الدرس 119

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين يتصور على أقسام أربعة: وكان الكلام في:

القسم الرابع: وهو ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم، كما إذا كان احد المتزاحمين محتمل الأهمية، وذكرنا هناك بأنه: إذا دار الأمر بين إنقاذ الأم أو إنقاذ الولد وكان إنقاذ الأم محتمل الأهمية، فقد ذكر بعض الأعلام بأنه: يقدم محتمل الأهمية تمسكا بإطلاق دليله. ووجه ذلك: بأن كل إطلاق فله مقيد لبيّ ببناء المرتكز العقلائي، وهذا المقيد اللبي هو ان لا تصرف قدرتك فيما يعلم أهميته أو ما يحتمل اهميته، أو ما يتساويان. فكأن المقيد اللبي العقلائي مفصّل على طبق ما نرى، فالمرتكز العقلائي يقول: كل واجب، يجب صرف قدرتك في امتثاله إلا ان تشتغل بما يعلم أهميته أو يحتمل أهميته أو يتساوى، اي ان يعلم مساواته لما وجب عليه.

فبناء على ذلك: لو صرف القدرة في محتمل الأهمية فإن هذا الصرف عقلائي على طبق المرتكز العقلائي، اما لو صرف القدرة فيما يحتمل مساواته، ويحتمل عدم أهميته، فحينئذٍ العقلاء يقولون: بانك لا تحرز فراغ الذمة من محتمل الأهمية بل مقتضى اطلاق دليله ان لا تفرغ عهدتك بالاشتغال بما يحتمل مساواته.

وهنا السيد الأستاذ «دام ظله» بأنه لا نظر في ادلة التكاليف في هذه التفاصيل، اي تفاصيل باب التزاحم بحيث يلحظ المولى معلوم الأهمية أو محتمل الأهمية أو معلوم المساواة، فيقيد كل تكليف بأن لا تصرف قدرتك في معلوم الأهمية أو محتمل الأهمية أو معلوم المساواة، فإن النظر في باب القوانين والتشريعات بلا تفاصيل باب التزاحم والمقارنة بينها غير عرفية، فالصحيح: ان المقيد اللبي هو كلمة واحدة «ان لا تصرف قدرتك فيما له مرجح لزومي أو مساوٍ، كل واج فعلي في حقك ما لم تصرف قدرتك فيما هو مساوٍ له أو له مرجح لزومي».

هذا التقييد معقول ان يستبطنه التكليف وأما التقييد بمعلوم الأهمية أو محتمل الأهمية أو معلوم المساواة بحيث يقتضي النظر إلى مقارنات باب التزاحم تفصيلاً هذا غير عرفي.

على اية حال لو بينا على ما ذكره السيد الأستاذ «دام ظله» من ان اطلاق كل تكليف فعلي ما لم تصرف قدرتك فيما هو مساوٍ أو له مرجح لزومي، بناء على ذلك نقول:

بانه لا يصح التمسك به في المقام، لأنه في محتمل الأهمية لا ندري ان احتمال الأهمية مرجح لزومي أم لا؟ والمفروض ان الطرف الآخر «غير محتمل الاهمية» يحتمل مساواته ويحتمل انه ليس مساوياً، إذن بالنتيجة: نقول لو صرف قدرته في محتمل الأهمية يحرز امتثال تكليف، هذا لا اشكال، لكن لو صرف قدرته في الآخر الذي يحتمل كونه مساواة ويحتمل كونه أقل فهو شاك في الوجوب، وليس شاكا في الامتثال. بأن يقال: بأنه اطلاق التكليف بما يحتمل مساواته فعلي الا ان تصرف قدرتك فيما له مرجح لزومي، ولا ندري أن صرف القدرة في غيره صرف لما له مرجح لزومي.

إذن بالنتيجة: صحيح لو صرف قدرته في محتمل الأهمية لأيقن بامتثال التكليف، اما لو صرف قدرته فيما يحتمل المساواة فليس من موارد الشك في الامتثال كي يقال عليه ان يرجع إلى محتمل الأهمية أو يتعين عليه محتمل الاهمية، بل هو شك في الوجوب، إذ لعلهما متساويان وبالتالي لم يجب عليه محتمل الأهمية من الأساس.

هذا تمام الكلام في هذه الأقسام الاربعة. ونصل إلى ما هو محل البحث لديهم، وهو:

اذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في التكليف _لا في الحجية ولا في التزاحم ولا في الامثال_.

وقد ذكروا له صوراً ثلاث:

الصورة الأولى: محصّلها:

إذا علم المكلف بوجوب فعل وشك في سقوط الوجوب بفعل اخر لاحتمال انه واجب تخييري، مثلا: المكلف افطر متعمدا ويقطع بوجوب صوم شهرين متتابعين، ولكن لا يدري هل اطعام ستين مسكين مسقط أم لا؟

لعل وجوب صوم شهرين متتابعين وجوب تعييني فلا يسقط، لعل وجوب شهرين متتابعين وجوب تخيير فيسقط، فالأمر دائر بين التعيين والتخيير بحسب التكليف، هل يتعين عليّ صوم شهرين متتابعين أو انا مخير بينه وبين اطعام ستين مسكيناً.

فهنا تتبين النتيجة بعرض المسالك في حقيقة الوجوب التخييري، فلابد ان نرجع إلى المسالك المذكورة في حقيقة الوجوب التخييري ليتبين لنا ان نتيجتها الاحتياط أو البراءة في المقام.

المسلك الاول: ما نسب إلى المشهور واختاره المحقق النائيني «قده» من أنّ الوجوب التخييري مرجعه إلى وجوب كل من العدلين ولكن بقاء كل من الوجوبين مشروط بعدم فعلي الآخر، ففعل الآخر مسقط لا انه شك في التكليف، فاذا فرضنا ان صوم الشهرين واجب تخييري فمعناه يجب صوم شهرين ويجب اطعام الستين مسكين، ولكن بقاء كل من الوجوبين مشروط بعدم فعل الآخر بحيث لو تركت كليهما لكان عليك وجوبان فعليان لتحقق شرط كل منهما، فوجوب كل منهما فعلي وبقاءه مشروط بعدم الآخر فلو ترك الجميع لكان الوجوبان باقيين في حقه.

بناء على هذا المسلك: افاد الميرزا النائيني: اذن على هذا المسلك إذا شككتم في ان وجوب صوم شهرين تعييني أو انه تخييري وإن كان تخييري فيسقط بالاطعام إذن بعدم الإتيان بالاطعام يكون الشك شكا في السقوط، والشك في السقوط مجرى لأصالة الاشتغال، اذن على هذا المبنى يكون الاتيان بالاطعام شكا في السقوط والشك في السقوط مجرى للاشتغال.

فعلى مبنى النائيني متى ما دار الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضى الأصل هو التعيين لأنه شك في السقوط.

ولكن، لو سلّمنا المبنى فقد ذكرنا عدة مرات، ان الشك في السقوط غير الشك في الامتثال، يوجد خلط عن الطلبة في هذه النقطة كثيرا، يظنون ان الشك في السقوط يعني شك في الامتثال! ما هو مجرى للاشتغال الشك في الامتثال لا الشك في السقوط، لأن الشك في الامتثال معناه ان التكليف واضح سعة أو ضيقاً. مثلا: إذا كان المكلف في فترة طاهراً وكان في فترة محدثاً ولا يدري ايهما المتقدم وصلى، لا يستطيع استصحاب الطهارة، لا يستطيع استصحاب الحدث، لتوارد الحالتين، هنا المكلف يكون شكه شكاً في الامتثال محضاً وليس شكا في التكليف ومقتضى الشك في الامتثال الاشتغال.

اما إذا علم المكلف انه تجب عليه صلاة الجنازة وقام الصبي المميز وصلى على الجنازة، فهذا من موارد الشك في السقوط، هل ان فعل الصبي مسقط للوجوب المتوجه للبالغ أم لا؟ والشك في السقوط شك في التكليف لأنه شك في سعة التكليف، لانني اشك من اول الأمر هل ان المولى في عالم الجعل قال يجب على البالغ الصلاة على الجنازة ما لم يصلي عليها الصبي؟!. أو هذا الشرط غير موجود، فهو ليس شكا في الامتثال وانما شك في سعة التكليف.

فان قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما عليه المشهور فنستصحب بقاء التكليف.

وأما إذا لم نقل بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما هو الصحيح والمختار، إذن إذا لم يجري الاستصحاب في الشبهة الحكمية استصحاب بقاء التكليف لا يجري تصل النوبة للبراءة، للبراءة عن فعلية التكليف بصلاة الجنازة بعد صلاة الصبي المميز، فما ذكره المحقق النائيني ليس من موارد قاعدة الاشتغال.

المسلك الثاني: ما ذكره المشهور _لا ما نسب _ وتعرض له في الكفاية: من ان مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب كل من العدلين مشروطا بعدم الآخر بحيث يكون عدم الآخر شرطا بالحدوث لا شرطا في البقاء، وجوب صوم الشهرين اصل الوجوب مشروط بعد الاطعام، وجوب الاطعام مشروط بعدم الصوم، وجوب احدهما مشروط بعدم الآخر. ففعل كل منهما مانع من حدوث تكليف بالآخر لا أنه مسقط له. _لا نريد ان نناقش في المبنى بل نريد ان نرتب الاثر على المبنى_ فعلى هذا المبنى يقال:

المقام من موارد العلم الإجمالي المنجز، لأنه ان كان وجوب الصوم تعييني فوجوبه فعلي حتى مع الاتيان بالاطعام، وإن كان وجوب الصوم تخييري فعند تركه يكون وجوب الاطعام فعليا اذن انا اعلم اجمالا اما يجب الصوم حتى مع الاطعام أو يجب الاطعام عند ترك الصوم، فلدي علم اجمالي منجز، اذن إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير على المسلك الثاني وهو اشتراط كل من الوجوبين بعدم الآخر على هذا المسلك إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضى الأصل التعيين لمنجزية العلم الإجمالي، اما يجب الصوم حتى مع الاطعام، أو يجب الاطعام عند ترك الصوم. ولكن هذا العلم الاجمالي منجز بناء على مسلك العليّة.

وأما بناء على مسلك الاقتضاء فتجري البراءة عن وجوب الصوم بلا معارض. فاذا افترضنا ان المكلف فعل الاطعام ويشك في وجوب الصوم عند فعل الاطعام، هنا يجري البراءة، ولا تعارضها البراءة عن وجوب الاطعام مطلقا، لأنه إذا اراد ان يجري البراءة عن وجوب الاطعام، متى يجريها؟ هل يجريها في فرض فعل الصوم، قطعا غير واجب، إذا فعل الصوم فقطعا الاطعام غير واجب، أو يجريها عند ترك الصوم؟ فيعلم بالمخالفة القطعية، ترك الاطعام بعد ترك الصوم مخالفة قطعية جزما، اذن تجري البراءة عن وجوب الصوم عند فعل الاطعام، ولا تعارض بالبراءة عن وجوب الاطعام لأنك متى ما تريد ان تجري البراءة عن وجوب الاطعام؟ هل تريد اجرائها عند فعل الصوم؟ معلوم عدم الوجوب، هل تريد اجرائها عند ترك الصوم؟ هذا فرض المخالفة القطعية فلا اثر للبراءة حينئذٍ.

فاذا لم يكن للبراءة عن وجوب الصوم عند فعلي الاطعام معارض انحل العلم الاجمالي حكماً.

المسلك الثالث _في حقيقة الواجب التخييري_: ما ذهب اليه المحقق العراقي «قده»:

حقيقة الواجب التخييري هي مطلوبية سد باب العدم لا مطلقا، فإن الواجب اما تعييني إذن المطلوب سد ابواب عدمه مطلقا، يجب عليك تعيينا الصوم، يعني عليك ان تسد جميع النوافد الذي تؤدي إلى الصوم، سد ابواب العدم مطلقا، اما إذا قلنا بأن وجوب الصوم تخييري، فكأن الشارع يقول: يجب عليك سد أبواب عدم الصوم الا في فرض فعل الاطعام، ويجب عليك سد ابواب عدم الاطعام الا في فرض الصوم، فالوجوب ليس وجوبا تاما بل وجوب ناقص، حيث يقول المحقق العراقي مرجع الوجوب التخييري إلى وجوبين ناقصين قاصرين، لا يمتد كل منهما لفرض فعل الآخر، فأنا لا أقول بأن وجوب كل منهما فعلي والآخر مسقط، ولا اقول بأن وجوب كل منهما مشروط في اصل حدوثه بترك الاخر، بل اقول بوجوبين قاصرين ناقصين لا يمتد كل منهما لفرض فعل الآخر.

فعلى مسلك العراقي: ما هو مقتضى الاصل هنا؟ إذا الأمر بين التعيين والتخيير، لا ندري هل يجب الصوم تعيينا أو أننا مخيرون بين الصوم والإطعام؟

بعبارة أخرى: لا ندري هل يجب سد ابواب عدم الصوم مطلقا؟ أو لا يجب سد ابوابه عند فعل الاطعام؟

فعلى هذا المبنى للعراقي قد يقال كما قلنا على المسلك الثاني: بوجود علم اجمالي منجز، لأننا نعلم بالنتيجة إما يجب سد أبواب عدم الصوم اما مع عدم فعل الاطعام، أو يجب سد أبواب عدم الإطعام عند ترك الصوم؟! اما يجب الصوم حتى في فرض فعل الاطعام أو يحرم ترك الاطعام ترك الاطعام عند ترك الصوم؟!.

والجواب: بأن هذا العلم الاجمالي منجز بناء على مسلك العليّة. فاذا جمعنا بين مبنيين للعراقي، من جهة يقول: بأن حقيقة الوجوب التخييري الوجوب الناقص، من جهة يقول: بأن منجزية العلم الاجمالي على نحو نحو العلية. فاذا جمعنا بين مسلكي العراقي: كانت النتيجة أنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضى الاصل التعيين.

لكن بناء على الاقتضاء كما ذكرنا تجري البراءة عن وجوب الصوم عند فعل الاطعام ولا تعارض بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام عند ترك الصوم، لأن ترك الاطعام عند ترك الصوم فرض في المخالفة القطعية فلا اثر لجريان البراءة فيه فتجري البراءة في الطرف الاول بلا معارض.

المسلك الرابع _ في حقيقة الوجوب التخييري_: وهو المسلك الصحيح وفاقاً لسيدنا الخوئي «قده»: من ان مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع. فاذا قال المولى: انت مخير بين صوم واطعام فكأنه قال: يجب عليك احدهما، يجب عليك الجامع، فليس هناك وجوبان شرط أصل كل منهما بترك الآخر أو شرط بقاء كل منهما بفعل الآخر، أو أن هذين الوجوبين قاصران ناقصان، ليس عندنا الا وجوب واحد متوجه للجامع وهو احدهما.

فبناء على هذا المسلك: إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فما هو مقتضى الاصل؟ بناء على هذا المسلك الرابع، من ان الوجوب التخيير وجوب للجامع.

فاذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فمرجع ذلك إلى ان الواجب اما الجامع أو الخصوصية، أي يدخل المقام في باب الاقل والاكثر. على مبنى السيد الخوئي في حقيقة الوجوب التخييري يكون دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر أصلاً، اما الجامع أو الخصوصية، والجامع على كل حال متيقن وإنّما الشك في الخصوصية. فتجري البراءة عن تعين الصوم «الخصوصية» بلا معارض، إذ لا معنى لجريان البراءة عن وجوب الكلام.

لكن السيد الشهيد «قده» قال حتى على هذا المبنى وهو المبنى الصحيح في حقيقة الوجوب التخييري لا تجري البراءة.

والحمد لله رب العالمين