الدرس 122

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الوجه الأخير _من وجوه القول بتنجز العلم الإجمالي في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو وجه خاص بفرض معين_: وهو ما إذا افترضنا انه حين التمكن من الاتيان بالجامع مجرداً عن الخصوصية لا يتمكن المكلف من الإتيان بمحتمل التعيين. فالإتيان لمحتمل التعيين لا يجتمع مع الاتيان بالجامع مجردا في زمان واحد. وهذا الفرض ذكرناه في بحث الأقل والأكثر.

مثلاً: إذا علم المكلف عند حصول الآية كالخسوف أو الكسوف: بأنه إما يجب عليه صلاة الآيات في وقت الآية أي وقت الخسوف والكسوف أو انه مخيّرٌ بين ذلك وبين الصدقة في وقتٍ آخر، أي انه إذا مر وقت الآية ولم يصل فله ان يتصدق، ففي مثل هذا الفرض يقول: بأن محتمل التعيين وهو الإتيان بصلاة الآيات في زمن الآية هذا مما لا يتمكن منه بعد هذا الزمن، واما الجامع المجرد من الخصوصية أي من خصوصية التوقيت لهذا الزمن أيضاً لا يتمكن منه في هذا الزمن، فإذن بالنتيجة الاتيان لمحتمل التعيين مما لا يتمكن منه بعد انقضاء زمانه والإتيان بالجامع مجرداً لا يتمكن منه وقت الإتيان بمحتمل التعيين. فقد يقال في مثل هذا الفرض: بأن العلم الاجمالي منجز، وذلك لتعارض البراءتين فيه، بأن يقول: انا اعلم اجمالا اما يجب علي صلاة الآيات في وقت الآية أو يجب علي الجامع الذي ينحصر فرضه في الصدقة بعد انقضاء زمان الآية، فإذن جريان البراءة عن تعين الصلاة في وقت الآية معارض بالبراءة عن الجامع بعد انقضاء زمان الآية، فلكل منهما اثر لا ان المسألة تدور بين الاقل والاكثر، فإن اثر محتمل التعيين الاتيان به في هذا الوقت، اثر وجوب الجامع انه ان لم يأتي في محتمل التعيين في هذا الوقت يتعين عليه الصدقة في هذا الوقت يعني بعد انقضاء زمان محتمل التعيين، فبالنتيجة يقول ما دام لكل منهما أثر في حقي فأجري البراءة فيتعارضان، تتعارض البراءة عن تعين صلاة الآيات في وقتها مع البراءة عن لزوم تحقيق الجامع في الفرد الآخر عند انقضاء زمان محتمل التعيين.

ويقال بأن هذا العلم الإجمالي منجز على جميع المباني في حقيقة الوجوب التخييري، بل ان هذا العلم الاجمالي منجز حتى على مسلك العلية، لأنه إذا كان منجز على مسلك الاقتضاء فمن باب اولى ان يكون منجز على العلية، فهذا علم اجمالي منجز على جميع المباني. فما هو الجواب عن ذلك؟

الجواب عن ذلك: يقال ان البراءة في طرف الجامع مما لا أثر لها، والسر في ذلك: ان من ترك الجامع بعد ترك محتمل التعيين قطع بالمخالفة القطعية، فإن من ترك الصدقة بعد ترك الصلاة في ظرفها أي في ظرف الآية، قطع انه خالف الواقع، فجريان البراءة في حقه بلا ثمرة، نعم، تجري البراءة عن محتمل التعيين، مثلا: اليوم حصل الآن عندي علم إجمالي، وفي وقت حصول الآية حصل لي هذا العلم الإجمالي إما يجب عليّ الإتيان بالصلاة الآن أو على فرض ترك الصلاة الآن يتعين علي الإتيان بالجامع في الفرد الآخر بعد ذلك. هذا العلم الإجمالي حصل لي من الآن. اما اقول: جريان البراءة عن تعين الصلاة الآن له اثر بأن اترك الصلاة الآن.

أما جريان البراءة عن تعين الجامع بعد ترك الصلاة الآن لا اثر له، لأن ترك الجامع بعد ترك الصلاة الآن مخالفة قطعية. لا نقول بأن جريان البراءة يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، كي يقال بأنه ما رخصه في المخالفة القطعية، فالمخالفة القطعية باختياره، هو ترك الإتيان بمحتمل التعيين باختياره وترك الجامع بعد ترك محتمل التعيين باختياره، فليس اجراء البراءة في حقه ترخيصاً في المخالفة القطعية، لأنه هو الذي ترك باختياره، نقول ليس المانع من جريان البراءة أن البراءة ترخيص في المخالفة القطعية كي يقال بأن البراءة ليست ترخيصا في المخالفة القطعية بل المخالفة القطعية باختيار المكلف إذ بإمكانه ان يحتاط ويأتي في محتمل التعيين في ظرفه، بل المانع انه لا اثر لها لا ان المانع من جريان البراءة انها ترخيص في المخالفة القطعية لا ندعي ذلك، جريان البراءة عن محتمل التعيين له أثر وهو ان يترك الصلاة الآن، بالنتيجة انا اجري البراءة عن تعين الصلاة في وقت الآية، اما جريان البراءة بعد ترك الصلاة في وقتها عن تعين الجامع هذا ليس ترخيصا في المخالفة القطعية وانما هو ترخيص في فرض المخالفة القطعية، لا انه ترخيص في فرض المخالفة القطعية لا انه ترخيص في المخالفة القطعية كي يقال بأن البراءة هنا ليست ترخيصا في المخالفة القطعية بل المخالفة القطعية باختيار المكلف، لكن نقول: المانع انه ترخيص في ظرف المخالفة القطعية فلا اثر له.

فإن قلت: بأنه على أية حال ليس تحصيل العلم بالمخالفة محرّماً وانما المحرم نفس المخالفة، فهو بعد ان ترك صلاة الآيات في ظرفها ترك الجامع الذي يتعين بعد ذلك بالصدقة، فبتركه للجامع بعد تركه لمحتمل التعيين يحصل له العلم انه خالف الواقع اما من الأول أو من الآن، وتحصيل العلم بالمخالفة ليس محرّماً.

قلنا: نعم، ليس تحصيل العلم بالمخالفة محرّم وإنما المحرم هو نفس المخالفة القطعية، ولكن نقول ما هو الاثر في جريان البراءة بعد ترك محتمل التعيين في ظرفه؟ إذا كان الاثر في جريان البراءة ان يترك الجامع فهو يعلم إذا ترك الجامع بعد ترك محتمل التعيين فقد خالف الواقع، وان كان هناك اثر آخر فليس منظوراً. إذن بالنتيجة جريان البراءة لغو.

فإن قلت: الأثر هو التوبة: بمعنى انه: بعد ان ترك محتمل التعيين في ظرفه متعمداً يعني ضيّع الحكم العقلي وهو لزوم المخالفة القطعية متعمداً، بعد ان ترك محتمل التعيين في وقته وانتهى وقت صلاة الآيات، قال: اتوب إلى الله توبة نصوحة، فمن جهة مخالفته للاحتياط يتوب، ومن جهة تركه للجامع الآن _بعد تركه محتمل التعيين_ يجر البراءة، فلم يحصل علم باستحقاق العقوبة، لأن المشكلة ليس في المخالفة القطعية بما هي مخالفة قطعية، بل بما ان المخالفة القطعية موجبة لاستحقاق العقوبة لا يعلم بعد التوبة، باستحقاق العقوبة. فيقول: ان كانت المشكلة بيني وبين ملائكة ربي أنني خالفت الاحتياط فأنا تائب إلى ربي، وإن كانت المشكلة في ترك الجامع بعد ترك محتمل التعيين فأنا مستند للبراءة، فليس عندي علم باستحقاق العقوبة؟!

فأجبنا عن ذلك سابقا: بأنه لا نحرز شمول أدلة التوبة لمثل هذا الفرض، نعم لو احرزنا شمول ادلة التوبة لمثل هذا الفرض بمعنى: انه من تنجز عليه موافقة الواقع فيتعمد في ترك أحد طرفي الموافقة ليجري البراءة في الطرف الآخر لا نحرز شمول أدلة التوبة لمثله، وبالتالي فإذا لم تشمله ادلة التوبة يكون جريان البراءة في حقه لغواً بلا أثر. وإن كان شيخنا الاستاذ «قده» قال تشمله ادلة التوبة غاية ما في الباب فهذه ثمرة صغيرة ليست كافية عرفا لتحقيق المعارضة بين البراءتين.

ولكن نقول: إذا شملت سواء كانت ثمرة صغيرة أو كبيرة، إذا شملته ادلة التوبة بعد تركه محتمل التعيين في ظرفه كفت هذه الثمرة في تعارض البراءتين، إنما الكلام هو أننا لا نحرز شمول ادلة التوبة له فهو ليس جازما بالأمن، وبالتالي فما دام لا مؤمّن له من ترك محتمل التعيين فجريان البراءة في حقه بعد ترك محتمل التعيين لغو.

فالنتيجة: أن هذا الوجه الخاص بهذا الفرض ليس كافياً في اثبات منجزية العلم الاجمالي عند دوران الامر بين التعيين والتخيير.

نعم، إذا افترضنا _كما افترضنا في بحث الاقل والاكثر_ انه لو تعددت الواقعة وكان عاجزا عن محتمل التعيين في ظرفه، مثلا: لا يدري ان الواجب في حقه عند حصول الآية الصلاة في ظرف الآية؟ أو الواجب في حقه هو الجامع بين الصلاة في الآية والصلاة مثلا يوم غد. نذكر مثال الصوم:

نقول على أية حال يعلم بوجوب الصوم عليه، فأما الواجب عليه صوم غد أو ان الواجب عليه الجامع بين صوم غد أو احد الأيام البيض والمفروض ان الغد من ايام البيض حتى يصير الامر من باب التعيين والتخيير، لأنه إذا قلنا بأنه يعلم إما بصوم غد أو صوم يوم، هذا يصير من باب الأقل والأكثر، لأجل ان يكون من دوران الامر بين التعيين والتخيير لابد أن نفترض أنّ للجامع خصوصية تجعل النسبة بينه وبين محتمل التعيين التباين، فيقول بانه: اما يجب علي صوم يوم غد أو يجب علي صوم غد، أو يجب عليّ الجامع بين صومه أو صوم أحد الأيام البيض.

هنا في هذا الفرض نقول: الواقعة متكررة، فلو فرضنا انه عاجز عن صوم غد، إن كان الواجب عليّ صوم غد فأنا عاجز عنه غير مستطيع، وبالتالي فلو كان الواجب علي في الواقع صوم غد وأنا الآن عاجز عنه فلا يجب علي شيء، وان كان الواجب علي الجامع، اذن يجب علي صوم احد الأيام البيض الآتية لأنني قادر عليه، فالجامع له ثمرة وهو انه: يتعين علي صوم احد ايام البيض الآتية.

إذن بالنتيجة البراءة عن تعين صوم غد عليّ بحيث يجوز لي أن أأخر الصوم معارضة بالبراءة عن وجوب صوم ايام البيض، ففي مثل ذلك قد يُدّعى منجزية العلم الاجمالي على تأمل.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى وهي ما إذا علم بوجوب فرد كالصوم مثلاً، وشك في ان الفرد الآخر عدل له كالإطعام أم لا؟ وقد ذكرنا ان الجاري هو البراءة عن التعيين فهو مخير فيه بناء على تمام المسالك في حقيقة الوجوب التخييري. يأتي الكلام في الصورة الثانية.

والحمد لله رب العالمين