أصالة الصحة | الدرس 3

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

بقيت جهتان مرتبة بأقسام الاعتبار وتفاصيله:

الجهة الأولى: ذكر السيد الشهيد قده انه إذا كان الاعتبار العقلائي راسخا فلا يعقل الردع عنه بخبر الثقة إذ لابد ان يكون الرادع بحجم المردوع عنه، فاذا كان المردوع عنه سيرة عقلائية راسخة أو ارتكازا عقلائيا راسخا فلا يكتفى بخبر الثقة في الردع عنه.

وبالتالي حيث لا يكفي الردع عن السيرة العقلائية بخبر الثقة فيكتشف من ذلك امضاء السيرة.

ولكن شيخنا الأستاذ «قده» افاد بأنه صحيح ان خبر الثقة لا يكفي في الردع عن السيرة فلا يمكن ان يقال ان العمل بالسيرة محرم كما لو فرضنا ان ما قامت عليه السيرة الاباحة فلا يمكن ان يقال بمجرد خبر الثقة ان العمل والجري وراء السيرة عمل محرم، ولكن عدم كفاية خبر الثقة في الردع لا يستلزم اكتشاف الامضاء، فإن امضاء السيرة امر وجودي متقوم بالتفات الشارع الى السيرة القائمة وقدرته على الردع وسكوته عن الردع لا لداع الا الامضاء والرضا، وبالتالي فما لم يحرز الامضاء فلا يمكن الاحتجاج بالسيرة، فلو قامت السيرة على حكم معين سواء كان تكليفيا أو وضعيا فإن مجرد عدم كفاية خبر الثقة في الردع عن السيرة لا يستلزم اكتشاف الامضاء بل ان وجوده مانع من احراز الامضاء فلا يمكن العمل بالسيرة.

اذن هناك فرق بين حيثيتين الأولى هل انه يشرع الاخذ بالسيرة مع وجود الخبر الرادع أم يحرم العمل بالسيرة مع وجود الخبر الرادع فنقول مجرد وجود الخبر الرادع لا يعني ان العمل بالسيرة محرم تكليفا أو تشريعا ولكن هذا لا يعني امضاء السيرة وصحّة الاحتجاج بها، فهناك فرق بين هاتين الحيثيتين وعلى الفضلاء ان يتأملوا في الفرق بينهما.

ولكن هناك من فرق بين قيام السيرة على الموضوعات وقيامها على الاحكام، فاذا فرضنا ان الاعتبار العقلائي قائم على الحكم كما لو قام الاعتبار العقلائي على ثبوت خيار الغبن أو على ثبوت النفقة للزوجة على الزوج وأمثال ذلك فاذا فرضنا ان الاعتبار العقلائي قام على حكم إذن مجرد خبر الثقة لا يكفي في الردع عن هذه السيرة العقلائية ولكن لا يكتشف امضاء هذه السيرة بمجرد عدم كفاية خبر الثقة في الردع عنها.

واما لو فرضنا ان السيرة قائمة على الموضوعات كما لو قامت على ان حق الاختصاص مال من الأموال، فحينئذٍ يقال بأن قوله ما تركه الميت من مال فهو لوارثه هل يشمل عنوان ”من مال“ ما قام الاعتبار العقلائي على انه مال، فالاعتبار العقلائي محقق للموضوع ولصغرى الخبر، فاذن في مثل هذا المورد يقال بأنه حيث لم يثبت الردع عن السيرة القائمة على الموضوع إذ لا يكفي خبر الثقة في الردع عنها إذن فمقتضى ذلك شمول الدليل لما هو مال بحسب الاعتبار العقلائي، إذ لا نحتاج هنا الى ان نثبت شرعية هذا الاعتبار، بل يكفينا ان نقول ان الحق كحق الاختصاص أو السرقفلية مال من الأموال ما دام الاعتبار العقلائي يراه مالا، فهو مصداق لقوله ما تركه الميت من مال وان لم نحرز شرعية هذا الاعتبار.

ولكن قد يتأمل في ذلك بأن العناوين الواردة في لسان الأدلة هل هي منصرفة للعنوان بما له من مفهوم عرفي أو بما له من مفهوم شرعي، لان العناوين الواردة في لسان الأدلة تارة تكون حاكية عن أمور تكوينية كما إذا افترضنا انه ورد في لسان الأدلة عنوان الأرض أو التراب فاذا كان الوارد في لسان الأدلة عنوان تكويني فلا محالة يرجع هذا العنوان بما له من مفهوم بنظر العرف حاك عن حقيقته التكيونية، واما إذا كان العنوان اعتباريا بمعنى انه يحكي عن مفردة اعتبارية لا عن حقيقة تكوينية كعنوان الزوج أو الاب أو الأخ أو المال فحينئذٍ يقال مقتضى صدور هذا العنوان عن الشارع نفسه انصراف العنوان لما لهذا العنوان من معنى شرعي.

أو يقال بالتفصيل بمعنى انه تارة يتصدى الشارع لبيان حدود هذا الامر الاعتباري وتارة لا يتصدى لذلك، صحيح ان العنوان عنوان اعتباري ولكن تارة هذا العنوان الاعتباري تصدى الشارع لبيان حدوده كما في الزوج حيث ان للزوجية حدودا شرعية أو الابوة أو البنوة فهنا يحمل العنوان على معناه الشرعي، اما لو فرضنا انه لم يتصد لذلك كما في قوله اوفوا بالعقود أو ما تركه الميت فهو لوارثه.. الخ فمقتضى الاطلاق المقامي للدليل ان معناه هو المعنى العرفي حيث انه الشارع لو كان يريد معنى غير هذا المعنى العرفي لنبه عليه، فتأمل.

الجهة الثانية: ان الاعتبارات العقلائية سواء كانت قائمة على الحكم أو على الموضوع فإن هذه الاعتبارات العقلائية على نوعين: اما ان ترجع لامارة عقلائية أو لاصل نظامي، ولا يتصور في الاعتبارات العقلائية أصل تعبدي، مثلاً دلالة اليد على الملكية قام الاعبار العقلائي على دلالتها على الملكية ولكن هذا من باب الامارية بمعنى ان العقلاء لما راوا ان الغالب في اليد ان تكون مالكة أو ذات ولاية على ما تحتها فلأجل هذه الغلبة انعقد لليد ظهور لدى العقلاء في الحكاية والكاشفية عن الملكية أو عن الولاية لما تحت اليد على الخلاف في بحث قاعدة اليد في ان اليد امارة على الملكية أو انها امارة على الولاية، المسالة هنا مسالة ظهور لا جري عملي صرف فمنشا ظهور اليد في الملكية أو الولاية هو الغلبة كما نقول في خبر الثقة انه امارة عقلائية على الواقع للغلبة فكذلك مسالة اليد.

وتارة يكون الاعتبار العقلائي أصلا نظاميا لا امارة كما في اصالة الصحّة كما سياتي الكلام عنها فإن السيرة العقلائية مثلاً جرت على البناء على الصحّة في العقود والايقاعات فمتى يشكون في عقد أو إيقاع انه صحيح أم لا بنوا على صحته على التفصيل الذي سيأتي بحثه فبناء العقلاء على الصحّة أي ترتيب اثار الصحّة على العقود والايقاعات هذا البناء العملي امارة؟ نقول هو أصل، جرى بناؤهم على ترتيب اثار الصحّة، ومنشأ هذا البناء في العقود والايقاعات هو المصلحة النظامية، بمعنى انهم لما ادركوا ان صلاح النظام الاجتماعي يتوقف على ترتيب اثار الصحّة على العقود والايقاعات جرى بنائهم على ذلك حفظا لهذه المصلحة النظامية وتحرزا عن اختلال النظام لا ان الغالب في العقود والايقاعات ان تكون صحيحة وان هذه الغلبة منشأ لظهور كل عقد أو إيقاع في كونه قد وقع صحيحاً، بل يجرون اصالة الصحّة في العمل اثنائه، فالعمل الصادر من العامل اثناء انشغاله به إذا شكوا في صحته أو عدمها يبنون على ترتيب اثار الصحّة عليه.

ويمكن المناقشة في هذه الأمثلة وتبديلها بامثلة أخرى كبنائهم على حجية خبر ذي اليد بما تحت يده وما اشبه ذلك.

المهم ان الاعتبار العقلائية قد يكون من باب الامارية وقد يكون من باب الأصل العملي فما هي الثمرة العملية في الفرق بينهما؟

نقول ان الثمرة بينهما هو الحجية في المثبتات حيث انه إذا احرزنا ان الاعتبارات العقلائية القائمة على دلالة اليد على الملكية من باب الامارية أو قيام البناء العقلائي على الاستصحاب ان كان الاستصحاب امارة عقلائية أو قيام البناء العقلائي على قاعدة الفراغ إذا افترضنا اننا احرزنا ان هذا امارة عند العقلاء فهو حجة في مثبتاته ولوازمه كما هو حجة في مدلوله المطابقي لان النكتة واحدة بمعنى ان النكتة في بنائهم على اماريته وكاشفيته عن الواقع هي الغلبة، ولا فرق فيها بين المدلول المطابقي والاتلزامي فإن خبر الثقة مثلاً إذا غالب المطابقة للواقع بحسب مدلوله المطابقي كان غالب المطابقة للواقع بحسب مدلوله الالتزامي وكذلك في اليد والاقرار.. الخ

فكل ما احرزنا انه امارة عقلائية ولم يردع الشارع عن سعة كاشفيته فيمكن البناء على حجيته في مثبتاته ولا يختص هذا بخبر الثقة، كما ذهب اليه سيدنا الخوئي «قده»، حيث قال بأنه لا توجد امارة حجة في مثبتاتها الا خبر الثقة، لان بناء العقلاء قام على ترتيب اثار الكاشفية عن الواقع على خبر الثقة في مدلوله المطابقي وفي مدلوله الالتزامي، واما الامارات الأخرى فلا..

فان المفروض ان الامارات الأخرى أي إذا احرزنا انها امارة، فاذا احرزنا ان اليد امارة وان قاعدة الفراغ امارة، إذا احرزنا الامارية فهي حجة في مدلولها الالتزامي، ولا فرق في ذلك بين خبر الثقة وغيره، الا ان يناقش في الصغرى اننا لا نحرز ان هذه امارات.

واما بالنسبة للاصل النظامي كما إذا لم نحرز ان هذا البناء العقلائي امارة يكفينا عدم الاحراز، فحينئذٍ مجرد امضاء الشارع له لا يستفاد منه امضاؤه له حتّى في المدلول الالتزامي فإن هذه السعة في الامضاء مما تحتاج الى شاهد.

وطبعا ذكرنا في ضمن الجهة السابقة ان الاعتبار العقلائي قد يقوم على الموضوع وقد يقوم على الحكم وقد يكون الحكم الذي يقوم عليه الاعتبار العقلائي حكما وضعيا، وقد يكون تكليفيا وامثال ذلك.

هذا غير الشروط الارتكازية فإن الشروط الارتكازية أيضاً نوع من أنواع الاعتبار العقلائي، ولكن الشرط الارتكازي قد يكون عاما وقد يكون خاصاً أي قد يكون شرطا ارتكازيا في العالم العقلائي باسره كاشتراط المساواة بيان الثمن والمثمن من حيث المالية.

وهنا ينبغي التنبيه على خلط البعض في مناقشة السيد الخوئي «قده» حيث ان السيد الخوئي «قده» صرح بأنه لا يشترط في صحّة البيع مالية العوضين، بيع ما ليس بمال صحيح، وكذلك بيع حفنة من التراب لغرض شخصي وان لم يكن المبيع مالا، يقول السيد الخوئي لا يشترط في المعاوضات كالاجارة مثلاً المالية في العوض والمعوض، بل المعاوضة تصح وان لم يكن العوض أو المعوض مالا، ولكن كان هناك غرضا شخصيا يُخرج المعاملة عن كونها سفهية، فبنظر المشهور من الفقهاء ان المعاملة السفهية باطلة، أو يخرج المعاملة عن كونها ”معاملة سفيه“، حيث يرى السيد الخوئي ان معاملة السفيه باطلة.

هذا شيء ولكن شرط المساواة في المالية أو شرط المالية كشرط ارتكازي شيء اخر، السيد الخوئي يقول بأنه المالية في المبيع أو الثمن شرط ارتكازي لا من باب انه اعتبار عقلائي في الصحّة.

اذن المالية ليست شرطا في صحّة البيع لا شرعا ولا عقلاءً، البيع بدون المالية صحيح كما لو صرح المتبايعان بذلك، اما ان مالية المبيع والثمن أو العوض والمعوض في سائر المعاوضات شرط ارتكازي أو لا، نقول نعم شرط ارتكازي تخلفه لا يوجب فساد المعاملة ولكن يوجب ثبوت الخيار، ولذلك كما انه هناك شرطا ارتكازيا في المالية، هناك شرط ارتكازي في المساواة في المالية بين الثمن والمثمن، بحيث لو تبين ان احدهما مغبون أي البائع أو المشتري فله خيار الغبن، فإن مرجع خيار الغبن عنده الى تخلف الشرط الاتركازي وهو اشتراط المالية، فالشرط الارتكازي اعتبار عقلائي قد يكون اعتباريا عاما كاشتراط المالية وقد يكون خاصا كاشتراط عدم الدخول بالمرأة قبل ليلة الزفاف هذا شرط خاص ببعض المجتمعات.

الشروط الاتركازية من نوع الاعتبارات العقلائية ولكن هذه الشروط الارتكازية ليست دخيلة في الحكم بالصحة وانما هي دخيلة في ثبوت الخيار أو في تحقيقها لموضوع المؤمنون عند شروطهم.. هذا تمام الكلام في المدخل لبحث اصالة الصحّة.

والحمد لله رب العالمين.