الدرس 118

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ندخل في بحث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير. والبحث هنا في مطلبين:

1 - في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.

2 - دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي.

المطلب الأول: هو دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.

وهو الذي عبَّر عنه الآخوند ب «دوران الأمر بين العام والخاص» والسيد الشهيد «قده» وافق الآخوند: في أن مقتضى مسلك العلية هو عدم جريان البراءة عند دوران الأمر بين العام والخاص. ومثّل له بما إذا علمنا إما بوجوب إكرام الهاشمي أو بوجب إطعامه. فهنا اذا لاحظنا عالم المصداق وجدنا ان الإطعام اخص مصداقا من الاكرام.

ولكن اذا نظرنا إلى عالم المفهوم وجدنا ان بين الإطعام تغايراً ي المفهوم، فمفهوم الإكرام يختلف ذهنا عن مفهوم الإطعام وان كان بحسب المصداق اخص منه.

لأجل ذلك أفاد السيد الشهيد: دوران الأمر بين إكرام الهاشمي أو إطعام الهاشمي ليس من دوران الأمر بين الأقل والاكثر بل هو من دوران الأمر بين المتباينين، نعم لو دار الأمر بين إكرام الهاشمي أو إكرام الهاشمي العادل، لكان من دوران الأمر بين الأقل والاكثر، لعدم التغاير بين المفهومين، فيمكن جريان البراءة عن اشتراط العدالة، أما في دوران الأمر بين إكرام الهاشمي أو إطعام الهاشمي فإن بين المفهومين تباينا، وبالتالي لا يوجد انحلال بلحاظ عالم العهدة بأن نقول: القدر المتيقن ممن اشتغلت به العهدة احدهما والشك في دخول الآخر، لأن المفروض ان بينهما تباين. فلا ندري ما الذي اشتغلت العهدة به، فالعلم الإجمالي هنا منجز، بناء على مسلك العلية. نعم، على مسلك الاقتضاء وهو ان التنجز يدور مدار جريان الاصل في احد الطرفين جريان المعارضة بين الاصلين لا معارضة هنا بين الاصلين، لان البراءة تجري عن وجوب الإطعام بلا معارض، اذ لا تعارضها البراءة عن وجوب الاكرام، اذ ما هو الأثر عن البراءة عن وجوب الاكرام؟ فإن كان الاثر هو الترخيص في ترك الإكرام رأساً فهذا ترخيص في المخالفة القطعية. وان كان الغرض هو اثبات وجوب الإطعام يعني بنفي وجوب الاكرام نثبت وجوب الإطعام فهذا اصل مثبت، اذن البراءة عن وجوب الاكرام لا تجري فتجري البراءة عن تعين الإطعام بلا معارض، ويكون المكلف مخيرا. فبلحاظ مسلك الاقتضاء ينحل العلم الاجمالي حكماً، اما بلحاظ مسلك العلية فكما افاد صاحب الكفاية: من ان العلم الاجمالي في المقام بين متباينين ومقتضاه هو المنجزية.

ولكن قد يتأمل في كلام السيد الشهيد «قده»:

بأن المفهوم بما هو مفهوم ليس موضوعاً للاثر، وإنّما ما هو موضوع الاثر بما هو محكي المفهوم، بمعنى أنّ المفهوم لوحظ مشيرا ومعرفا لما هو موضوع الأثر. فلأجل ذلك وان كان بين المفهومين وهما الاكرام والاطعام تباين الا ان بين محكييهما اقل واكثر، لا بين محكييهما تباين، فيقال: هل دخل في عهدة المكلف طبيعي الاكرام؟ أم الذي دخل في عهدته الاكرام المتحصص بالاطعام؟ فالقدر المتيقن طبيعي الاكرام والشك في دخول الحصة فتكون مجرى للبراءة. فبلحاظ المفهوم وان كان الدوران بينهما بين متباينين لكن بلحاظ محكي المفهوم وما هو موضوع الأثر يكون الدوران بين الأقل والأكثر، فهو مشكوك الشرطية فتجري البراءة عن الشرطية المشكوكة. هذا تمام الكلام في المطلب الاول.

المطلب الثاني: وهو دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، لا العقلي.

وقبل أن ندخل فيه نذكر الاقسام التي تعرض لها سيدنا «قده» في مصباح الاصول: حيث افاد:

بأنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي له أقسام أربعة:

القسم الأول: ان يدور الأمر بين التعيين والتخيير في التكليف، كما اذا لا ندري هل الواجب علينا يوم الجمعة خصوص الجمعة أم أننا مخيرون بين الجمعة والظهر، فهو دورن امر بين تعيين وتخيير في التكليف. وهذا سنأتي له بعد استعراض الأقسام إن شاء الله.

القسم الثاني: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية. كما لا ندري هل الحجة خصوص فتوى الأعلم أم الحجة خصوص فتوى الفقيه العالم لا خصوص الاعلم؟

فهنا يقولون مقتضى الاصل العقلي هو التعيين، أي الأخذ بفتوى الأعلم، باعتبار ان جريان البراءة عن اشتراط الاعلمية أو استصحاب عدم اشتراط الاعلمية لا يثبت حجية فتوى غير الاعلم أو لا يثبت جواز الاستناد إلى غير الاعلم، بلحاظ ان الشك في الحجية الجعلية مساوق للقطع بعدمها فعلاً، اذا مقتضى الاصل العملي هو التعيين أي الأخذ بفتوى الأعلم، فإن الأخذ بفتوى الأعلم لا اشكال في انه معذّر ومؤّمن.

القسم الثالث: اذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في الامتثال. والمقصود بذلك: موارد العلم الاجمالي وقد تعرض لها الشيخ الاعظم «قده» في أول الرسائل في الامتثال الاجمالي، بيان ذلك:

في الموارد التي لا يكون العلم الاجمالي منجزا للموافقة القطعية هل يتعين الموافقة الظنية بأن نتنزل من القطعية إلى الظنية ولا نصير إلى الاحتمالية أم لا؟

مثلا: اذا نذر شخص انه في يوم المبعث يأتي بشيء، ولكن هذا الشيء مردد بين مئات، لا يدري نذر صدقة، صلاة، صوماً، زيارةً، صلة رحم، قراءة قرآن؟! لم يتعين المعلوم بالاجمال في شيء حتى يكون منجزا في حقه.

فهنا نقول: حيث لا يمكنه الموافقة القطعية لتردد المعلوم بالإجمال بين المئات والآلاف اذن بالنتيجة ليس العلم الاجمالي منجز للموافقة القطعية.

لكن لو ظنّ أن ما نذره هو الصوم، فهل يتعين عليه الموافقة الظنية أم يبقى مخيرا بين أي فرد من الافراد، أي يبقى ضمن الموافقة الاحتمالية.

فهنا يدور الأمر بين التعيين _خصوص الموافقة الظنية_ وبين التخيير _بان يعمل بالموافقة الاحتمالية_ في عالم الامتثال.

فيقولون: تجري البراءة عقلا بناء على الموافقة الظنية، وإذا لم نقل بالبراءة العقلية، تصل النوبة للبراءة الشرعية، إذ لا ندري ان الشارع يهتم أصلاً بالموافقة الظنية؟ أو لا اثر له إذا تعذّرت الموافقة القطعية فتجري البراءة الشرعية عن اهتمام الشارع بالموافقة الظنية فوظيفته الموافقة الاحتمالية، ومقتضاها التخيير.

القسم الرابع: ما اذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم، كما اذا تزاحم لدى الطبيب أو لدى الولي انقاذ الأم أو انقاذ الجنين. بمعنى ان الطبيب لا يمكنه انقاذ كليهما، بمعنى انه لابد من انقاذ احدهما وإلا يتلف كلاهما، فدار الأمر بالنسبة اليه بين انقاذ الام وبين انقاذ الجنين، وكان انقاذ الام محتمل الأهمية، باعتبار انها مؤمنة، فبالنسبة إلى الام محتمل الاهمية، لا نحرز الأهمية لكن نحتمل اهمية الأهم ولا نحتمل اهمية الجنين فالجنين اما مساوٍ أو اقل، إلا ان الأم أما مساوٍ أو أهم.

فهنا يدور الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم، هل يتعين انقاذ محتمل الأهمية وهي الأم؟ أم يتخير بين إنقاذها وإنقاذ الجنين؟

فهنا ذكر الاعلام وجوها نقتصر بها على الوجوه الثلاثة في إثبات تعيين محتمل الأهمية:

الوجه الأول: ما تعرض له المحقق النائيني في أجود التقريرات، وقال: ان المقام من باب التمسك بالإطلاق، ولا نحتاج إلى الأصل العملي.

بيان ذلك: اطلاق إنقاذ الجنين، انقذ الجنين، قطعا هذا الإطلاق ساقط، أي لا يحتمل انه يجب إنقاذ الجنين حتى لو انقذ الأم، لأنه بالنتيجة انقاض الأهم اما مساو أو اهم، فلا اطلاق لوجوب اطلاق الجنين حتى لفرض الاشتغال بانقاذ الام، حتما هنا لا اطلاق له، إنما الشك في العكس، هل ان قوله «انقذ الام» باق على اطلاقه؟ يعني يقول: انقذ الأهم وإن اشتغلت بإنقاذ الجنين أو اسقط اطلاقه. فالاول اطلاقه ساقط لا محالة لانه لا يحتمل اهميته. بينما الثاني حيث يحتمل اهميته نحتمل بقاء اطلاقه، فنتمسك بإطلاقه لإثبات وجوب الانقاذ. فتعين محتمل الأهمية هو من باب التمسك باطلاق الخطاب.

ولكن اشكل على ذلك من قبل العلمين: السيد الشهيد والسيد الأستاذ:

بان هذا من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، والوجه في ذلك:

ان ما هو المقيد لإطلاق الخطاب ليس هو جنين وأم، هذه صغريات وليس في الخطابات مثل هذه التقييدات، فالخطاب الوارد على نحو القضية الحقيقية وهو ان تنقذ النفس المحترمة لا مقيد له لبا وارتكازا الا عدم الاشتغال بالاهم أو المساوي، فهو يقول: كأيِّ واجب من الواجبات: انقذ النفس المحترمة إلا إذا اشتغلت بالأهم أو المساوي، انقذ النفس المحترمة إلا إذا اشتغلت بما لا يقل أهمية. هذا هو المقيد اللبّي. فاذا شككنا هل ان الاشتغال بانقاذ الجنين اشتغال بالمساوي أم لا؟ فإن كان اشتغالا بالمساوي إذن خطاب «انقذ الام» ساقط، ان لم يكن فليس بساقط، فالتمسك بالإطلاق، أي اطلاق انقذ الأم حتى بالاشتغال بانقاذ الجنين تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية لانه مقيد بأن لا يشتغل بالمساوي ولعل ما اشتغل به مساوي.

إذن هذا الوجه غير تام.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي «قده» في مصباح الاصول: من انه على فرض عدم تمامية التمسك بالاطلاق ووصول النوبة إلى الاصل العملي، فإن المورد من موارد الشك في السقوط والشك في السقوط مجرى لقاعدة الاشتغال وليس لأصالة البراءة. بيان ذلك: أننا بعد أن علمنا بتكليف فعلي وهو انقاذ النفس المحترمة، فمقتضى الاشتغال اليقيني الفراغ اليقيني أي ان نقطع بالأمن من العقوبة، فإن انقذنا الأمر قطعا بالامن قطعا، بينما اذا انقذنا الجنين لا نقطع بالامن بالعقوبة إذ لعله أقل أهمية، فحيث إن في الاشتغال بإنقاذ الأم قطعا بالأمن من العقوبة بخلاف الاشتغال بإنقاذ الجنين فهو مشكوك فمقتضى حكم العقل: بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ، أي يقتضي القطع بالأمن من العقوبة هو الاشتغال بمحتمل الاهمية.

ولكن هذا مبني منه على ان القيد قيد في السقوط، وأمّا لو قلنا قيد في الحدوث فيكون من موارد الشك في التكليف لا من موارد الشك في السقوط، بمعنى انه اذا حصل تزاحم بين تكليفين، فالاشتغال بالمساوي يمنع حدوث التكليف بمساويه لا انه يسقطه، لا ان هناك تكليفا فعليا بالمساوي لكن اذا اشتغلت بمساويه سقط، بل أن عدم الاشتغال بالمساوي شرط في حدوث التكليف بالمساوي لا انه شرط في البقاء، فما دمنا نحتمل ذلك إذن لعل الاشتغال بإنقاذ الجنين يمنع من أصل حدوث التكليف بإنقاذ الأم، وبالتالي فمع الاشتغال به يكون الشك شكاً في حدوث التكليف بإنقاذ الأم، وبالتالي فما دام الشك في الحدوث فهو مجرى للبراة لا بالاشتغال.

الوجه الثالث: ما ذكره العلمان السيّد الشهيد «قده» والسيّد الأستاذ «دام ظله»: بأن إطلاقات أدلة التكاليف مقيّدة بمقيّد ارتكازي عقلائي، وإذا رجعنا إلى ذلك المرتكز العقلائي نجده لا يدور مدار مساوي أو أهم، وإنما يدور مدار مرجح. بيان ذلك:

كل تكليف مطلق، خطابه مطلق، جاء المرتكز العقلائي قيد التكاليف بمقيّد، قال: كل تكليف مقيّدٌ بأن لا تشتغل بما له مرجح عقلائي، كل تكليف مقيد بأن لا تشتغل بما له مرجح عقلائي.

فنرجع إلى العقلائي لمعرفة المرجح فالعقلاء يقولون: إذا احرزت ان الثاني أهم كان الأشتغال به بما له مرجح، أو أحرزت بأنه مساوٍ فلا مرجح لاحدهما على الآخر فأنت مخيّر، وإن احتملت ان الثاني أهم فالاشتغال به ايضا لا يزيد على عدم المرجح.

إذن بالنتيجة: نقول: اذا اشتغل بإنقاذ الأم الذي هو محتمل الأهمية قطعاً لم يشمله خطاب انقذ الجنين. لأنه اشتغل بما له مرجح عقلائي، وإذا اشتغل بإنقاذ الجنين فيشك انه اشتغل بما له مرجح عقلائي أو بما ليس له على الأقل مرجح، فحينئذٍ يتعين الاشتغال بإنقاذ محتمل الأهمية.

ولكن الكلام كله في الصغرى: المقيّد الارتكازي العقلائي ان كل خطاب مقيد بأن تشتغل بما له مرجح أو ما ليس له مرجح، وإحراز الأهمية مرجح، وإحراز المساواة عدم مرجح. أمّا هل احتمال الأهمية داخل في المرجح العقلائي أم لا؟ هذا أول الكلام. وبالتالي نحتاج إلى وجه صناعي في تقديم محتمل الأهمية على غيره وهو محل تأمل.

والحمد لله رب العالمين