الدرس 124

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام فيما إذا دار الامر بين كون الطرف الآخر عدلاً أو مسقطاً، وقلنا بأن لهذا أمثلة فقهية كثيرة، ذكرنا المثال الأول.

المثال الثاني: ما إذا تردد الأمر بين كون الغسل من الجنابة مسقطاً أم عدلاً؟ فمثلاً: من لم يتمكن من الوضوء لكنه متمكن من أن يجنب نفسه بالحلال ويغتسل هل يتعين عليه ان يجنب نفسه ويغتسل؟ ام أن وظيفته التيمم والمفروض انه غير متمكن من الوضوء؟ وهنا يقال هل ان الواجب على المكلف الجامع بين الوضوء والغسل عن جنابة؟ ام ان الغسل عن جنابة مسقط؟ فإذا قلنا بأن الواجب على المكلف الصلاة مع طهارة مائية جامعة بين وضوء او عن غسل عن الجنابة، فلا محالة إذا لم يتمكن من الوضوء ويتمكن من اجناب نفسه ويغتسل يتعين ان يجنب نفسه ويغتسل لانه متمكن من الطهارة المائية، وادلة التيمم منصرفة عنه لانه قادر على الطهارة المائية لا انه عاجز عنها. واما إذا قلنا بأن هناك موضوعين ووجوبين:

الموضوع الاول: من ليس جنبا في تمام الوقت ويجب عليه الوضوء. الموضوع الثاني: من هو جنب في تمام الوقت لولا الغسل ويجب عليه الغسل، فاذا كان هناك موضوعان ووجوبان لا أن الوجوب للجامع فحينئذٍ يقال: من لم يتمكن من الوضوء لكنه ليس جنبا فحينئذ لا يجب عليه أن يجنب نفسه فيغتسل. إنّما الكلام هل تشمله أدلة التيمم. «من ليس جنبا في تمام الوقت وظيفته الوضوء» هذا عاجز عن الوضوء، هل تشمله أدلة التيمم مع تمكنه من أجناب نفسه والغسل، وإن كان لا يجب عليه ذلك؟ قال سيدنا «قده»: بأنه وان لم تشمله ابتداءً لكن يُجري البراءة عن وجوب الغسل فإذا أجرى البراءة عن وجوب الغسل مع الجنابة صدق عليه انه شخص لا يخاطب بالوضوء، إذ ليس موضوع التيمم خصوص من كان عاجزا بل يشمل من لم يخاطب بالطهارة الطهارة المائية تعيينا، فكل من لم يخاطب بالطهارة المائية تعيينا، فاذا كان هذا الشخص مما لم يجب عليه الطهارة المائية تعييناً، أما الوضوء فهو عاجز عن وإما الغسل فليس واجبا عليه بالبراءة، إذن بالنتيجة يجوز له ان يتيمم، ولذلك ذهب في بحثه «موسوعة الإمام الخوئي، ج‌2، ص: 359‌» بأنه: قد يقال بأن: مفاد موثقة سماعة «يهريقهما ويتيمم» التخيير بين الوضوء بالماءين المشتبهين وبين التيمم. ولكن هذا يتم بناء على مسلك من يقول بأن الطهارة هي نفس الوضوء والغسل والتيمم.. وإما إذا قلنا بأن الطهارة: أمر اعتباري متحصل من الوضوء والغسل والتيمم، اجراء البراءة عن تعين الغسل في حقه وقيامه بالتيمم لا يثبت حصول الطهارة لأن الشك حينئذٍ من الشك في المحصل، فمقتضى قاعدة الاشتغال ان يجنب نفسه بالمباح ويغتسل لكي يحرز حصول الطهارة. وإذا شك بين الأمرين لا يدري ان الغسل عدل او الغسل مسقط؟ يجري البراءة عن تعين الغسل بعد عجزه عن الوضوء.

المثال الثالث: ما طرحه سيدنا «قده» في بحث القراءة، من لم يتمكن من القراءة الصحيحة هل يجب عليه الائتمام أم لا؟ فهذا يبتني على مسألتنا أيضاً، هل أن الائتمام عدل بمعنى أن الواجب على المكلف هو الجامع بين الفرادى مع القراءة الصحيحة أو الائتمام؟ او أن الائتمام مسقط، فاذا قلنا بأن الائتمام عدل، يتعين عليه الائتمام إذا لم يتمكن من القراءة الصحيحة. وإذا قلنا بأن الائتمام مسقط، لا يجب عليه الائتمام وإن لم يتمكن من القراءة الصحيحة، وإذا شك ودار امره لا يدري هل الائتمام عدل في حقه او الائتمام مسقط؟ يجري البراءة عن تعين الائتمام بعد عدم تمكنه من القراءة الصحيحة. إنما الكلام في البحث الفقهي لهذه المسألة بحسب ما تعرض له سيدنا «قده» إذا افترضنا ان شخصا لا يتمكن من القراءة، يعني لا يتمكن من القراءة الصحيحة بالصلاة، لصلاته او صلاة الطواف، فهل يجب عليه انه يذهب الى الائتمام ام لا؟ ذكر سيدنا الخوئي «قده» انه لو خلينا والقاعدة المستفادة من النصوص، فإن القاعدة المستفادة من النصوص هو التخيير العقلي لا الشرعي، بمعنى ان الشارع لم يخيره بين القراءة والائتمام، ولكن يجب على المكلف طبيعي الصلاة، الجامع هذ الطبيعي بين فرادى بقراءة صحيحة او ائتمام، فهو مخير عقلا بين هذا الفرد وبين هذا الفرد، فاذا فرضنا انه لم يتمكن من الفرد الأول وهو الصلاة فرادى مع قراءة صحيحة تعين عليه الفرد الآخر عقلا لا شرعاً، تعين عليه الفرد الاخر عقلا وهو الائتمام، هذا بحسب القاعدة. ولكن بحسب النصوص الخاصة هناك صورتان:

الصورة الأولى: من عجز عن القراءة الصحيحة عن قصور لا تقصير، فهو غير قادر على تعلم القراءة الصحيحة. وهذا الذي عجز عن القراءة الصحيحة عن قصور لا تقصير أيضاً له فرضان:

الفرض الاول: من عجز عن تمام القراءة الصحيحة، من عجز عن تمام سورة الحمد عن قصور. فهل يجب عليه الائتمام ام لا؟ ذكر سيدنا «قده» أنه لا يجب عليه الائتمام، يجب عليه أن يقرأ ما يستطيع ان يقرأه، لا لما استدل به المحقق النائيني «قده» وهو النبوي: «إِنَّ سِينَ بِلَالٍ عِنْدَ اللَّهِ شِينٌ» فإن هذا النبوي: أولاً: مرسل. وثانياً: يقول السيد الخوئي: لا يوجد في الفاتحة والسورة «شين» حتى يقول سين بلال شين. وثالثا لنفترض ان هذه الروية تامة، وأنها كناية عمن عجز عن القراءة ليست لها خصوصية للفاتحة والسورة، مع ذلك نقول: بأنه على أية حال تنزيل الشارع القراءة الملحونة منزلة القراءة التامة لا يعني ان الائتمام مسقطٌ، فلربما الائتمام عدل، ولكن في حق من يتمكن في بعض القراءة فنُزّلت القراءة الملحونة في حقه منزلة القراءة التامة، لا ان الائتمام مجرد مسقط. فإذن استدلال النائيني غير تام. والصحيح ان يستدل على ذلك: بموثقة السكوني: ”عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: تَلْبِيَةُ الْأَخْرَسِ وَ تَشَهُّدُهُ وَ قِرَاءَتُهُ لِلْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ وَ إِشَارَتُهُ بِإِصْبَعِهِ“. حيث لم يوجب على الاخرس الائتمام. وكذلك موثقة مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ ع يَقُولُ إِنَّكَ قَدْ تَرَى مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْعَجَمِ - لَا يُرَادُ مِنْهُ مَا يُرَادُ مِنَ الْعَالِمِ الْفَصِيحِ - وَ كَذَلِكَ الْأَخْرَسُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ - وَ التَّشَهُّدِ وَ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَجَمِ وَ الْمُحَرَّمِ - لَا يُرَادُ مِنْهُ مَا يُرَادُ مِنَ الْعَاقِلِ الْمُتَكَلِّمِ الْفَصِيحِ - وَ لَوْ ذَهَبَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ الْفَصِيحُ - حَتَّى يَدَعَ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَ يَعْمَلُ بِهِ - وَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ - حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّبَطِيَّةِ وَ الْفَارِسِيَّةِ - فَحِيلَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ ذَلِكَ بِالْأَدَبِ - حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَا قَدْ عَلِمَهُ وَ عَقَلَهُ - قَالَ وَ لَوْ ذَهَبَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِثْلِ حَالِ الْأَعْجَمِ الْمُحَرَّمِ - فَفَعَلَ فَعَالَ الْأَعْجَمِيِّ وَ الْأَخْرَسِ عَلَى مَا قَدْ وَصَفْنَا - إِذاً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فَاعِلًا لِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَ لَا يُعْرَفُ الْجَاهِلُ مِنَ الْعَالِمِ.

الفرض الثاني: أن يحسن بعض الفاتحة ولا يحسن البعض الآخر. لنفترض انه يحسن ثلاث آيات ولا يحسن أربع آيات، فمثل هذا هل يجب عليه أن يعوّض عمّا لا يحسنه بقراءة سورة أخرى من القرآن؟ هو في هذه الفاتحة يحسن بعضها ولا يحسن البعض الآخر، أم نقول يجب عليه أن يعوض عما لا يحسن من بعض الفاتحة بقراءة شيء من القرآن؟ قال: سيدنا «قده» «موسوعة الإمام الخوئي، ج14، ص: 419» نعم يمكن ان يقال بذلك: أولا: لأن الصلاة لا يمكن تسقط عنه حتما، فإذا لم تسقط عنه حتما، والفاتحة ليست جزءاً في حقه لعدم قدرته عليها، فمقتضى قوله «عز وجل»: «فاقرءوا ما يتسر منه»: أن جزئية قراءة القرآن لا تسقط عنه بسقوط الفاتحة، فيتعين عليه ان يعوض عما لا يحسن بقراءة بعض آيات أخرى وسور أخرى من القرآن. وقد يستدل ايضا برواية العلل وما اشبه. وقد يستدل له برواية العلل الظاهرة في أن مطلوبية الفاتحة على نحو تعدد المطلوب وهي ما في علل الشرائع؛ ج‌1، ص: 260 ”فَإِنْ قَالَ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ قِيلَ لِأَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ مَهْجُوراً مُضَيِّعاً بَلْ يَكُونُ مَحْفُوظاً مَدْرُوساً فَلَا يَضْمَحِلَّ“. ولكن لم يظهر من هذه الآية انها في مقام بيان جزئية القراءة من الصلاة، بل هي امر استحبابي نفسي، ولذلك في صحيحة زرارة اعتبر القراءة من السنة لا من الفريضة، قال: «والقراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة» مما يرشد الى ان هذا الامر امر استحبابي نفسي لا انه ارشاد الى جزئية القراءة من الصلاة. وأما رواية الصدوق في العلل عن الفضل بن شاذان، فقد أفاد سيدنا الاستاذ انها لم يحرز انها رواية فلعلها من كلمات الفضل بن شاذان. وعلى كل حال: قد يقال: بأن صحيحة «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ مِنَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعَ وَ السُّجُودَ أَ لَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَجْزَأَهُ أَنْ يُكَبِّرَ وَ يُسَبِّحَ وَ يُصَلِّيَ» حيث لم يوجب عليه الائتمام ولم يوجب عليه أن يقرأ مثلا ما يحسن من مكان آخر، وقوله «وهو لا يحسن ان يقرأ» منصرف الى ما لزم قراءته من الصلاة وهو الفاتحة، فمع انه لا يحسن ان يقرأ الفاتحة، هذا هو القدر المتيقن من الرواية، مع ذلك لا يجب عليه شيئا آخر، لأنها منصرفة إلى من كان عجزه عن قصور لا من كان عجزه عن تقصير، قال : «اجزأه ان يكبر ويسبح ويصلي» فيقرأ ما تيسر ويسبح بالبقية ويصدق عليه انه ممن لا يحسن ان يقرأ. هذا من ناحية الصورة الأولى.

الصورة الثانية: من كان عجزه عن تقصير، يعني هو قادر على ان يتعلم لكن لم يتعلم، فهذا الذي عجزه عن تقصير قد يقال بأن الروايات الأخرى التي قرأناها لا تشمله لأنها منصرف عمّن كان عاجز عن قصور، لا عمّن كان عاجزاً عن تقصير. ففي مثل هذا الفرض قد يقال ان مقتضى القاعدة بأنه يجب عليه الائتمام، لأن الواجب عليه طبيعي الصلاة الجامع بين الفرادى مع قراءة صحيحة او الائتمام، فإذا لم يتمكن من الفرد الأول يتعين عليه الفرد الثاني عقلاً. ولكن لا يبعد ما ادعي من ان السيرة المتشرعية قائمة على عدم وجوب الائتمام ولو كان لبان أنه كل من عجز عن القراءة الصحيحة ولو كان عن تقصير يذهب الى الائتمام، لو كان هذا الامر واجبا لبان. وبالتالي فلا فرق بين الصورتين، يعني صورة، من كان عجزه عن قصور وصورة من كان عجزه عن تقصير، وبين فرض انه يحسن بعض الفاتحة وفرض انه لا يحسن شيئاً منها بانها لا يجب عليه الائتمام ولا يجب عليه اللجوء الى سورة أخرى بدل الفاتحة. هذا تمام الكلام في دوران الامر بين التعيين والتخيير الشرعيين من حيث التكليف.

ويأتي الكلام غدا في «دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات» حيث تعرضنا في الأقل والأكثر في الواجبات، تبعاً للمحقق العراقي «قده».

والحمد لله رب العالمين.