الدرس 117

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا أمس: أنّ المكلف إذا علم إجمالاً بأنه إما يجب عليه إيقاع الصلاة قبل سقوط القرص أو أنه إذا لم يوقع الصلاة قبل سقوط القرص فيجب عليه أداءها بين سقوط القرص ومغيب الحمرة، وقلنا بأن البراءة عن تقيد الصلاة بسقوط الصلاة بسقوط القرص معارضة بالبراءة عن وجوب إيقاع الصلاة قبل مغيب الحمرة، فبذلك يكون العلم الإجمالي منجزاً.

ولكن ذكرنا أن شيخنا الأستاذ «قده» أفاد بأن البراءة بعد ترك الإتيان بالأكثر أي بعد ترك الصلاة قبل سقوط القرص فالبراءة عن وجوب إيقاع الصلاة لا تجري، وذلك لأن في إجراء هذه البراءة علماً بمخالفة الواقع، فإن من ترك الصلاة قبل مغيب الحمرة بعد تركه للصلاة قبل سقوط القرص يعلم بمخالفة قطعية بالواقع، فالبراءة لغو مع العلم بالمخالفة القطعية، لذلك تجري البراءة عن تقيد الصلاة بسقوط القرص بلا معارض.

وقلنا: قد يشكل على ذلك:

أولاً: بأن العلم بمخالفة الواقع ليس محذورا في نفسه، وإنما المحذور في الترخيص في مخالفة الواقع. لذلك إذا علم المكلف إجمالاً بأنه إمّا الماء «أ» مغصوب أو الماء «ب» نجس؟ فجريان أصالة الحل في الماء «أ» معارض بأصالة الحل في ماء «ب» وبعد تعارض الأصلين وتساقطهما تصل النوبة لجريان أصالة الطهارة في ماء «ب» وفيه ينحل العلم الاجمالي. مع ان جريان البراءة في إناء «ب» بعد شربه إنا «أ» فيه علم بمخالفة قطعية، فلو شرب إناء «أ» المحتمل الغصبية عصياناً ثم أراد ان يجري أصالة الطهارة في إناء «ب» المشكوك النجاسة لا مانع من إجراءها مع ان في إجراءها تحصلا للعلم في مخالفة الواقع ولم يذكر احد أنه محذور مانع. فتحصيل العلم بمخالفة الواقع ليس به بأس وإنما البأس في أن يرّخص المولى في مخالفة الواقع.

ثانياً: قد يقال لا يحصل له علم بمخالفة الواقع، بمعنى أنه لا يحصل له علم باستحقاق العقوبة، بيان ذلك: اذا علم المكلف بأنه اما يجب عليه الصلاة مقيدة بما قبل سقوط القرص، أو يجب عليه إيقاع الصلاة، فترك الأول، المفروض ان يحتاط ولم يأتي بالصلاة قبل سقوط القرص، بعد ان ترك الصلاة وسقط القرص الآن لا يمكنه الاحتياط، أي لو كان الواجب هو الصلاة المتقيدة بسقوط القرص الآن لا يمكنه الاحتياط، ما الذي يترتب على عدم امكان الاحتياط؟ لا يترتب على عدم امكان الاحتياط سوى أن يتوب. فيقول بعد مخالفة الاحتياط كان وظيفتي ان احتاط بالصلاة قبل سقوط القرص، ما احتطت، الآن لا يمكنني الاحتياط بعد سقوط القرص، الآن يترتب علي بعد مخالفة الاحتياط عقوبة مثلاً، وبعد توبتي من مخالفة الاحتياط اجري أصالة البراءة عن وجوب إيقاع الصلاة اداء قبل مغيب الحمرة فأترك الصلاة وأأتي بها قضاء بعد ذلك. فبما انني تبت توبة نصوحة من مخالفة الاحتياط واستند في ترك الصلاة قبل مغيب الحمرة الى أصل شرعي وهو أصالة البراءة، فليس لدي علم باستحقاق العقوبة، فإجراء البراءة عن وجوب أداء الصلاة قبل مغيب الحمرة ليس تحصيلا للعلم باستحقاق العقوبة بل احتمل استحقاق العقوبة واحتمل عدمه. إذن بالنتيجة يكون لجريان البراءة عن وجوب الصلاة قبل مغيب الحمرة أثر فتتعارض مع البراءة عن تقيد الصلاة بسقوط القرص.

ولكن قد يجاب عما ذكر:

أولاً: بأنه فرق بين مثال العلم الاجمالي بالغصبية أو النجاسة وبين مثال العلم بتقيد الصلاة بسقوط القرص أو امتداد الوقت الى مغيب الحمرة، ففي ذاك المثال وهو ما إذا دار الامر بين المغصوب أو المتنجس، من الاول قبل ان تشرب يقال لك العلم الاجمالي منجز في مشكوك الغصبية لأنه لا يوجد أصل مؤمن منه ومنحل في مشكوك النجاسة، لأن أصالة الحل وان تساقطت فيه بالمعارضة لكن فيه أصالة الطهارة وهي منجزة، فأصالة الطهارة ليست ترخيص في المخالفة القطعية لانها ترخيص لا بشرط، ترخيص في شرب ماء «ب» لا بشرط شيء. فلا يعد ترخيصاً في المخالفة القطعية، بينما في محل كلامنا: إذا علم اجمالاً إما بتقيد الصلاة بسقوط القرص فلابد ان يوقعها بعد سقوط القرص، او ممتدة الصلاة الى مغيب الحمرة، فليس هناك الآن براءة عن وجوب الصلاة بعد سقوط القرص وقبل مغيب الحمرة، وإنما يقول المولى: على فرض انك تركت الأكثر يعني على فرض انك تركت الصلاة قبل سقوط القرص فلك اجراء البراءة عنها قبل مغيب الحمرة، ولا إشكال انه يعد ترخيصا في المخالفة القطعية، لأن موضوعه من ترك، موضوع البراءة من ترك الأكثر فيجري البراءة عن الاقل، ومن الواضع ان البراءة عن الأقل في فرض ترك الأكثر ترخيص في المخالفة القطعية. لذلك حتى في مثال العلم الاجمالي في المغصوب او المتنجس، لو ان المولى قال: تجري الطهارة في الماء المشكوك النجاسة بعد شربك، يعني خصص جريان البراءة بذلك، قال: تجري أصالة الطهارة في الماء المشكوك النجاسة ان شربت الماء المشكوك الغصبية سيكون ترخيصا في المخالفة القطعية. اذن العرف يرى فرقا بين ترخيص المطلق لا يراه ترخيص في المخالفة، وبين الترخيص على فرض ترك الإتيان بالاكثر. فإنه ترخيص في المخالفة القطعية.

ثانياً: بالنسبة إلى مسألة التوبة، إنما يحصل بالتوبة الآن من استحقاق العقوبة لو جرت البراءة وليس العكس، يعني شخص علم بأنه إما يجب عليه الإتيان بالصلاة قبل سقوط القرص أو ما أداها قبل سقوط القرص لابد ان يؤديها قبل مغيب الحمرة، فما احتاط فما اتى بالصلاة قبل سقوط القرص، الآن يريد ان يتمسك بالتوبة، يقول إذا تبت الى الله من العلم بوظيفة الاحتياط سوف لن اعلم باستحقاق العقوبة، «سوف لن اعلم» إذا جرت البراءة في حقي الآن بعد ان خالفت الاحتياط وجرت البراءة في حقي شرعاً بالنسبة الى الصلاة حين مغيب الحمرة، حينئذ اقول: انا لا علم لي، جرت البراءة في حقي، اما اول الكلام البراءة تجري في حقي. فقد يقال بأن جريان البراءة في حقه منصرف، بمعنى ان دليل البراءة حيث إنه مسوق للتأمين من العقوبة فهو منصرف عن فرض يكون الاستناد فيه إلى البراءة محصلاً للعلم بمخالفة الواقع، صحيح ان العلم بمخالفة الواقع ليس محذور، أي ليس معصية، المعصية هي مخالفة الواقع لا تحصيل العلم بمخالفة الواقع، لكننا الآن ندعي الانصراف لا المحذورية، دليل البراءة منصرف عن فرض يكون الاستناد فيه الى البراءة تحصلا للعلم بمخالفة الواقع، فاذا لم تجر البراءة في حقه فلا مؤمن، وإذا لم يكن مؤمن فمجرد التوبة عن مخالفة الاحتياط السابق لا يوجب له أن يقول انا تخلصت من العلم بمخالفة الواقع فتخلصت من العلم باستحقاق العقوبة.

إذن فلا يبعد ما افاده الاستاذ من انه لا تجري البراءة عن الأقل بعد ترك الاحتياط بإتيان الأكثر فتجري البراءة عن الأكثر بلا معارض، ويكون المورد من دوران الامر بين الأقل والأكثر كسائر الموارد.

هذا تمام الكلام في هذا البحث وهو دوران الامر بين الأقل والأكثر في الأجزاء وتوابعه.

ندخل في البحث في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الشرائط:

كما إذا علم المكلف هل صلاة الجنازة مشروطة بالطهارة الحدثية ام لا؟ هذا دوران الامر بين الأقل والأكثر بلحاظ الشرط. أو شك المكلف بأنه هل يعتبر في صحة صلاة المرأة ستر القدمين اثناء الصلاة ام لا؟

هذا دوران الامر بين الأقل والأكثر بلحاظ الشرائط.

ونفس ما قلنا في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء يأتي: من ان هناك انحلالا حقيقياً بلحاظ عالم العهدة.

حيث إن القدر المتيقن مما دخل في عهدة المكلف هو صلاة الجنازة، وأما تقيد صلاة الجنازة بالطهارة الحدثية فلم يحرز دخوله في عهدته، فهناك انحلال للعلم الاجمالي الى علم تفصيلي بأن ما دخل في العهدة صلاة الجنازة، وشك بدوي في دخول التقيد فهو مجرى للبراءة.

وإن لم يحصل انحلال حقيقي بلحاظ عالم الجعل فهناك انحلال حكمي كما ذهب السيد الخوئي، حيث يدور الامر بين البشرط ولا بشرط، أي صلاة الجنازة بشرط الطهارة أو صلاة الجنازة لا بشرط، وحيث ان اللا بشرطية ليست مجرى للبراءة فتجري البراءة عن الشرطية بلا معارض فينحل العلم الاجمالي حكماً.

لكن المحقق العراقي «قده» أفاد: بأنه تارة يدور الامر بين الأقل والأكثر بحسب الشرائط في المتعلق _وهو ما مثلنا له تجري البراءة_. وتارة يدور الامر بين الأقل والأكثر في الشرائط بلحاظ متعلق المتعلق.

واذا دار الامر بين الأقل في الشرائط بلحاظ متعلق المتعلق. فهنا صورتان:

الصورة الأولى: ان يكون ضم الخصوصية المشكوكة لأول وجود امراً مككنا، مثلاً: إذا قال المولى بأنه يجب اعطاء زكاة الفطرة للفقيرة، وتردد الامر في الفقير بين خصوص الفقير الإمامي او مطلق الفقير؟ فهذا دوران الامر بين الأقل والأكثر في الشرائط لكن بلحاظ متعلق المتعلق. المتعلق هو اعطاء الزكاة، متعلق المتعلق هو الفقير، الفقير دائر بين مطلق الفقير أو الفقير الإمامي.

هنا يقول المحقق العراقي: بامكاننا ان نجعل الفقير امامي، فضم الخصوصية المشكوكة الى ما هو المتعلق امر ميسور، إذن بما انه امر ميسور، إذن بالنتيجة يصبح المورد من دوران الامر بين الأقل والأكثر، يعني إما أن اكتفي بإعطاء الزكاة لهذا الفقير الفاقد للخصوصية المشكوكة وهي الإمامية او أجعله إماميا فأعطيه الزكاة. فبما ن الخصوصية المشكوكة يمكن ضمها إذن يدور الامر في الواجب بين الأقل والأكثر فيأتي فيه ما سبق البحث فيه في الاجزاء.

أما إذا افترضنا انه لا يمكنه الضمن، مثلاً: إذا قال المولى يجب الوقوف بعرفات وترددت انه يجب الوقوف بعرفات عن ميسرة الجبل أو مطلقا وان كان عن ميمنته؟

فهنا الخصوصية المشكوكة ليست باختياري حتى اقول بانني اجعل وقوفي عن ميسرة الجبل بأن اقلب الجبل مثلا واجعله عن يميني؟!

فبما أن الخصوصية المشكوكة خارجة عن اختيار المكلف هذا ليس من باب الأمر بين الأقل والأكثر، يقول سوف يكون من باب المتباينين. أي التعيين والتخيير العقلي الذي هو بنظره يعود للمتباينين. لأن النتيجة ستكون انه: هل الواجب الوقوف بعرفات عن ميسرة الجبل أم الواجب هو الجامع بين الميسرة والميمنة، والنسبة بين الجامع والحصة ليست بين الأقل والأكثر بل بين المتباينين. والعلم الاجمالي بين المتباينين منجز، إذن إذا كانت الخصوصية المشكوكة مما يمكن ضمها وإيجادها فسوف يصبح من باب الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الخصوصية.

وأما إذا كانت الخصوصية المشكوكة خارجة عن الاختيار فسوف ينقلب الامر الى الدوران بين الجامع والخصوصية، يعني والحصة، والفرق بين الجامع والحصة فرق بين المتباينين، والعلم الاجمالي فيه منجز.

ولكن يلاحظ على ما افاده:

أولاً: لي المناط في الانحلال على عالم الامتثال، اقد في عالم الامتثال اصنع الخصوصية المشكوكة او لا اقدر، هذا لا ليس له علاقة. المدار على عالم الجعل وهو الذي علمنا واستفدنا منه ان الانحلال بلحاظ مرحلة الجعل، فإذا كان المناط على عالم الجعل لا على عالم الامتثال اذن صح لنا بلحاظ علم الجعل ان نقول: ان اللا بشرطية مما لا يدخل في العهدة حيث يدور الامر بين اشتراط ميسرة الجبل واللا بشرطية، واللا بشرطية مما لا يدخل في العهدة، فاذا كانت اللا بشرطية مما لا يدخل في العهدة فلا محالة يحصل الانحلال في مرحلة الجعل. فإذن بالنتيجة بحسب بيانات المحقق العراقي هناك في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الأجزاء يأتي الكلام هنا. ومجرد انه في عالم الامتثال يمكنه الضم أو لا يمكنه الضم او لا يمكنه الضم، ليس دخيلا في الانحلال.

ثانياً: لو اغضمنا النظر عن ذلك، فكون القيد غير اختياري لا يعني أن التقيد غير اختياري، المدار على اختيارية التقيد لا على اختيارية القيد وإلا لأتى الإشكال حتى في المتعلق نفسه. لا نحتاج الى ان نذهب الى متعلق المتعلق. إذا شككنا هل يشترط في صلاة الآيات ايقاعها في وقت الآية أم لا؟ هذا دوران الامر بين الاق والأكثر بحسب الشرائط في نفس المتعلق لا متعلق المتعلق، والوقت ليس قيدا اختيارياً. هل يجب إيقاع صلاة الآيات وقت الآية ام لا؟ فالوقت ليس اختياريا لكن الايقاع أي التقيد اختياري، فبما أنّ التقيد اختياري وان كان القيد اختياري إذن بالنتيجة لا فرق بين الموردين كي يقال: إذا كان ضمن المشكوك ميسوراً كان من باب الأقل، وان لم يكن ميسوراً كان من باب المتباينين. تم الكلام في الأقل والأكثر في الشرائط.

فدخلنا في: دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقليين. ويأتي الكلام عنه يوم الأربعاء.

والحمد لله رب العالمين