الدرس 123

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين في التكليف له صور ثلاث، ووصل الكلام إلى:

الصورة الثانية: وهي ما إذا دار الأمر بين تعين الفعلين أو التخيير بينهما، مثلا: إذا شك في أنه هل يجب عليه الصوم والإطعام تعييناً؟ أم أنه مخيّرٌ بينهما؟ فهذا الصورة تتصور على نحوين:

النحو الأول: أن يكون الشك ثنائياً، بمعنى أن يدور الأمر بين وجوبهما معا عليه أو وجوب أحدهما، فإما أن يجب عليه الجمع بين الصوم والإطعام أو يجب عليه أحدهما. فإذا دار الأمر بين وجوبهما وجوب أحدهما، جرت البراءة عن وجوبهما معاً، والنتيجة أنه مخير في تطبيق أيٍّ منهما، إذ لا معنى لإجراء البراءة عن وجوب أحدهما وهو متيقن على كل حال.

النحو الثاني: ان يكون الشك ثلاثياً، بمعنى أنه يتساءل هل الصوم واجب تعيينا فقط؟ أو الإطعام واجب تعييناً فقط؟ أو أنه يجب أحدهما تخييراً؟

فالشك حينئذٍ ثلاثي، فتارة يتمكن من الإتيان بكل منهما، فإذا تمكن من الإتيان بكل منهما يجري البراءة عن التعيين، فيجري البراءة عن تعين الصوم ويجري البراءة عن تعين الإطعام، والنتيجة انه مخير بينهما، إذ لا معنى لإجراء البراءة عن التخيير، فإنه مساوق للسعة.

وأما إذا افترضنا انه عاجز عن احد الفردين كما لو فرضنا انه عاجز عن الصوم، فيقول أنا لا ادري هل الصوم متعين في حقي أم الإطعام متعين أم أنني مخير بينهما. فلو كان الصوم متعينا في حقي لسقط عني الواجب، لأنني المفروض عاجز عن الصوم، وإذا عجزت عن الواجب فلا يجب علي شيء، فلو كان في الواقع ما هو الواجب هو الصوم معيناً وأنا عاجز عنه إذن لا يجب علي شيء البتة، ففي هذه الصورة إذا دار الأمر بين الصوم معين أو الإطعام معين أو التخيير بينهما وكان عاجزا عن الصوم، حينئذٍ يجري البراءة عن وجوب احدهما ولا شيء عليه أصلاً، لأنه ان كان الواجب عليه في الواقع الصوم معينا سقط عنه الوجوب لا محالة، ووجوب الإطعام معينا مشكوك مجرى للبراءة.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثالثة _وهي مهمة وكثير الدوران في الفقه_: أن يعلم بوجوب أحدهما ويعلم بأن الآخر مسقط له، لكن لا يدري أنه مسقط له لكونه عدلاً له أو أنه مجرد مسقط، ليس واجبا في نفسه، لكن متى ما أتى به سقط الواجب؟ فهذه الصورة تختلف عن الصورة الأولى، لأن البحث في الصورة الأولى لم يكن يعلم بأن الثاني مسقط، فبحثنا كان في الصورة الأولى أنه يعلم بوجوب الصوم، ويشك في أن الآخر وهو الإطعام هل هو عدل فيكون مسقط؟ أم ليس بعدل فلا يجزي أصلاً. هذا كان الكلام في الصورة الأولى. وفي الصورة الثانية ذكرنا فرضين: فرض ان يدور الأمر بين وجوبهما معا أو وجوب احدهما، وفرض أن يدور الأمر بين وجوب الصوم معيناً أو الإطعام معيناً أو التخيير بينهما.

أما هذه الصورة الثالثة فهو يعلم بوجوب الصوم، لا شك في ذلك، ويعلم بوجوب الصوم لا شك عنده في ذلك، ويعلم بأن الإطعام عنده مسقط، أيضاً لا شك عنده في ذلك، لكن لا يدري أن الإطعام لكونه عدلاً؟ أو أن الإطعام مسقط بمعنى متى ما أتى به سقط عنه الواجب وان كان ليس متعلقاً لوجوب لا تعييناً ولا تخييراً.

ثمرة هذه الصورة الثالثة: انه لو عجز عمّا هو الواجب وهو الصوم، أنا اعلم بوجوب الصوم وأعلم بأن الإطعام مسقط وعجزت الآن عن الصوم، هل أجري البراءة عن وجوب الإطعام فلا شيء عليّ؟ أم لا؟ هذا هو محل الكلام.

فهنا ذكر السيد الشهيد «قده» أنه لا إشكال في الكبرى، بمعنى أنه في هذا الفرض وهو ما إذا علم بوجود احدهما وعلم أن الآخر مسقط وعجز عن الأول، يجر البراءة عن الثاني. وإنما الكلام في الصغريات:

فنذكر الصغريات الفقهية: المثال الاول: من كان مسافراً ولم يبق له الا مقدار اربع ركعات، فهذا ان نوى الإقامة ووجبت عليه الصلاة تماماً لم يتمكن من صلاة الظهر أدائية، وإن لم ينوي الإقامة كان متمكنا من الظهر والعصر قصريتين، فما هو حكمه؟ فهنا لابد من ذكر أمور ثلاثة ترتبط بهذا المثال:

الأمر الأول: بحث السيد الشهيد والسيد الخوئي «قدس سرهما» حكم المسألة، وهو انه هل الواجب على المكلف ابتداء الجامع بين القصر في السفر والتمام في الحضر فليس مخاطباً إلا في واجب واحد وهو الجامع، غاية ما في الأمر هذا الجامع لا يصح منه قصراً إلا في السفر، ولا يصح منه تماما إلاّ في الحضر، فالسفر والحضر قيدان في الصحة لا في الوجوب، فليس مخاطباً الا بواجب واحد وهو الجامع، غاية ما في الباب لا يصح قصرا الا في السفر ولا يصح منه تماما الا في الحضر. هذا مسلك.

المسلك الآخر وهو المسلك المعروف: انه مخاطب بخطابين، إن حضرت فأتم وان سافرت فقصّر، فهناك خطابات ووجوبان، فالحضر والسفر قيدان في الوجوب وليسا قيدين في الصحة. إن كان حاضرا وجب عليه التمام وإن كان مسافراً وجب عليه القصر.

المسلك الثالث: ما يظهر من سيدنا الخوئي «قده»: بالنسبة إلى الحال الاول _لو فرضنا ان المكلف دائما مسافر فلا يجب عليه الا القصر، أو طول الوقت حاضر فلا يجب عليه إلا التمام_ لكن من تغير حاله، كان من اول الوقت في حال وآخر الوقت في حال، هنا تظهر الثمرة، فيقال فيمن تغير حاله: ما دام في الحال الأول فيجب عليه الجامع، لا التمام ولا القصر، فإن تغير حاله انتقل إلى حال آخر فما دام الحال الثاني باقياً إلى آخر الوقت ولم يصل قبله فتكون له وظيفة واحدة وليس الجامع، مثلا إذا افترضنا انه كان في أول الوقت كان حاضرا لا يجب عليه التمام، يجب عليه الجامع، أما إذا انتقل إلى السفر وبقي في السفر حتى آخر الوقت ولم يصل قبله وجب عليه القصر وحدها.

المشكلة عندهم هي: أنه لو قلنا بمسلك المشهور إن كان حاضرا يتم وان كان مسافرا يقصر، نفترض ان هذا المكلف كان حاضراً، لو قلنا أنه يجب عليه التمام لم يجز له السفر، لأن هذا تعجيز عن الواجب، فلو قلنا بأنه يجب على الحاضر التمام إذن لا يجوز له السفر لأن السفر تعجيز للنفس عن الواجب وتعجيز النفس عن الواجب معصية، لا يجوز له السفر أصلاً، إذن لابد أن نقول: إما بأن الواجب في تمام الوقت في الجامع، أو لا أقل في الحال الأول يجب عليه الجامع، فإن انتقل إلى حال آخر واستمر تعينت عليه وظيفة واحدة. أو انه افترضنا أن المكلف مشغوف بالسفر وكل عشرين دقيقة يسافر مسافة ويرجع، إذا قلتم بأنه يجب على الحاضر التمام ويجب على المسافر القصر يعني هذا مخاطب في أثناء الوقت بعشرين خطاب، كلما ذهب خوطب، وكلما رجع خوطب، لا يصح ذلك. إذن بالنتيجة: حيث إن هذا مستبعد إذن الواجب على المكلف الجامع بين القصر والتمام أو انه على الاقل في الحال الأولى.

الأمر الثاني: إذا افترضنا ان المكلف يحرز الوظيفة اما يحرز الجامع أو يحرز تعدد الخطاب. الآن هو مسافر لم يبق من الوقت الا مقدار اربع ركعات ان نوى الإقامة لم يمكنه صلاة الظهر ادائية إن لم ينوي الإقامة امكنه صلاتان قصريتان، فما هو الواجب عليه؟

فهنا ان كانت وظيفته _التي يحرزها_ الجامع كما هو مسلك السيد الشهيد. من الواضح أن الجامع إذا تعذر احد فرديه تعين الآخر لا محالة، فأنا يجب علي الجامع بين القصر والتمام، فما دام يجب علي الجامع وقد تعذر علي أحد فرديه وهو التمام، لا استطيع ان آتي بثمان ركعات أدائية في الوقت أو حتى خمسة ركعات، إذن بالنتيجة يعتين علي الفرد الآخر، يعني ان لم أكن نويت الإقامة فلت تجوز نية الإقامة، وإن كنت نويت الإقامة ولم أصل رباعية يجب عليّ إلغاء النية، لأنه إذا تعذر احد الفردين، فردي الجامع، تعين الآخر.

أما إذا كانت الوظيفة هي تعدد الخطاب، ان كنت مسافرا مخاطب بخطاب، وان كنت حاضراً مخاطباً بخطاب آخر، خطابان لموضوعين، يقول السيد الخوئي على هذا المسلك: إن كان قد نوى الاقامة قبل ذلك، ثم التفت إلى ضيق الوقت، إن كان قد نوى الإقامة لا يجب عليه أن يعدل، لو فرضنا انه حاضر في بلده وضاق عليه الوقت لم يبق له الا مقدار اربع ركعات وهو قادر طي مسافة 22 كيلو متر في لحظة، هل يجب عليه الانتقال ليصلي قصريتين؟ لا يجب عليه، غايته انه يتعين عليه إتيان العصر أداءً ويقضي الظهر. كذلك في المقام، إن كان قد نوى الإقامة.

وإن لم يكن _هنا قال السيد الخوئي_ قد نوى الاقامة هل يجوز له ان ينوي الإقامة؟ مع إنه يعلم إن نوى الإقامة لم يتمكن من الظهر إدائية.

فإذا لم يكن نوى الإقامة هل يجوز له نية الإقامة؟

هنا السيد الخوئي يقول: لا، إن لم يكن نوى الإقامة لا يجوز له نية الإقامة لأنه ما دام لم ينوي الاقامة بعد قد وجبت عليه صلاتان قصريتان فلا يجب عليه تفويتهما بأن ينوي الإقامة.

ولكن إذا قلنا بمسلك المشهور: بأن هناك عدد الخطاب بتعدد الموضوع، إذن يجوز له ان ينقل نفسه من موضوع إلى موضوع، وان علم بأنه ان نفسه إلى موضوع الحضر يعني نوى الإقامة، ضاعت عليه صلاة الظهر ادائية، فإي مانع من ذلك ما دام أساساً هو مخاطب بخطابين لموضوعين فإي مانع من ذلك، نظير من يعلم أنه إن تزوج لم يتمكن من الانفاق، يعني ألا يتزوج؟! أو هو مسافر في رمضان مثلاً، ويعلم ان رجع بلده قبل الزوال لم يتمكن من الصوم. أفلا يجوز له ان يرجع لبلده؟! إذن لا مانع من ان ينقل نفسه من حال إلى حال.

الأمر الثالث: إذا شك المكلف بعد ان بقى من الوقت مقدار اربع ركعات، وقال: لا ادري أن المسلك مسلك السيد الشهيد انه يجب الجامع؟ فإن كان الوجب عليّ الجامع إذن يتعين علي أن لا أنوي الإقامة حتى أصلي صلاتين قصريتين، كسائر موارد تعذر الجامع.

وأما إن كانت الوظيفة كما يقول المشهور فيجوز له نية الإقامة، فماذا افعل؟

أنا الآن لا ادري وظيفتي هي الجامع فيتعين عليّ أن لا انوي الإقامة أم ان وظيفتي تعدد الخطاب بتعدد الموضوع فيجوز لي نية الإقامة.

بعبارة أخرى: أنا اعلم بوجوب أحدهما وأعلم بمسقطية الآخر وأشك في أنه لأنه عدل؟ هذا إذا كان الواجب هو الجامع، أو مجرد مسقط لأنه مخاطب بخطاب آخر ولو لم يكن عدلاً؟ فماذا أفعل؟

اجري البراءة عن وجوب عدم نية الإقامة لأنني أشك في وجوب عدم نية الإقامة، ثمرة المسألة هي اجراء البراءة عن وجوب عدم نية الإقامة، أو فقل إجراء البراءة عن وجوب ترك نية الإقامة، فيجوز لي أن اترك. إذن فبالنتيجة: يجري البراءة عن وجوب ترك نية الإقامة.

والحمد لله رب العالمين