تقيداً قهرياً فكيف تجري البراءة عنه، إذن لا تجري البراءة ليلا لأنه شك في الوجوب، لا تجري البراءة نهاراً لوجود منجز في الاكثر وهو استصحاب عدم الوجوب الى حين طلوع الفجر نجز الاكثر، ان نجز زكاة الفطرة ان تكون بقيد النهار، فما هو السر في خروج هذا المورد عن محل كلامنا؟!

يقول السيد في خروجه: انه في الليل لا وجوب، أي لا يحرز الوجوب، في النهار هناك منجز للاكثر، فاذا كان هناك منجز للاكثر فكيف تجري عنه البراءة؟

ولكن هذا محل نقاش كما ذكرنا أمس وهو: ان استصحاب عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين طلوع الفجر لا يثبت التقيد شرعاً، صحيح هو قهرا هو يخرجها في النهار اما لا يثبت التقيد شرعاً. وثمرة ذلك انه لو افترضنا ان المكلف ليلا اخرج زكاة الفطرة، لما طلع الفجر، يقول: استصحاب عدم وجوب زكاة الفطرة الى حين النهار لا يثبت التقيد، إذا لم يثبت التقيد ممكن ان اجري البراءة عن التقيد بالاكثر. الثمرة هي: اجزاء ما دفعته البارحة، فثمرة اجراء البراءة عن الاكثر أي عن تقيد زكاة الفطرة بكونها في النهار اجزاء ما دفعته ليلاً.

فما ذكره سيدنا من ان المثال خارج عن باب دوران الامر بين الاقل والاكثر محل تأمل.

المورد الثاني: ما إذا كان زمان الاتيان بالاكثر ينقضي قبل انقضاء زمان الاتيان بالاقل، وبناءً على ذلك فقد يقال بوجود علم اجمالي منجز أي ان البراءة عن الاكثر معارضة بالبراءة عن اصل الوجوب كما ذكرناه في المورد الاول. بيان ذلك بمثالين:

المثال الاول: إذا نذر صوم يوم، ولكن لا يدري هل نذر صوم غد لأن غد هو النصف من رجب، أو نذر صوم يوم من أيام رجب بلا خصوصية لغد؟!

في مثل هذا الفرض لو خلينا عن الالتفات الى أنه إن فوّت غد لم يمكنه الاتيان بالأكثر، لو لم يتلفت الى هذه النقطة، فهو مشى على الظاهر، ظاهر انني مكلف بصوم لا ادري هل هو مقيد بصوم غد أو لا؟ فإذن يدور الامر بين الاقل والاكثر، فأجري البراءة عن تقيد المنذور بكونه غد، إذا اجريت البراءة عن الاكثر أي عن تقيد المنذور بكونه غد، إذن يجوز لي ان أأخر الصوم الى أي يوم، ليس يوم غد.

لكن إذا دققت، وقلت: إذا تركت صوم يوم غد فسيحصل لي بعد ذلك شك في اصل الوجوب، لأنني إن تركت صوم يوم غد وفات الأوان أي صار الزوال، بعد ان صار الزوال، اقول: إن كان الواجب علي صوم هذا اليوم فقد فات، واما صوم يوم فهو مشكوك فاجري البراءة عنه، فانا من الليل ملتفت الى انني لو اجريت البراءة عن التقيد بغد وتركت الصوم يوم غد سوف يحصل لي شك في اصل الوجوب فأجري البراءة عنه، أنا ليلا غير متلفت الى هذه الخصوصية، فمع التفاتي ليلا لهذه الخصوصية يتولد عندي علم اجمالي. بأن اقول بالنتيجة: البراءة عن الاكثر أي عن تقيد الصوم بكونه يوم غد معارضة بالبراءة عن اصل وجوب صوم يوم لو ترك الصوم غداً، علم اجمالي طولي. لأنني إذا تركت الصوم غدا سوف يحصل عندي شك بدوي للوجوب، فأنا من الليل يحصل لدي علم اجمالي منجز.

المثال الثاني: وهو ما إذا شك في ان وقت صلاة العصر هل هو مقيد بسقوط القرص أو هو يمتد الى مغيب الحمرة؟

قال ان اجريت البراء عن تقيد الوقت بسقوط القرص الثمرة انني يصح لي اتيان صلاة العصر بعد سقوط القرص اداء.

لكن لو تركت الصوم قبل سقوط القرص سوف يحصل عندي شك في الوجوب، لأنني لو انتظرت الى ان يسقط القرص بعد سقوط القرص اقول: ان كان الواجب علي الصلاة مقيدة بما كان قبل سقوط القرص فقد انتفى وقتها، واذا انتفى وقتها فلا يجب علي المبادرة الى قضائها، وأما وجوب ادائها الآن فهو مشكوك بدواً فتجري البراءة عنه.

إذن أنا من الاول ملتفت ان اجريت البراءة عن الاكثر أي عن تقد الوقت بسقوط القرص وتركت الصلاة قبل سقوط القرص سوف اشك في الوجوب بعد سقوط القرص، فالبراءة عن الاكثر أي عن تقيد الوقت بسقوط القرص، معارضة بالبراءة عن اصل الوجوب بعد سقوط القرص، فهذا علم اجمالي منجز.

لكنَّ شيخنا الاستاذ «قده» أفاد بأنه قد يقال في المقام: لا تجري البراءة عن اصل الوجوب كي تعارض البراءة عن الاكثر، والسر في ذلك: ان المكلف يعلم بأنه متى ما ترك الأكثر «الصلاة قبل سقوط القرص» فإن ترك الأقل بعد ترك الاكثر حصلت له المخالفة القطعية، فجريانه البراءة لا يفيده. فأنا لا ادري هل المنذور صوم يوم غد أو صوم يوم، اقول: لو تركت صوم غد اعتمادا على البراءة، وترك اصل الصوم بعدها اعتمادا على انه شك في الوجوب، قطعا وقعت في المخالفة القطعية. قطعا انا مستحق للعقوبة في المخالفة القطعية. ما دمت بمجرد ان اترك الصوم غدا اقول: لو ضممت الى ترك الصوم غدا ترك اصل الصوم لوقعت في المخالفة القطعية وقطعت باستحقاق العقاب على كل حال إما بترك الصوم غدا أو بترك اصل الصوم، على اية حال ساقع في المخالفة القطعية، فجريان البراءة عن وجوب اصل الوصم بعد ترك الصوم غداً لا ثمرة لها، لأنني قاطع بالمخالفة القطيعة قاطع باستحقاق العقوبة على كل حال. فتجري البراءة عن الاكثر بلا معارض ويكون من موارد الاقل والاكثر.

فإن قلت: ذكرتم في الاصول في بحث منجزية العلم الاجمالي ان المشكلة ليست في العلم بالمخالفة، بل المشكلة في الترخيص في المخالفة، يعني المانع من جريان الاصل أنه ترخيص في المخالفة القطعية، وليس المانع من جريان الأصل انه بجريانه أعلم بالمخالفة، العلم بالمخالفة ليست مخالفة. المشكلة في ان جريان الاصل ترخيص شرعي في المخالفة. بيان ذلك بالمثال: إذا علمت اجمالاً إما بغصبية ماء «أ» أو بنجاسة ماء «ب»؟ قالوا: هذا العلم الاجمالي منحل بالخطاب المختص، لأن جريان اصالة الحل في مشكوك الاصلية معارضة بجريان اصالة الحل في مشكوك النجاسة فتصل النوبة لخطاب خاص بمشكوك النجاسة الا وهو اصالة الطهارة، اصالة الطهارة لا تجري في مشكوك النجاسة الا وهو اصالة اصالة، إذن بعد تعارض اصالة الحل في مشكوك الغصبية مع اصالة الحل في مشكوك النجاسة تصل النوبة لأصل خاص بمشكوك النجاسة الا وهو اصالة الطهارة فيجوز شربه.

لكن لو ان هذا المكلف اراد ان يشرب مشكوك الغصبية، فخالف العلم الاجمالي المنجز في مشكوك الغصبية، بعد ان شرب مشكوك الغصبية، بمقدوره ان يجري اصالة الطهارة في مشكوك النجاسة ويشربه أم لا؟ ربما قائل ان يقول بمجرد ان يشرب مشكوك النجاسة اعتمادا على اصالة الطهارة يحصل له العلم بالوقوع بالمخالفة. لأن جريان اصالة الطهارة في مشكوك النجاسة ليس ترخيصا في المخالفة، هذا من الاول جاري في حقه، فجريان اصالة الطهارة في مشكوك النجاسة ليس ترخيصا في المخالفة القطعية كي يكون قبيحا، وان كان لو شربته لحصل لك علم بالمخالفة واستحقاق العقوبة.

اما العلم بالمخالفة ليس مشكلة، المشكلة في ان يكون الترخيص ترخيصا في المخالفة، أما العلم بالمخالفة ليس مشكلة، هذا نظير ان يقال بأن العلم الاجمالي في الشبهات غير المحصورة غير منجز.

فقام المكلف واستقصى كل الاطراف واحد واحد الى ان بقي الطرف الأخير، فقال ان شربت هذا الطرف الاخير فسوف اعلم بالمخالفة.

العلم بالمخالفة ليس مشكلة في ذاته، المشكلة هي ان يكون جريان الاصل ترخيصا في المخالفة، فأيُّ محذور في المقام بأن يقال: ان لا ادري هل المنذور صوم غد أو صوم يوم؟ اجريت البراءة عن التقيد بالغد، لما اجريت البراءة عن التقيد بالغد لم اصم غدا، بعد ان تركت الصوم غداً، قلت ان كان المنذور صوم اليوم فاليوم فات، وان كان فهو مشكوك بدواً، وصوم أي يوم مشكوك بدواً فاجري البراءة عنه. فاذا اجريت البراءة عن صوم أي يوم وتركته لم يكن جريان البراءة عنه ترخيصا في المخالفة القطعية وان ترتب عليه العلم بالمخالفة، العلم بالمخالفة شيء والترخيص في المخالفة القطعية شيء آخر.

فما هو الجواب الصناعي عن ذلك؟

والحمد لله رب العالمين