الدرس 120

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، كما إذا دار الأمر بين تعين الصوم، أو التخيير بينه وبين الإطعام. وقد قلنا أنّ النتيجة تختلف باختلاف المسالك في حقيقة الوجوب التخييري، ووصل الكلام إلى أنه بناء على أنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع وهو عنوان أحدهما، فهل ينحل العلم الإجمالي وتجب البراءة أم لا؟

فهنا أُفيدت عدة وجوه لمنع انحلال العلم الاجمالي حتى بناء على أنّ مرجع الواجب التخييري إلى وجوب الأحد:

الوجه الأول: ما أفاده السيد الشهيد «قده». ومحصّله: إذا الأمر بين وجوب الصوم تأمينا أو وجوب احدهما من الصوم والإطعام، فالأمر دائر بين الصوم أو عنوان الأحد، وهذا من الدوران بين المتباينين، لا من الدوران بين الأقل والأكثر، بلحاظ ان بين مفهوم احدهما ومفهوم الصوم تبايناً فالدوران بينهما من دوران الأمر بين المتباينين. فإن بنينا على مسلك العلية كان العلم الإجمالي منجزاً، لأنه علم بأحد متباينين أما الداخل في العهدة احدهما أو الداخل في العهدة خصوص الصوم، نعم على مسلك الاقتضاء ينحل العلم الاجمالي حكما بجريان البراءة في احد الطرفين بلا معارض، ففي المقام: إذا دار الأمر بين الصوم أو احدهما جرت البراءة عن الصوم بلا معارض، وانه لا معنى لجريان البراءة عن عنوان احدهما، إذ ما هو الغرض من جريان البراءة من عنوان احدهما؟ هل الغرض من ذلك هو تعيين ان الواجب هو الصوم؟ فهذا اصل مثبت. أو ان الغرض من ذلك الترخيص في ترك كليهما، هذا ترخيص في المخالفة القطعية. فجريان البراءة عن الجامع لا وجه له، لأن الغرض من البراءة اما إثبات وجوب الصوم الذي هو الطرف الآخر فهو اصل مثبت، أو الترخيص فهو ترخيص في المخالفة القطعية، فتجري البراءة عن تعين الصوم بلا معارض. وهذا هو معنى التوسط في التنجيز. أي لو كان الواقع هو الصوم لتنجز الصوم لا بعنوانه بل بعنوان أحدهما، فهو متنجز واقعاً لكن لا بعنوان الصوم بل بعنوان احدهما، وهذا هو معنى «التوسط في التنجيز».

ويلاحظ على ذلك:

أنه «قده» في بحث الأقل والأكثر ذكر انه ليس المناط في الدخول في العهدة على العنوان الامتثال، وانما المناط على منشأ الانتزاع، فمثلاً: في باب الأقل والأكثر لو قال قائل الواجب يدور بين تسعة اجزاء وعشرة اجزاء، وبين عنوان التسعة وعنوان العشرة تباين في المفهوم، فكيف قلتم بالانحلال هنا؟ مع ان هنا تغايرا في المفهوم بين التسعة والعشرة؟! لأننا لا ندري ما الذي دخل في العهدة التسعة أو العشرة؟

قال: ان عنوان التسعة وعنوان العشرة عنوانان انتزاعيان، وليس العبرة في الدخول في العهدة العنوان الانتزاعي، بل بمنشأ انتزاعه، فإذا رجعنا لمنشأ الانتزاع قلنا: لا ندري هل دخل في العهدة التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام وشككنا في جلسة الاستراحة مثلاً. إذن دوران الأمر بين تسعة وعشرة هذا لا دخل له فيما تنشغل به العهدة بل نرجع لمنشأ الانتزاع، فنقول: قطعا اشتغلت العهدة بتكبير وقراءة وركوع وسجود وتشهد وسلام، وإنما نشك في اشتغال العهدة بجلسة الاستراحة فحصل انحلال حقيقي بلحاظ منشأ الانتزاع، ولم يصبح الأمر دائر بين متباينين. وفي المقام، نقول: هل يمكن تصوير ذلك؟

أي ان نقول بين عنوان احدهما وبين الصوم هل يوجد انحلال حقيقي بلحاظ ما يدخل في العهدة؟ بحيث نقول: لا يتنجز العلم الاجمالي هنا حتى بناء على مسلك العلية.

قد يجاب عن ذلك: بأنه في المقام لا يوجد، لأن منشأ الانتزاع هناك عنوان معين، وهو ركوع وسجود وتشهد، فاذا كان منشأ الانتزاع عنوانا معينا قبل هذا العنوان المعين الدخول في العهدة وشك في دخول العنوان الآخر، اما إذا لم يكن منشأ الانتزاع عنوان معين، كما في المثال: إذا دار الأمر بين الصوم أو احدهما وقلنا بأن احدهما عنوان انتزاعي، نرجع إلى منشأ انتزاعه، ليس منشأ انتزاعه عنوان معين، لأن منشأ انتزاعه الصوم والاطعام، فإن الذهن إذا لاحظ الصوم أو الاطعام انتزع منه عنوان احدهما، فاذا لاحظتم منشأ الانتزاع فمنشأ الانتزاع ليس عنوانا معينا، لأننا لا ندري أصلاً هل الصوم أم الاطعام؟ فليس هناك عنوان معين دخل في العهدة كي يشك في الزائد فيحصل الانحلال. إذن الفرق بين باب الأقل والأكثر وبين محل الكلام:

انه في باب الأقل والاكثر: منشأ الانتزاع عنوان معين قطعنا بدخوله في العهدة وهو الركوع والسجود والقراءة. بينما منشأ الانتزاع هنا لعنوان احدهما ليس عنواناً معيناً قطعنا بدخوله في العهدة، بل منشأ الانتزاع صوم وإطعام، وكل منهما لا نحرز دخوله في العهدة. قد يقال هكذا.

ولكن يقال: ليس المدار في الدخول في العهدة على ان يكون العنوان معين، المهم ان منشأ الانتزاع نقطع باستحقاق الادانة عليه، متى ما كان منشأ الانتزاع مما يقطع باستحقاق الادانة عليه ويشك في استحقاق الادانة على شيء آخر، حصل الانحلال الحقيقي بلحاظ ما يدخل في العهدة.

فعند تحليل المطلب: نقول دار الأمر بين وجوب الصوم بعينه أو وجوب احدهما، واحدهما مجرد عنوان انتزاعي فاذا كان عنوانا انتزاعيا فهو بما هو عنوان وبما هو مشير مما لا يدخل في العهدة، فنرجع إلى منشأ انتزاعه، منشأ انتزاعه لا نستطيع تحديده. هذا أو هذا؟!

لكننا نقول بالنتيجة منشأ انتزاع عنوان احدهما مما نقطع بأن تركه موجب لاستحقاق العقوبة، لأن منشأ انتزاع احدهما كليهما، وترك كليهما موجب لاستحقاق العقوبة حتماً، فبما ان منشأ الانتزاع مما نقطع باستحقاق العقوبة على تركه حتماً ونشك في استحقاق العقوبة على ترك عنوان الصوم اذن بالنتيجة حصل الانحلال، فليس المدار في الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم العهدة، أن نضع اصبعنا على عنوان معين، نقول هذا العنوان نقطع بدخوله في العهدة، هذا ليس هو المدار. المدار في الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم العهدة ان نقول: ان المشار اليه _ولو لم نستطع تحديده_ مما نجزم بإدانته أي مما نشك في استحقاق العقوبة على تركه. إذا دار الأمر بين احدهما أو الصوم بعينه، نقول: لا محالة نجزم بأن في ترك أحدهما لا احدهما المردد، نجزم في ترك احدهما باستحقاق للعقوبة، ونشك في الادانة على عنوان الصوم، إذن فيحصل انحلال حقيقي بلحاظ عالم العهدة فتجري البراءة العقلية عن تعيّن الصوم.

الوجه الثاني: ما افاده السيد الاستاذ «دام ظله»: حيث ذهب إلى ان مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التخيير.

وبيان ذلك: في باب الأقل والأكثر ذكرنا: هل أنّ المنجزية عقلية أم عقلائية؟ فإن قلنا بأن منجزية العلم الاجمالي عقلية كما ذهب اليه المشهور من علماء الأصول، فالعلم الإجمالي في باب الأقل والأكثر منجز، لأنه دائر بين متباينين وجوب الاكثر استقلالا أو وجوب الأقل استقلالا، حيث نعلم بوجوب استقلالي إما بالاكثر أو للأقل، وهذا من دوران الأمر بين المتباينين، إذن بناء على ان العلم الاجمالي منجزٌ عقلاً هذا العلم الاجمالي منجز. لكن لاننا هناك بنينا على المنجزية العقلائية فنقول: لا نحرز بناء العقلاء على المنجزية إذا تنجز احد الطرفين بمنجز تفصيلي. فاذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الأقل متنجز تفصيلاً، فحيث إن الأقل منتجز تفصيلا لا نحرز بناء العقلاء على منجزية الاكثر والشك في المنجزية مساوق للقطع بعدهما.

إذن بناء على مسلكنا: من أنّ المنجزية للعلم الاجمالي عقلائية دائماً وليست عقلية، لذلك قلنا في باب الأقل والأكثر: العلم الإجمالي غير منجز، لو كانت عقلية لكان منجزاً، لكن لأنّها عقلائية ليس منجزاً، إذ بعد تجز الأقل بمنجز تفصيلي لا نحرز بناء العقلاء على تنجز الاكثر لا من باب الرجوع إلى البراءة، فهو في هذه النقطة يتحد مع سيد المنتقى «قده»: من أن أدلة البراءة منصرف إلى فرض احتمال التكليف، وأما إذا علم بالتكليف وشك في انطباق المكلف به على هذا أو على هذا، فدليل البراءة منصرف؛ لذلك إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر فنقول: بالانحلال لا من باب جريان البراءة لأن البراءة إنما تجري في فرض احتمال التكليف، أمّا بعد العلم به والتردد في منطبقه هذا ليس من جريانها باحتمال التكليف بل من جريانها في الانطباق، وهذا مما لا معنى له. هذا بالنسبة إلى باب الأقل والاكثر.

اما بالنسبة لمحل كلامنا: إذا دار الأمر بين وجوب الصوم بعينه أو بأحدهما. قالوا: لم يتنجز احد الطرفين بمنجز تفصيلي، فلو تنجز احد الطرفين بمنجز تفصيلي بكما في الأقل والأكثر لقلنا لا نحرز بناء العقلاء على منجزية الآخر بعد تنجز الأول. أما هنا دار الأمر بين الصوم بعينه أو أخدهما، فلم يتنجز أحدهما في حقنا بمنجز تفصيلي كي نقول لا نحرز بناء العقلاء على منجزية الطرف الآخر. فالنتيجة هي الاحتياط.

ولكن يلاحظ على ما افيد مضافا إلى ما ذكرنا في مناقشة الوجه السابق:

من أنّ هذا المدعى ان دليل البراءة منصرف إلى فرض احتمال التكليف ولا يجري عند الشك في الانطباق أي انطباق التكليف المعلوم على كل من الفردين، هذا المدعى محل تأمل. والسر في ذلك: لا موضوعية لاحتمال التكليف، إذا شككنا في تكليف فقلنا بأن دليل البراءة يشمله. لماذا يشمله؟ لأن احتمال التكليف مساوق لاحتمال العقوبة، حيث ان احتمال التكليف مساوق لاحتمال العقوبة بدواً خصوصا على مبناه من ان الإلزام متقوم بالوعيد، فاحتمال الإلزام احتمال للوعيد، إذن بالنتيجة جريان البراءة عند احتمال التكليف لا لموضوعية في احتمال التكليف بل لأن احتمال التكليف احتمال للعقوبة. إذن على هذه النكتة ينبغي ان تقول: دليل البراءة منصرف إلى ما إذا كان احتمال العقوبة بدوياً. باعتبار ان المناط هو احتمال العقوبة، فلو فرضنا انه دار المعلوم بالاجمال بين طرفين احدهما في تركه مخالفة قطعية جزماً، واستحقاق للعقوبة جزماً، إذن فالمقتضي لجريان البراءة في الطرف الآخر تام، كما هو في محل الكلام، فإنه في محل الكلام: إذا علمنا اجمالا بأنه إما الصوم بعينه أو احدهما؟ هو يقول: هنا دليل البراءة منصرف، لأنه عندنا علم في المقام، نعلم بتكليف ونشك في انطباقه لا أننا نشك في التكليف، نحن نعلم بالتكليف نشك في انطباقه، هل ينطبق على الصوم؟ هل ينطبق على الاحد؟ فكيف نجري البراءة؟ المقتضي غير موجود بنظره، لأن الشك في الانطباق وليس الشك في التكليف، قلنا الشك في التكليف لا موضوعية له عرفاً، خصوصا على مبناكم من ان التكليف اصلا قوامه بالوعيد لا بالملاك، إذن بناء على ذلك: مورد دليل البراءة ومنصرفه الشك في التكليف حيث إنه شك في استحقاق العقوبة. فنحن نقول في المقام: إذا علمنا اجمالا باستحقاق عقوبة لكن لا ندري منطبق الاستحقاق، كما إذا دار الأمر بين الظهر بعينها أو الجمعة بعينها؟ كلامكم تام. علمنا باستحقاق العقوبة لكن لا ندري ما هو منطبق الاستحقاق ترك الجمعة أم ترك الظهر. كلامكم تام. أما إذا علما بتكليف وعلمنا باستحقاق عقوبة بين طرفين أحدهما وصف، وعلمنا أن في ترك احدهما مخالفة قطعية جزماً، فإذا كان هذا الطرف مورداً لاستحقاق العقوبة جزماً فهو كما ذكرت في دوران الأمر بين الأقل والأكثر أن الأقل متنجز تفصيلا ولا نحرز بناء العقلاء على تنجز الأكثر بعد تنجز الأقل تفصيلاً. هنا ايضا نقول المقتضي لجريان البراءة الشك في التكليف من حيث كونه شكا في استحقاق العقوبة، فإذا علمنا باستحقاق العقوبة في احد الطرفين انطبق دليل البراءة على الطرف الآخر. يأتي الكلام في الوجه الثالث الذي افاده شيخنا الأستاذ «قده».

والحمد لله رب العالمين