أصالة الصحة | الدرس 5

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

المعنى الثاني _لأصالة الصحة_: هو التمسك بالعمومات في موارد الشبهة الحكمية للصحة والفساد، مثلاً: اذا شككنا في أن عقد التأمين هل هو عقد صحيح أم لا؟ فهل يصح التمسك بإطلاق ﴿أوفوا بالعقود لإثبات صحته، وهذا ما يسمى بأصالة الصحة على بعض المسالك، أو إذا شككنا في أنه هل يعتبر القبض والإقباض في صحة الإجارة أو لا؟ فهل يصح التمسك ب﴿أوفوا بالعقود لإثبات صحته في حال فقدانه لهذا الوصف أم لا؟

وهنا شبهة أثيرت وهي انه: اذا قلنا بأن موضوع ﴿أوفوا بالعقود ذات العقد فإنه يمكن التمسك به لإثبات صحة العقد عند الشك، وأما لو كان موضوع ﴿أوفوا بالعقود العقد الصحيح لا مطلق العقد، التمسك به لإثبات صحة العقد تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية. والوجه في طرو هذه الشبهة: إما دعوى أن الالفاظ موضوعة للصحيح، أي ان ألفاظ المعاملات موضوع للصحيح، إذن فبالنتيجة ما هو موضوع وجوب الوفاء هو العقد الصحيح لا مطلق العقد، وإما دعوى أنه وإن كانت ألفاظ المعاملات موضوعة للأعم ولكن هناك نكتتان تؤديان إلى أن نقول: بأن موضوع وجوب الوفاء هو العقد الصحيح:

النكتة الأولى: ان الأمر بالوفاء بالعقد الفاسد تهافت، فمن جهة يحكم الشارع بفساده وعدم الأثر له ومن جهة يحكم بوجوب الوفاء به، فهذا تهافت في الجهل بالنظر العرفي، ومقتضى ذلك ان يكون ظاهر قوله ﴿أوفوا بالعقود العقد الصحيح، وإلا لوقع التهافت في العقد الشرعي بالنظر العرفي.

النكتة الثانية: ان يقال بمحذور اللغوية، إذ من اللغو ان يأمر الشارع بالوفاء بالعقد الفاسد الذي لا أثر له، إذن فمقتضى دلالة الاقتضاء وصيانة الدليل عن اللغوية هو أخذ الصحة في موضوع وجوب الوفاء، فكأنه قال: اوفوا بالعقود الصحيحة، فإذا شك في صحة العقد وعدمه لم يجز التمسك بالإطلاق لأجل إثبات صحة العقد.

ولكن أجيب عن ذلك الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: أن يقال بأنه ما هو رافع للغوية ودافع لمحذور التهافت في الجعل بنظر العرف ليس هو أخذ عنوان الصحيح في موضوع وجوب الوفاء، بل أخذ العناوين الخاصة التي حكم الشارع بفسادها، وبيان ذلك:

ان لدينا عاماً ومخصصات: اما العام فهو قوله ﴿أوفوا بالعقود وقوله: ﴿أحل الله البيع.

وأما المخصصات فهو قوله «القمار لا أثر له شرعاً، الربا لا أثر له شرعاً، البيع الغرري لا اثر له شرعاً» وغير ذلك من المخصصات، فما خرج عن هذه العمومات ليس هو عنوان العقد الفاسد كي يثبت نقيضه أو ضده وهو العقد الصحيح وإنما الذي خرج عن هذه العمومات العنوان الخاص وهو عنوان القمار، عنوان الغرر، عنوان الجزاف، وبالتالي فهما هو موضوع هذه العمومات العقد الذي ليس بقمار ولا جزاف ولا غرر ولا رباً وأمثال ذلك، لا أن موضوع هذه العمومات هو العقد الصحيح، بل موضوعه عنوان سلبي وهو عدم هذه العناوين الخاصة، فإن هذا هو مقتضى الجمع العرفي بين العام والمخصصات، وبناءً على ذلك: فلا يرد محذور اللغوية كما لا يرى محذور التهافت بنظر الجهل، إذن فيكفي في رفع هذين المحذورين أن يقال: بأن موضوع وجوب الوفاء عنوان سلبي وهو عدم هذه العناوين الخاصة التي حكم الشارع بعدم تأثيرها لا أنه يتوقف دفع المحذور على افتراض عنوان صحيح كي يقال بأن لازم ذلك ان يكون التمسك بالعام عند الشك في صحة عقد أو اشتراط أمر في صحته على نحو الشبهة الحكمية انه تمسك في الدليل في الشبهة المصداقية، نعم، لو قلنا بأن الألفاظ موضوعة للصحيح لا تتم هذه المعالجة بل نحتاج إلى معالجة أخرى، ولكن بناء على ان الالفاظ موضوعة للأعم ومنها لفظ العقد مع ذلك يصح التمسك بالعمومات بلحاظ ان موضوعها عنوان سلبي لا عنوان إيجابي وهو عنوان الصحيح.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الشهيد & في أصوله من جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية اذا كانت الشبهة شبهة حكمية لا تعرض الا من قبل المشرّع نفسه، وكان الدليل وارداً على سبيل العموم. مثلاً:

عندما يرد قوله: «كل ماء مطهّر» ﴿وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً فهذا عام وهو قوله «كل ماء مطهر»، فلو ورد عليه مخصص لفظي بأن قال الشارع: إنما يكون الماء مطهراً إذا كان طاهراً فحينئذٍ لا يصح التمسك بالعام عند الشك في طهارة الماء على نحو الشبهة الحكمية كما لو شككنا في أن بخار البول الذي يتحول إلى ماء بعد ذلك هل هو طاهر أم لا؟ على نحو الشبهة الحكمية، فإنه لا يصح التمسك بقوله «كل ماء مطهر» لأنه خصص بما كان طاهراً، فإذا شككنا في طهارة الماء فحينئذٍ يكون التمسك بالدليل فيه تمسكاً في الشبهة المصداقية.

اما اذا لم يرد مخصص لفظي وإنما المقيّد مقيّد لبيّ بمعنى ان العقل يحكم بأنه لا يعقل أو ليس من النظر العرفي ان يكون الماء مطهراً مع عدم كونه طاهراً، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، فهناك مقيد لبيّ اما عقلي أو ارتكاز عرفي بأنه اذا قال الشارع: «كل ماء مطهر» فمنظوره: الماء الطاهر، لأن الماء النجس لا يكون مطهراً إما عقلاً أو عرفاً، فالمقيد مقيد لبي وليس مقيداً لفظياً، وإذا كان المقيد مقيداً لبياً ولم يصدر من قبل الشارع نفسه، إذن نقول: بما أن تنقيح الموضوع وهو أن الماء طاهر أم ليس بطاهر مما لا يعرف إلا من قبِل الشارع نفسه _يعني الطهارة على نحو الشبهة الحكمية_ فإلقاء الشارع الدليل على سبيل العموم بقوله «كل ماء مطهّر» مع التفاته إلى أن المطهرية فرع الطهارة وأن الطهارة لا يمكن معرفتها إلا من قِبله إلقاء الدليل على نحو العموم ظاهر في أن الشارع شخّص أي تكفل تنقيح الموضوع وشخّص أن كل فرد من أفراد الماء فهو طاهر فلذلك القى الدليل على نحو العموم فقال «كل ماء طاهر».

إذن فهنا لو شككنا في طهارة ماء على نحو الشبهة الحكمية صح التمسك بالدليل. فما هو الموجب لصحة التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية: أن تكون الشبهة شبهةً حكمية لا تعرف إلا من قبل الشراع، أن يكون المقيد لبيّاً، حيث إن كون المقيد لفظياً يوحي، أي لو أن الشارع بنفسه قال: لا يكون مطهرا حتى يكون طاهراً، نفس إلقاء المقيد اللفظي ظاهر عرفاً في أن الشارع أوكل تنقيح الموضوع على المكلف لا إلى المشرّع نفسه. بينما اذا كان المقيد لبيّاً فلم يصدر من الشارع ما يوحي بأنه أوكل تنقيح الموضوع وتشخيصه على نظر المكلف من دون فرق بين أن يكون العام وارداً على نحو القضية الحقيقية كالمثال الذي ذكرناه، أو كان وارداً على نحو القضية الخارجية كما في قوله «لعن الله بني أمية قاطبة».

إذن فإذا قال الشارع ﴿أوفوا بالعقود وقام المقيد اللبي على أنه مقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن يكون الموضوع هو العقد الصحيح، اذ لا معنى لأن يأمر بالوفاء بما ليس صحيحاً، فإذا قال المقيد اللبي أن موضوع العام هو العقد الصحيح وشككنا في صحة عقد التأمين على نحو الشبهة الحكمية أمكن التمسك بالدليل لأن التفات الشارع إلى هذه النكتة وعدم تحديده لما هو العقد الصحيح وإلقاءه الدليل على نحو العموم ظاهر في أنه تكفل تنقيح الموضوع وشخّص ان كل فرد وكل نوع من أنواع العقود فهو عقد صحيح.

لكن هذا محل تأمل باعتبار ان الدليل اذا كان وارداً على نحو القضية الحقيقية فالقضية الحقيقية مرجعها إلى قضية شرطية فرضية، كلما تحقق الموضوع ترتب عليه الحكم، فهناك ملازمة في الفعلية بين فعلية الحكم وفعلية الموضوع. فظاهر القضية الحقيقية عدم تكفل الشارع لتنقيح الموضوع وإيكال تحقيقه على مقام آخر وهذا الظهور لا يزول من القضية الحقيقية بمجرد كون المقيد مقيداً لبيّاً وكون الشبهة حكمية مما لا يعرف أمرها إلا من قبل الشارع نفسه، فلعل الشارع اعتمد على الأدلة الأخرى في تنقيح الموضوع، أو اعتمد على الأصل العملي في تنقيح الموضوع، فمجرد أن الشارع ألقى الدليل على نحو العموم مع التفاته إلى ان الشبهة حكمية لا تعرف الا من قبله وكان المقيد مقيداً لبيّاً لا يفضي ذلك إلى ظهور الدليل في أن الشارع تكفل تنقيح الموضوع بحيث إذا شككنا في فرد منه أمكن التمسك بالدليل لإثبات اتصاف الفرد بالموضوع. فتأمل.

الوجه الثالث: أن يقال بأننا نتمسك بالإطلاق المقامي لا بالإطلاق اللفظي، كي يقال بأنه تمسك في الدليل في الشبهة المصداقية، وإنما نتمسك بالإطلاق المقامي فنقول: سواءً كان المراد الجدّي من لفظ العقود هو العقد الصحيح لنكتة اللغوية أو التهافت بنظر الجعل أو كان المراد الاستعمالي من العقود هو العقد الصحيح لكون الفاظ المعاملات موضوعة للصحيح، فإذا قال الشارع ﴿أوفوا بالعقود فمراده: العقود الصحيحة، لكن هل مراده من العقود العقود الصحيحة شرعاً؟! طبعاً المراد من قوله ﴿أوفوا بالعقود العقود الصحيحة شرعاً، لأن المفروض ان نكتة اللغوية ونكتة التهافت في الجعل بنظر العرف لا ترتفع هذه المحاذير إلا بافتراض أن موضوع ﴿أوفوا بالعقود العقد الصحيح شرعاً، فحينئذٍ يقال: بما ان الشارع لم يحدد ما هو العقد الصحيح لم يتصدى لتحديد ذلك، فمقتضى عدم تصديه لتحديد ما هو العقد الصحيح مع كون المسألة ابتلائية وكونه في مقام البيان أن ما هو صحيح عرفاً صحيح شرعاً، إلا ان ينبه على خلاف ذلك. فهنا إطلاق مقامي وهو أن صحة العقد مسألة ابتلائية، وأن الشارع لم يتصدى لتصحيحها وأنه في مقام البيان، فمقتضى هذه الأمور الثلاثة انعقاد إطلاق مقامي، ومقتضى انعقاد الإطلاق المقامي أنّ ما هو صحيح بنظر العرف صحيح بنظر الشارع إلا أن ينبه على خلاف ذلك، فأي عقد نشك في صحته: أن كان صحيحاً بنظر العرف فهو صحيح بنظر الشرع فيصح التمسك بهذه الأدلة لإثبات صحته وعدم اشتراطه بشيء بمقتضى إطلاقها المقامي.

نعم، اذا شككنا في صحته في نظر العرف هنا نعم لم يُحرَز الموضوع فالتمسك بهذه الأدلة تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية.

نعم، لو وردنا دليل خاص في عقد معين كما اذا قال: أوفوا بعقد التأمين، وافترضنا بأنه لا يمكن معرفة أن العقد صحيح أم ليس بصحيح إلا من قبل الشارع، ولا يمكن معرفته من قبل الشارع إلا من قبِل هذا الدليل فلا محالة يكون هذا الدليل دالاً بالدلالة الالتزامية على صحته. طبعاً هذا اذا كان مفاد ﴿أوفوا بالعقود الحكم التكليفي، أي يجب ترتيب آثار العقد تكليفاً، أو كان مفاد ﴿أوفوا بالعقود اللزوم الذي هو فرع ثبوت الصحة. أما اذا كان مفا ﴿أوفوا بالعقود الإرشاد إلى الصحة ابتداءً، بمعنى ان قوله «أوفوا» كناية عن الصحة فمن الواضح ان الدليل يدل على الصحة، فالكلام الآن كله التمسك بهذه الإطلاقات بناءً على أن مفاد «أوفوا» حكم تكليفي أو إرشاد إلى اللزوم الذي هو مرحلة متفرعة على مرحلة الصحة.

أمّا اذا كان مفاده من الأول الإرشاد إلى صحة العقد فمن الواضح حينئذٍ انه لا يأتي كل هذا الكلام بل يصح التمسك بالدليل عند الشك في صحة أي عقد أو اشتراطه بأي شرطٍ.

هذا تمام الكلام في أصالة الصحة بالمعنى الثاني.

والحمد لله رب العالمين.