الدرس 125

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

بعد الفراغ عن الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات والشرائط، ودوران بين التعيين والتخيير العقليين والشرعيين، وقع الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات. ودوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات على نوعين:

النوع الأول: ما إذا كان المنهي عنه صرف الوجود، بحيث لو خولف مرة واحدة فلا مفسدة في التكرار. مثلاً: إذا افترضنا ان الشارع نهى من يقضي صوم شهر رمضان نهاه عن صرف وجود الاكل، فقال: من حل عليه الزوال في قضاء شهر رمضان فيحرم عليه صرف وجود الاكل، ولكن متى ما اكل ولو لحظة واحدة فلا مفسدة في تكرار الاكل بعد ذلك. فهنا في مثل هذا الفرض لو تردد المنهي عنه بين الأقل والأكثر بمعنى ان الصائم لا يدري هل هو منهي عن اكل خصوص الطعام أو منهي عن كل ما يدخل في حلقه ولو لم يكن من سنخ الطعام. فهنا يدور المنهي عنه بين الأقل والأكثر وإن كان المنهي عنه على سبيل صرف الوجود، وهنا اتفق الاعلام على الانحلال وانه القدر المتيقن مما هو محرم هو الأكثر، يعني الأكل للطعام فإن قيد الطعام يجعله هو الأكثر فإن كون المأكول طعاما هذا قدر متيقن من المنهي عنه، وانما الشك في النهي عن اكل ما لا يسمى طعاما أو ما لا يعد طعاماً. فهنا الأكثر قدر متيقن من الحرمة وشك بدوي في النهي عن الأقل بعكس دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات، حيث ان القدر المتيقن هناك الأقل يعني إذا دار امر الصلاة الواجبة بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء فالقدر المتيقن من الواجب هو التسعة والشك البدوي في الأكثر فتجري عنه البراءة. هنا الأمر بالعكس، إذا دار امر المنهي عنه بين اكل الطعام أو اكل ما يدخل في الحلق ولو لم يكن طعاما فالقدر المتيقن من المنهي هو الأكثر يعني اكل الطعام، وأما اكل ما لا يسمى طعاماً فهو مشكوك الحرمة فتجري البراءة عنه.

النوع الثاني: ان يكون المنهي عنه هو المركب لا صرف الوجود ولكن هذا المركب يدور بين الأقل والأكثر، مثلا: الصائم أو المحرم منهي عن الارتماس، الارتماس مركب، لكن لا يدري هل هو منهي عن رمس تمام البدن؟ أو منهي عن خصوص رمس الرأس؟ أو عندما يقول الشارع: يحرم على المكلف تصوير ذوات الارواح، فهل هو منهي عن تصوير خصوص وجهه أو هو منهي عن تصوير تمام جسمه، أو عندما يقول الشارع: يحرم على المكلف الغناء، فهل هو منهي عن الصوت اللهوي أو هو منهي عن الصوت اللهوي بكلام لهوي، فهنا المنهي عنه مركب، ليس صرف الوجود، وهذا المركب تتكرر مفسدته كلما كرره، إلا ان الكلام ان المنهي عنه هو المركب الأكثر أو الأقل.

وهنا أفاد المحقق النائيني «قده» أنّ الكلام في النوع الثاني كالكلام في النوع الأول، أي أنه كما قلنا في النوع الأول بأنه لا كلام في جريان البراءة غاية ما في الباب أن القدر المتيقن في باب الواجبات هو الأقل والشك في الأكثر والقدر المتيقن في باب المحرمات هو الأكثر والشك في حرمة الأقل، نفس هذا الذي ذكرناه في النوع السابق يجري في المقام تماماً، فنقول: القدر المتيقن مما هو محرم لمس تمام البدن، فانه إذا رمس تمام البدن تيقن بارتكاب محرم، وأما رمس الرأس فقط فهو مشكوك، أو القدر المتيقن من المحرم تصوير ذي الروح بكامل جسمه وأما تصوير خصوص وجهه فهو مشكوك فمجرى للبراءة، إذن الانحلال حاصل في المقام، كما هو حاصل في باب الأقل والأكثر غاية ما في الباب ان القدر المتيقن هو الأكثر والقدر المتيقن هناك هو الأقل.

ولكن تأمل في كلام النائيني من قبل الأعلام «قدس سرهم» انه لا ملازمة بين البابين، أي إذا قلنا بالانحلال في الأقل والأكثر في الواجبات لا يعني ان نقول بالانحلال في المحرمات وبالعكس. لو أن شخصا قال بالاحتياط في الواجبات هل يلزم عليه ان يقول بالاحتياط في المحرمات؟

وبعبارة أخرى: لو أن شخصا أن الانحلال في الواجبات هل عليه أن ينكر الانحلال في المحرمات؟ لا توجد ملازمة، والسر في ذلك: ان منشأ القول بالاحتياط في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات هل يأتي في المحرمات أو لا؟ لذلك لابد من عرض مناشئ القول بالاحتياط في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات لنرى هل أن هذه المناشئ موجودة في المحرمات كي يكون هناك ملازمة بين القول بالواجبات أو القول بالاحتياط في المحرمات أم لا؟

المنشأ الاول: ما ذهب إليه جمع منهم سيد المنتقى «قده» من ان دوران الوجوب بين الأقل والأكثر من الدوران بين المتباينين لا من الدوران بين الأقل والأكثر كي يحصل انحلال، بلحاظ أن لدينا وجوباً استقلالياً، لا ندري أن متعلقه هو الأقل هو الأكثر، فدوران الأمر بين وجوب استقلالي للأقل ووجوب استقلالي للأكثر دوران بين متباينين فليس منحلاً فيكون مقتضى القاعدة هو الاحتياط.

هل هذا المنشأ موجود في المحرمات أم لا؟ يعني أن هناك دورانا بين متباينين بحيث يمنع من الانحلال أم لا؟

هنا نكتة مهمة: بأن المحرمات الحرمة انحلالية، بخلاف الوجوب، ليس الوجوب وجوب انحلالي، ومعنى أن الحرمة انحلالية: ان الأكثر له حصة من الحرمة والأقل له حصة أخرى، لا أن التردد في حرمة واحدة لا ندري متعلقا الأقل أو متعلقها الأكثر، ففي باب الحرمة هناك انحلال، إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر فهناك حرمة فعلية في الأكثر وشك في حرمة أخرى متعلقة بالأقل أم لا؟ لا أن هناك دوران في حكم واحد لا ندري متعلقه الأقل أم متعلقه الأكثر. لذلك عندما نأتي لمثال من الأمثلة لنفترض مثال الارتماس: فنقول: إذا ايقن المحرم أو الصائم بانه منهي عن الارتماس ولا يدري هل هو منهي عن رمس تمام البدن أو هو منهي عن رمس الرأس، يقول: رمس تمام البدن مورد لحرمة فعلية قطعا، أما رمس خصوص الرأس دون تمام البدن نشك في تعلق حرمة أخرى به أم لا؟ فهو مجرى للبراءة، فإذن ليس هناك دوران في وجوب واحد، كما في الوجوب لا ندري ان هذا الوجوب متعلق بالأقل أو متعلق بالأكثر كي يقال بأن هناك وجوب استقلالي إما بالأقل أو الأكثر فهذا دوران بين متباينين. بل هنا حرمات، حرمة فعلية بالأكثر جزما ويشك في حرمة فعلية بالأقل فهي مجرى للبراءة، فلو لم نقل بالانحلال هناك لأن المردد حكم واحد قلنا بالانحلال هنا لأن الحرمة انحلالية. صحيح في الأكثر، بأن نفترض ان شخصا رمس تمام بدنه، نحن ما زلنا نشك، نشك أن المحرم هنا هو رمس الجميع؟ أو رمس خصوص الرأس؟ فهناك تردد ما زال بين الأقل والأكثر، أمّا هذا التردد بين الأقل والأكثر لا يمنع القطع التفصيلي بحرمة فعلية، بأن في هذا المورد وهو الأكثر توجد حرمة فعلية، سواء كانت حرمة استقلالية أو حرمة ضمنية، إمّا حرمة بخصوص الرأس أو حرمة بتمام البدن، على أية حال هناك حرمة فعلية.

وأما إذا كان الأقل مجردا عن الأكثر، يعني رمس خصوص الرأس، فيشك في ثبوت حرمة فعلية له، إذن فبالنتيجة: يحصل الانحلال في المقام وقد لا يحصل الانحلال في الواجبات.

فإن قلت: من دار أمره بين صلاة بعشرة وصلاة بتسعة، قطعاً إذا أتى بصلاة بعشرة قطع بأنه واجب، فإذا أتى بصلاة ذات عشرة أجزاء قطع بأن هنا واجباً، وشك في أنه لو اقتصر على الأقل أن هناك واجباً، فنفس الكلام، هنا إذا دار المحرم بين رمس تمام البدن أو رمس خصوص الرأس ففي رمس تمام البدن يقطع بحرمة وفي رمس خصوص الرأس يشك، هنا في الواجبات أيضاً إذا دار الأمر بين تسعة وعشرة، يقول: في عشرة أجزاء قطعا يوجد واجب، في تسعة أجزاء لا ندري. فأي فرق بين المقامين، ان كان هذا موجبا للانحلال في المحرمات فهو موجب للانحلال في الواجبات. فهما هو الفرق؟

قلت: فرق بين الانحلال في الامتثال وبين الانحلال في الفعلية، فعلية الحكم. إذا دار الأمر في واجب بين صلاة ذات تسعة أو صلاة ذات عشرة، فلو أتى بصلاة ذات عشرة امتثل قطعا، فهنا قطع بالامتثال، يوجد انحلال في الامتثال، إذا اتى بصلاة ذات عشرة قطعا الصلاة ذات عشرة امتثال، هذا ليس محل البحث، إذ ليس الشك في مقام الامتثال، لأن الشك شك في التكليف، دوران التكليف بين الأقل والأكثر وليس الشك في عالم الامتثال.

أمّا في المحرمات، إذا دار الأمر بين رمس تمام البدن أو رمس خصوص الرأس، يقول: في رمس تمام البدن حرمة فعلية، ويشك في ثبوت حرمة أخرى لرمس خصوص الرأس. فهنا حرمتان، لا وجوب واحد نقطع بامتثاله في فرد ونشك بامتثاله في فرد، هذا هو الفرق. في باب الواجبات هنا حكم واحد ان اتينا بالعشرة قطعنا بامتثال ذلك الوجوب الواحد، وأما في الأقل فنشك في امتثاله. اما هنا ليس هناك كم واحد نقطع بامتثاله أو بعصيانه في فرد ونشك في عصيان فرد آخر، بل نقول: بما أن النهي انحلالي ينحل في مرحلة الفعلية الى حرمات عديدة بعدد الافراد فهناك حرمة فعلية في الأكثر وشك في ثبوت حرمة أخرى للأقل فهي مجرى للبراءة، فلا ملازمة بين عدم الانحلال عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات وعدم الانحلال في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات.

هذا هو المنشأ الأول للقول بالاحتياط هناك، واتضح انه لا ملازمة بين ثبوته هناك وثبوته هنا.

المنشأ الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية الآخوند «قده»: قال: إذا دار الأكثر بين وجوب الأقل أو وجوب الأكثر، فإن القائلين بالانحلال قالوا: الأقل متنجز تفصيلاً، فإذا تنجز الأقل تفصيلا شككنا في تنجز الأكثر نجري البراءة عنه.

الآخوند اشكل عليهم: قال: ان تنجز الأقل تفصيلا فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، أي سواء كان متعلقا بالأقل أو متعلقا بالأكثر، فلو كان تنجز الأقل تفصيلا مستلزما لعدم تنجز الوجوب الواقعي لو كان متعلقا بالأكثر للزم الخلف أو لزم من وجوده عدمه، فلا يمكن الانحلال. انتم تقولون الانحلال مبني على تنجز الأقل تفصيلا، اما تنجز الأقل تفصيلاً متفرع على تنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير، سواء كان في الواقع متعلقا بالأقل أو متعلقا بالأكثر، فلو كان تنجز الأقل تفصيلا مانعاً من تنجز الأكثر لم يتنجز الوجوب الواقعي على كل تقدير وهذا خلف، أو يلزم من وجود تنجزه في الأقل عدم تنجزه وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال. لذلك قال: بأن الانحلال محال، فهل هذا الذي ذكره «قده» يأتي في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات أم لا؟

حيث يقال: ان ما افاده «قده» مبني على إنكار التوسط في المنجزية. لأن الاعلام أجابوا عن إشكاله في التوسط في المنجزية، قالوا: هناك وجوب واقعي، اما هذا الوجوب الواقعي على فرض كونه متعلقا بالأكثر واقعاً فهو متنجز ضمن الأقل لا ضمن الأكثر، تنجز الأقل تفصيلا فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، أي سواء كان الوجوب الواقعي متعلقا بالأقل أو متلعقاً بالأكثر.

أمّا هل ان تنجز الأقل تفصيلاً متفرع على تنجز الوجوب الواقعي في ضمن أي منهما، هذا الذي نختلف فيها، نقول: تنجز الأقل فرع تنجز الوجوب الواقعي وإن كان متعلقا بالأكثر، اما هذا الوجوب الواقعي متوسط في المنجزية، فهو متنجز في الأقل لا في الأكثر بحيث لو ترك الأقل لاستحق العقوبة على مخالفة الوجوب الواقعي، ولو ترك الأكثر مع الإتيان بالأقل لم يكن مستحقا للعقوبة. فأجابوا على عن دعواه الانحلال بهذا الجواب. هذا التوسط في الانحلال هل نحتاج إليه في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات؟

سيد المنتقى قال: نعم الاشكال مستحكم. ويأتي الكلام عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.