الدرس 121

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، وقلنا بأنه بناءً على أنّ حقيقة الوجوب التخييري هي عبارة عن إيجاد الجامع الانتزاعي وهو عنوان احدهما فهل مقتضى الأصل هو الاشتغال أم البراءة؟ وقلنا بأن هناك وجوهاً لإثبات ان مقتضى الأصل هو الاشتغال بناء على هذا المسلك، وسبق الكلام في وجهين، ووصل إلى الكلام الى:

الوجه الثالث: وهو ما يستفاد من كلمات شيخنا الاستاذ «قده» من أن المدار في تحقيق المعارضة على ملاحظة كون مجرى البراءة ذا ثقل في نفسه وإن لم يكن ذا ثقل مطلقاً. بيان ذلك:

إذا دار الأمر بين وجوب الصوم بعينه أو وجوب الجامع بين الصوم والإطعام، أي بين الصوم أو احدهما. فقد يقال: بأن احدهما توسعة فليس مجرى للبراءة، ولكن الصحيح أن تحديد مجرى البراءة إنما هو بملاحظة كون مجراها ذا ثقل في نفسه بلحاظ عدمه، لا ذا ثقل مطلقاً وهنا إذا لاحظنا وجوب الصوم بعينه فهو ذو ثقل على كل حال، وإذا لاحظنا عنوان احدهما فهو بالنسبة إلى عدمه ذو ثقل وإن كان بالنسبة إلى الصوم ليس ذا ثقل، فإذا نظرنا إلى ايجاب احدهما في مقابل عدم ايجاب شيء فهو ذو ثقل، واما إذا نظرنا إلى إيجاب أحدهما مقابل إيجاب الصوم فهو ليس ذات ثقل، والمناط في جريان البراءة: أن يكون موردها ذا ثقل بلحاظ عدمه، لا ذا ثقل بلحاظ جميع المحتملات. فلأجل ذلك نقول: إذا دار الأمر بين وجوب الصوم بعينه فهو ذو ثقل، مجرى البراءة، أو وجوب أحدهما فهو ذو ثقل بلحاظ عدمه فهو مجرى البراءة، فتتعارض البراءتان ويكون العلم الإجمالي منجزاً. نظير ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في دوران الأمر بين الشرطية والمانعية: وهو انه هل يشترط في الساتر الحيواني كونه مما يؤكل؟ أو أن لبس ما لا يؤكل مانع؟ فهذا بحث في مسألة اللباس المشكوك يدور الأمر بين الشرطية والمانعية، هل ان لبس ما لا يؤكل إذا كان حيواناً شرط؟ أو أن لبس ما لا يؤكل مانع؟

فإذا دار الأمر بين الشرطية والمانعية فهناك افاد المحقق النائيني «قده» في رسالته «اللباس المشكوك» ان هذا العلم الاجمالي غير منجز، أي العلم بأن الشارع إمّا جعل المانعية لما لا يؤكل أو جعل الشرطية لما يؤكل إن كان اللباس حيوانياً، يقول هذا العلم الإجمالي غير منجز؛ لأنه تجري البراءة عن الشرطية بلا معارض، والسر في ذلك:

أن المحتمل ذا الثقل هو الشرطية واما المانعية فليس ذات ثقل لأنه لو كان المجعول هو الشرطية، فيلزم احرازه في فرض الشك إذ لابد من احراز الشرط فيه لأجل انجاز المشروط، فلو أن المكلف شكَّ في ان هذا الثوب، هذا الثوب حيواني لكن لا ادري انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، لكن عليه ان يحرز انه مما يؤكل، فلو كان المجعول الشرطية لكان اثر جعل الشرطية لزوم الإحراز عند الشك في الامتثال، إذ لابد من احراز الشرط من اجل احراز المشروط، اذن اصبح جعل الشرطية ذا ثقل، بينما لو كان المجعول هو المانعية بأن قال الشارع لبس ما لا يؤكل مانع، يكفي الشك في صحة الصلاة، أي بمجرد ان يشك أن هذا الثوب مانع أم ليس بمانع صحت صلاته، لأن احراز المانع هو المبطل فالشك في المانع يكفي في صحة الصلاة، فجعل الشرطية ذو ثقل بينما جعل المانعية ليس ذا ثقل، إذن لا معنى لجريان البراءة عن المانعية، لأنها ليست ذات ثقل فتجري البراءة عن الشرطية بلا معارض، وحينئذٍ ينحل العلم الاجمالي بأن المجعول إما الشرطية وإما المانعية. هكذا افاد المحقق النائيني «قده».

لكن السيد الخوئي أجاب: تارة ننظر إلى المسألة بلحاظ عالم الجعل، وتارة ننظر إلى المسالة بلحاظ عالم الامتثال.

فاذا نظرنا إلى المسألة بلحاظ عالم الجعل: كل منهما ذو ثقل مع غمض النظر عن عالم الامتثال، لأن كليهما تقييد، إذ كما أن مرجع الشرطية إلى التقييد بأن يقول الشارع: يشترط في صحة صلاتك إذا كان الثوب حيوانيا أن يكون مما يؤكل. هذا مرجعه إلى تقييد الصلاة بكون الثوب مما يؤكل إن كان حيوانياً.

وإن كان المجعول هو المانعية، فهو أيضاً تقييد غايته انه تقييد عدمي، فيقول: مرجع جعل مانعية ما لا يؤكل إلى تقييد الصلاة بعدم ما لا يؤكل، وكلاهما تقييد والتقييد في نفسه ذو ثقل. فلو نظرنا إلى عالم الجعل فإن كلا المحتملين ذو ثقل، فكل من المحتملين في نفسه مجرى للبراءة فتتعارض البراءتان فيكون العلم الإجمالي منجزاً.

وأما إذا نظرنا لعالم الامتثال: فهنا يأتي كلام النائيني حيث يقول: إنّ الأثر المترتب على الشرطية في عالم الامتثال انك لو شككت للزم احراز الشرط، بينما الأثر المترتب على المانعية في عالم الامتثال أنك لو شككت تمضي في صلاتك. فيقول سيدنا الخوئي «قده» صحيح بلحاظ عالم الامتثال الشرطية ذات ثقل وليست المانعية لكن ليس هذا هو المدار في جريان الاصول، فإن المنظور في جريان الأصول هو عالم الجعل لا عالم الامتثال، بلحاظ أن هذه الكلفة المترتبة على الشرطية في عالم الامتثال كلفة عقلية وليست كلفة جعلية، يعني العقل يقول: ان كان المجعول في حقك هو الشرطية فإذا شككت في الثوب فالشك شك في المحصل والشك في المحصل مجرى للاشتغال، هذا حكم عقلي، فهذه الكلفة المترتبة على جعل الشرطية كلفة عقلية لا شرعية، والكلفة العقلية ليست مجرى للاصول الشرعية، إذن المناط في جريان البراءة الشرعية هو الشك في الجعل، بأن يكون المجعول المحتمل ذا ثقل في نفسه بلحاظ عدمه وهذا متوفر فيما إذا دار الأمر بين الشرطية والمانعية. وأيّده شيخنا الأستاذ هناك في هذا المطلب وبنى عليه في هذا البحث: أنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير بناءً على أن مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب احدهما، انه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير يعني دار الأمر بين الصوم بعينه أو الجامع بين الصوم وبين الإطعام، يقول: كل منهما مجعول ذو ثقل في نفسه مع غمض النظر عن عالم الامتثال، فكل منهما مجرى للبراءة في نفسه فتتعارض البراءتان فيكون العلم الإجمالي منجزاً.

ولكن يلاحظ على ما أفيد «قده»:

أولاً: بأنه مجرى البراءة في أطراف العلم الاجمالي كل طرف بما هو مقرون بالعلم الاجمالي لا بما هو في نفسه مع غمض النظر عن العلم الاجمالي، فلأجل ذلك بما ان مجرى البراءة في اطراف العلم الاجمالي كل من الطرفين بما هو مقترن بعلم إجمالي، نقول: العلم الاجمالي هو عبارة عن دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فالتعيين ذو ثقل، واما التخيير بإزاء التعيين فليس ذا ثقل فذاك مجرى للبراءة بلا معارض، لا معنى لإجراء البراءة عن التخيير بأنه شك بدوي مجرد عن العلم الاجمالي، إذ ما دام مجرى البراءة كل من الطرفين بما هو مقرون بالعلم الاجمالي فلابد ان يلحظ طرفاه العلم الاجمالي وطرفاه تعيين وتخيير ولا معنى لجريان البراءة عن التخيير لأنه توسعة فتجري البراءة عن التعيين بلا معارض.

وبعبارة صناعية: كلامنا في الإطلاق الأحوالي لدليل البراءة لا في الإطلاق الأفرادي، بمعنى: جريان البراءة في كل منهما في نفسه، بل هل ان لدليل البراءة اطلاقاً ليجري في هذا حتى مع لحاظ ذاك وجريان البراءة في ذاك حتى مع لحاظ هذا أم لا؟ فبما ان المنظور هو الإطلاق الاحوالي إذن بالنتيجة يقال: جريان البراءة في التخيير بإزاء التعيين مما لا معنى له فتجري البراءة عن التعيين بلا معارض.

ثانياً: ذكرنا في بحث اللباس المشكوك تأييد كلام المحقق النائيني «قده» وأنه إذا دار الأمر بين شرطية ما يؤكل ومانعية ما لا يؤكل فإن البراءة عن شرطية ما يؤكل تجري بلا معارض، والسر في ذلك: أنّه ما هو الغرض من جريان البراءة عن المانعية؟

جريان البراءة عن الشرطية ينتج أنه لا يلزمك احراز الشرط عند الشك، واضح جريان البراءة يترتب عليه أثر. جريان البراءة عن المانعية ما هو الغرض منه؟

إن كان الاثر أو الغرض هو الترخيص فيما علم انه مما لا يؤكل؟! فهذا ترخيص في المخالفة القطعية، لأنه إذا علمنا أنّ الثوب مما لا يؤكل فلا تصح الصلاة فيه على كل حال قلنا بالشرطية أم قلنا بالمانعية، على أية حال لا تصح الصلاة إذا أحرز انه مما لا يؤكل. اذن المسالة في المشكوك.

واما إذا كان الغرض من جريان البراءة عن المانعية الترخيص في الصلاة لي المشكوك وهي لا تعارض البراءة عن الشرطية في هذا الفرض. لأنك لو أجريت البراءة عن الشرطية والبراءة عن المانعية في فرض الشك في اللباس لم يلزم من جريانها الترخيص في المخالفة القطعية، بل ليس هناك الا مخالفة احتمالية.

فإذن فما هو المنظور عن جريان البراءة عن المانعية؟

المنظور في جريان البراءة عن الشرطية واضح، جريان البراءة عن الشرطية يعني لا يلزم الإحراز عند الشك في الثوب، الاحتياط غير لازم شرعاً.

أمّا جريان البراءة عن المانعية ما الذي نريد ان نرتب عليه من أثر؟ هل الأثر الترخيص في الثوب الذي نشك فيه انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل؟! فهذا ترخيص في المخالفة القطعية. هل الأثر في الترخيص في الثوب الذي نشك فيه أنه مما يؤكل أو مما لا يؤكل؟ تجري بلا مانع، إذ لو أجرينا البراءة هنا فأجرينا البراءة عن الشرطية في مثل هذا الفرض لا يلزم من جريانهما الترخيص في المخالفة القطعية، غايته المخالفة الاحتمالية. إذن بالنتيجة لا جدوى في جريان البراءة في فرض الشك ما دام هناك مؤمّن ولو البراءة عن الشرطية، فتجري البراءة عن الشرطية بلا معارض.

هذا تمام الكلام بناء على أن الوجوب التخييري هو جعل كل من الوجوبين مشروطا بعدم الآخر أو جعل الجامع. قلنا على الوجه الأول ذكرت وجوه لإثبات الاشتغال. على الوجه ذكرت وجوه لإثبات الاشتغال.

بقي في كلمات الأعلام وجهان لإثبات الاشتغال على كل حال _ على جميع المباني في حقيقة الوجوب التخييري_:

الوجه الأول: ما قرّب به كلام صاحب الكفاية «قده» من أنه قد يكون في كل من العدْلين ملاك لازم. لكن الإتيان بكل منهما مانع من استيفاء الآخر. مثلاً: قد يكون في الجمعة ملاك ملزم وفي الظهر ملازم ملزم لكن لو اتى بالجمعة لم يمكنه استيفاء ملاك الظهر، ولو أتى بالظهر لم يمكنه استيفاء الجمعة، فلأجل ذلك الشارع ألزم أحدهما، كل منهما ذو ملاك لكن لا يمكن استيفائهما معاً، فاستيفاء احدهما مانع من استيفاء الآخر، لذلك الشارع يقول: يجب أحدهما بناء على ان الوجوب التخييري إيجاب الجامع. أو يجب الفرد المردد حيث ان من المباني في حقيقة الوجوب التخييري ايجاب الفرد المردد. وثمرته كثمرة إيجاب احدهما كما ما مضى من ذكر الوجوه. أو يقول الشارع يجب هذا ويبقى ان لم تفعل ذاك، ويجب ذاك ويبقى إن لم تفعل هذا، بحيث يكون عدم كل منهما شرطاً في بقاء الوجوب للآخر. بناء على هذا المحتمل الذي طرحه صاحب الكفاية:

لو دار الأمر بين الصوم بعينه وبين الاطعام، فيقول مثلا طالب العلم الدقيق: لا اشكال ان الاشتغال بالصوم استيفاء لملاك فعلي، وأما لو اشتغلت بالاطعام، لعل الاشتغال بالاطعام مانع من استيفاء ملاك الصوم، ولعل الصوم هو الواجب فإذا اشتغلت عنه بالإطعام لم اتمكن من استيفاء الملاك الفعلي، فما دامر الأمر يدور بين استيفاء ملاك فعلي أو احتمال تفويت ملاك للمولى، بحيث لو اشتغلت بالاطعام احتمل انني فوت ملاك المولى. إذن فهذا من موارد الشك في القدرة والشك في القدرة مجرى للاشتغال. إن اشتغلت بالصوم وفيت ملاكاً فعلياً للمولى، واما لو اشتغلت بالاطعام فأشك في قدرتي على استيفاء ملاك المولى بعد الاشتغال بالاطعام، والشك في القدرة مجرى للاشتغال، فمقتضى الاشتغال ان اشتغل بالصوم.

وهذا الكلام قد اجابوا عنه الاعلام، فكما يحتمل ما تقول ان في كل من الفعلين ملاكا يكون استيفاءه مانعاً من استيفاء الآخر، من المحتمل أن يكون في كل من الفعلين ملاكاً ملزم، لكن الشارع لم يوجبه تسهيلا على المكلف لا لأن استيفاء كل منهما مفوت للآخر، هذا أيضاً محتمل، محتمل ان في كل منهما ملاك لكن الشارع انما لم يوجبهما لأن في ذلك تسهيلا على المكلف لا أن كل واحد منهم مانع من الآخر.

فبناء على المحتمل الثاني: لو اشتغلت بالصوم وفيّت الملاك، لو اشتغلت بالاطعام، اصلا اشك ان ذمتي مشغولة بملاك آخر للمولى، إذ لعل في الصوم ملاكاً وافياً وليس مفوّتاً لملاك آخر، فإذن كما احتمل ان في الاطعام ملاكاً مفوّتاً لملاك الصوم احتمل انني من الاول لم ألزم إلا بملاك في أحدهما وقد أتيت به في الصوم. فنتيجة ذلك لا يكون المقام من موارد الشك في القدرة، لأن الشك في القدرة فرع احراز ملاك فعلي، احرزت ان هناك ملاك فعلي واشك في قدرتي على استيفاءه، هنا يقولون الشك في القدرة مجرى للاشتغال، اما لو لم أحرز ملاكاً فعلياً في حقي، من الأول أقول: لعل الملاك في حقي هو ما يتحصل بأحدهما فالشك في ذلك بعد الاطعام ليس من الشك في القدرة كي يكون مجرى لأصالة الاشتغال.

يأتي الكلام في الوجه الثاني إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين