أصالة الصحة | الدرس 1

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

والكلام فعلاً في المدخل لهذا البحث وأمثاله من البحوث حول الأصول والإمارات العقلائية. وهذا المدخل يتضمن عدّة جهات:

الجهة الأولى: في تعريف الاعتبار.

الافتراض الذهني لأي قضية ولأي موضوع معين يتنوع على نوعية: إذ تارة: يكون تخيّلاً، وتارة: يكون اعتباراً. فالتخيل: هو عبارة عن افتراض امر لا واقع له، كأن افترض اجتماع النقيضين، أو افترض وجود شريك الباري، أو افترض أن العدم له أصالة في الخارج، وهذا مجرد تخيل.

والنوع الثاني: وهو الاعتبار وهو عبارة عن افتراض المحاكاة بغرض ترتب أثر معين، فالاعتبار لا يكون في أمور لا واقع لها وانما الاعتبار يكون بافتراض شيء ذا واقعية، فهناك شيء له واقعية وأنا افترض شيئا آخر مصداقاً لذاك الشيء الذي له واقعية. كأن اعتبر الملكية بين الإنسان وبين شيء من الأشياء باعتبار ان الملكية حقيقة تكوينية فأنا اجعل الملكية المفترضة محاكية للملكية الواقعية. أو اعتبار الزوجية أو اعتبار الوجوب أو اعتبار الحرمة، فإن جميع الاعتبارات ترجع إلى نكتة واحدة وهي افتراض مفهوم معين محاكياً لما له واقعية سواء كانت هذه الواقعية بالوجود أو كانت هذه الواقعية بالتقرر في عالم الواقع.

فالفرق بين التخيل والاعتبار: ان التخيل افتراض أمر لا واقعية له. بينما الاعتبار: افتراض امر محاكيا لما له الواقعية خارجاً أو ذهناً أو في عالم نفس الأمر كما يعبرون، وإنما افترض أمراً ذا واقعية بلحاظ ترتيب اثر معين.

الجهة الثانية: ان الاعتبار على نوعين: أدبي، وقانوني.

فالاعتبار الأدبي: هو تنزيل شيء منزلة شيء آخر بغرض التأثير في نفس المخاطب. مثلاً: تنزيل الرجل الشجاع منزلة الأسد، حيث إن للأسد تأثيراً نفسياً فأنا بغرض تحقيق هذا التأثير النفسي في نفس المخاطب أنزل الرجل الشجاع منزلة الأسد، فأقول: زيد أسد.

وأما الاعتبار القانوني: فهو جعل ما يترتب عليه أثر عملي، الجعل الذي يترتب عليه اثر عملي هو الاعتبار القانوني ولذلك قيل كما في كلمات السيد الأستاذ «دام ظله» وكما في كلمات صاحب الميزان «قده» بأن الاعتبار الأدبي ما لا يتطابق فيه المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، حيث إن الغرض من الاعتبار الأدبي هو نقل التأثير النفسي من المنزل عليه للمنزل إذن لا محالة المراد الاستعمالي منه غير المراد الجدي، فإذا قيل: زيد أسد أو رأيت أسداً يرمي أو رأيت أسد يخطب، فإن المراد الاستعمالي وهو: الحيوان المفترس ليس مراداً جدياً، إذ المراد الجدي هو تنزيل الرجل الشجاع منزلة الأسد بغرض أن ينتقل له ذلك التأثير النفسي.

وأما الاعتبار القانون فحيث انه جعل بغير ترتب أثر عملي على هذا الجعل، إذن بالنتيجة لا حاجة فيه إلى التنزيل ولا إلى جعل المراد الاستعمالي مغايرا للمراد الجدي، بل يتطابق فيه المراد الاستعمالي مع المراد الجدي.

فاختلاف المراد الاستعمالي مع المراد الجدي في الاعتبار الادبي وتطابقهما في الاعتبار القانوني بلحاظ الأثر، حيث إن الاثر في الاول يقتضي المغايرة بينهما والأثر في الثاني يقتضي التطابق بينهما.

نعم، قد يكون الاعتبار الادبي مبرزاً للخطاب القانوني كما في خطابات الشارع واستعمالاته، مثلاً: عندما يقول الشارع: يجزيك من التراب عشر سنين، فإن هذا اعتبار ادبي إذ لا إشكال ان التراب لا يجزي عشر سنين، فهذا تنزيل، أي تنزيل استخدام التراب منزلة ما يوجب الطهور من الحدث عشر سنين. والغرض من هذا التنزيل هو التأثير النفسي في المخاطب، بمعنى ان الغرض من هذا التنزيل ان تنزيل استعمال التراب منزلة ما يكفي في الطهورية عشر سنين، حيث إن الغرض من هذا التنزيل، حيث إن المراد الاستعمالي هنا غير المراد الجدي فمرجع القضية إلى التنزيل، والغرض من هذا التنزيل انه: لما كان الإنسان يسعى بطبعه لأن يحصل على طهارة من الحدث مدة مديدة قال له الشارع: بان التراب مثل ما يوجب ذلك الطهور مدة مديدة بغرض ترغيبه بالتطهر في التراب. هذا اعتبار ادبي ولكنه مبرز لقانون اعتباري وهو طهورية التراب، أي ان الشارع لكي يتوصل إلى الاعتبار القانوني وهو طهورية التراب ابرز هذا الاعتبار القانوني بالاعتبار الادبي وهو تنزيل استعمال التراب منزلة ما يرفع الحدث عشر سنين. فاستخدم الاعتبار الادبي مبرزاً للاعتبار القانوني.

الجهة الثالثة: أن الاعتبار القانوني ينقسم إلى اعتبار تكليفي واعتبار وضعي.

قلنا بان الاعتبار القانوني جعل يترتب عليه اثر عملي، فتارة يكون الاثر المنظور لهذا الاعتبار هو المحركية أو الزاجرية، أو الترخيص أو الترجيح بمعنى أن يكون المنظور في الاعتبار هو تحريك المكلف أو زجره أو إرخاء العناء أو الترجيح، أي ترجيح الفعل أو الترك، فبما ان الغرض من هذا الاعتبار هو اثر عملي وهذا الاثر العملي موطنه وموقعه هو نفس المكلف لزجرها أو بعثها، بإرخاء العنان لها أو بترجيح الفعل أو الترك لها، فهذا الاعتبار القانوني يسمى بالاعتبار التكليفي.

نعم، هنا خلاف كما تكرر ذكره عدة مرات وهو:

ان حقيقة الحكم التكليفي هل هي أمر واقعي وهي عبارة عن اقتضاء الملاك لفعل أو ترك معين؟ كما نسب إلى المحقق الطهراني أو انه عبارة عن امر نفساني وهو الإرادة المبرزة أو الكراهة المبرزة أو إرخاء العنان المبرز، كما ذهب اليه المحقق العراقي؟ أو ان التكليف «الحكم التكليفي» مرجعه إلى الاعتبار كما ذهب اليه المشهور وان اختلفوا ايضا اصحاب الاعتبار في ان التكليف اعتبار البعث أو الزجر أو اعتبار الفعل على ذمة المكلف أو ما أشبه ذلك من اختلافاتهم في الصياغة، أي صياغة التكليف صياغة عقلائية. هذا لا يهمنا في البحث.

المهم ان هناك اعتباراً تكليفياً واعتباراً وضعياً. والاعتبار الوضعي هو اعتبار علقة معينة بغرض ترتيب أثر معين على تلك العلقة، كاعتبار الملكية لزيد أو اعتبار الزوجية بين شخصين أو اعتبار النجاسة أو الطهارة، الاعتبار لعلقة معينة بغرض ترتب أثر عملي عليها.

نعم هنا وقع البحث عندهم في أن الفرق بين الاعتبار التكليفي والاعتبار الوضعي هل هو بالتركب والبساطة، حيث ذهب البعض إلى ان الاعتبار التكليفي كالسيد الأستاذ «دام ظله» متقوم البعث مع الوعيد على الترك، وهذا وجوب. أو البعث مع الوعيد على الفعل، وهذه حرمة. أو البعث مع الوعد على الفعل، وهذا استحباب. أو البعث مع الوعد بالثواب على الترك، وهذه كراهة. هل ان الاعتبار التكليفي مركب؟ أم انه بسيط كالاعتبار الوضعي، فإن الاعتبار هو اعتبار مفهوم الزوجية أو اعتبار مفهوم الملكية أو اعتبار مفهوم الحقية وأمثال ذلك، اعتبار بسيط بغرض ترتب أثر عملي على هذا الاعتبار.

والمسألة هي ترجع إلى تحليل المرتكزات العقلائية في انه المرتكزات العقلائية في الاحكام التكليفية قائمة على التركيب أم على البساطة، ونحن عندما نرجع إلى المرتكزات العقلائية نجد ان هناك اعتباراً وغرضاً من هذا الاعتبار لا ان هناك تركيباً، بمعنى ان اعتبار التكليف لما كان الغرض منه هو التأثير على نفس المكلف بالمحركية أو الزاجرية، بالترجيح، بإرخاء العنان وما اشبه ذلك، حيث إن الغرض من الاعتبار التكليفي هو الوصول إلى هذا الاثر فلابد من ضمان لتأثير هذا الاعتبار على نفس المكلف، ما دام الغرض هو التأثير على نفس المكلف فما الذي يضمن لنا ان هذا الاعتبار يكون مؤثراً في نفس المكلف؟!

من هنا قُرِنَ الحكم التكليفي بالحكم الجزائي، وهو لكي أضمن تأثير الاعتبار التكليفي على نفس المكلف اقرنه بحكم جزائي، فأقول: اعتبار الوجوب منّي مساوق لأن يكون لي الحق في معاقبة المخالف. فهناك اعتباران: اعتبار لنفس التكليف وهو الوجوب أو الحرمة، واعتبار لحق جزائي، وليس لمسألة الوعيد كما يذكر السيد الأستاذ أن المولى إذا قال: يجب، فمعنى يجب يعني ابعثك متوعداً لك على الترك، أو عندما يقول يحرم: يعني ازجرك متوعداً إياك على الفعل، ليس هذا في عالم العقلاء هو النوع من التركيب موجود. في عالم العقلاء أن الدولة إذا قال: يجب دفع الضرابة أو يحرم مخالفة إشارة المرور، يرجع ذلك إلى أمرين: اعتبار الوجوب أ أو الحرمة، واعتبار الحق الجزائي، يعني ان الدولة في اعتباها للوجوب أيضاً تقوم باعتبار آخر مساوق له، وهو اعتبار ان لها الحق مجازاة من يخالف ذلك. فهناك اعتباران مساوقان: اعتبار الوجوب، واعتبار أنّ من يصدر منه الوجوب له الحق في المعاقبة. والاعتبار الثاني مصحح للاعتبار الاول، بمعنى انه لولا الاعتبار الثاني لما كان الاعتبار الأول يعني لما كان الاعتبار الاول مضمون التأثير، فلغرض أن يُجعل الاعتبار الاول مضمون التأثير لأجل ذلك جاء مقترنا بالاعتبار الثاني، لأن أن حقيقة الاعتبار التكليفي مركبة من بعث ووعيد كما هو عن السيد الأستاذ «دام ظله».

وأما بالنسبة إلى الاعتبار الوضعي فسيأتي تحليله إن شاء الله في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين.