أصالة الصحة | الدرس 8

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في المعنى الثالث لأصالة الصحة وذكرنا ان الكلام في مقامين:

المقام الأول: في عرض الروايات والنصوص الدالة على هذا الأصل وقد سبقت المناقشة في دلالته عليه.

المقام الثاني: على وجود روايات تدل على ثبوت هذا الأصل فهل هي معارضة بروايات أخرى أم لا؟ وقد تعرض الشيخ الأعظم «قده» لمجموعة من الروايات ادعي دلالتها على ذلك:

الرواية الأولى: ما ورد عن الصادق×: «لا تثق بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لن تستقال».

بدعوى: أن مفادها كما ذكر صاحب العوائد ان هذه الرواية تنهى عن تمام الوثوق بالأخذ فتكون مخصصة للأخبار المتقدمة، وحيث إن البعض الباقي من الوثوق مجمع فتخرج الأخبار المتقدمة عن الحجية والاستناد.

ولكن يلاحظ على الاستدلال بهذه الرواية:

أولاً: أن الذيل قرينة على أن مفاد الرواية الإرشاد لا الأمر المولوي حيث قال: «فإن صرعة الاسترسال لا تستقال» وظاهرها الإرشاد إلى أنه ينبغي للمؤمن أن لا يضع نفسه في موضع يؤدي إلى صرعة الاسترسال، فلا ربط لها بالحكم المولوي كي تكون دليلاً على الأصل المذكور.

ثانياً: على فرض ان مفاد الرواية هو النهي المولولي «لا تثق بأخيك كل الثقة» فمن الواضح أن المنهي عنه هو تمام الثقة لا أن المنهي عنه هو أصل الثقة، حيث قال: «لا تثق بأخيك كل الثقة» أي ان المنهي عنه أن يحقق الوثوق التام بأخيه بحيث يسترسل له في تمام أموره، فهذا هو المنهي عنه، لا أصل الثقة أي لا اصل حمل فعل الغير على الفعل الحسن، فإن محل الكلام هو انه إذا صدر فعل من قبل المؤمن الآخر مردد بين الحسن والقبيح فمقتضى هذه الأصل ان يحمل على الفعل الحسن، فالنهي عن الوثوق التام لا يعني النهي عن حمل فعل الغير على الفعل الحسن عند إجماله وتردده.

ثالثاً: إن ظاهر الرواية النظر لعالم المعاشرة لا إلى الأثر الجوانحي، ففرق بين أن نقول أن هناك اصل يقتضي أن الإنسان إذا شك في فعل الغير انه حسن أو قبيح فعليه ان يحمله على الحسن فهذا أثر جوانحي محض، وبين ان نقول: على المؤمن في مقام تعامله الخارجي مع المؤمن الآخر أن لا يثق به تمام الثقة بمعنى ان لا يفصح عنه بتمام أسراره وقضاياه، وظاهر الحديث هو الثاني أي ان المنظور له هو مقام المعاشرة والمعاملة الخارجية وليس المنظور له هو الأثر الوضعي.

هذا بالنسبة إلى الرواية الأولى.

الرواية الثانية: ما في نهج البلاغة، قال × «قال إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزيه أو حوبة فقد ظلم واذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر».

ويلاحظ على الاستناد إلى هذه الرواية:

أولاً: أن سياقها ظاهر في الإرشاد لا إلى الحكم المولوي، أي أنّ إساءة الظن في زمان الصلاح مما لا مبرر لها ما دام الزمان زمان صلاح من حيث صلاح أهله، فلذلك يعد إساءة الظن ظلما، واذا استولى الفساد على الزمان وأهله فحسن الظن تغرير بالنفس أو إيقاع للنفس في الغرر بمعنى الخطر، إذن فسياق الرواية إرشاد إلى ان صلاح أهل الزمان أو فسادهم مؤثر في طريقة التعامل مع الناس من حيث حسن الظن ومن حيث سوئه.

ثانياً: على فرض أن حكم الرواية هو الحكم المولوي فمن الواضح أن نظرها للتعامل الخارجي لا للأثر الجوانحي، حيث قال: واذا استولى الفساد على الزمان وأهله فاحسن رجل الظن برجل فقد غرر، أي أن المنهي عنه ان يقع المؤمن في الغرر والخطر نتيجة التعامل مع الآخر فالمنظور إليه حسن الظن بمعنى التسليم للآخر والانقياد إليه، إذ إنّ هذا التسليم والانقياد هو الذي يوقع في حال الغرر والخطر لا أنّ المنظور له هو الأثر الجوانحي.

ثالثاً: لو سلمنا مفاد الرواية وان مفادها حكم مولوي وانها تنهى عن سوء حسن الظن بالآخر في حال استيلاء الفساد على أهل الزمان، وتنهى عن سوء الظن بالآخر في حال استيلاء الصلاح على أهل الزمان، فغايته النهي عن سوء الظن وهذا لا يتنافى مع أن الأصل عند التردد حمل فعل الغير على الفعل الحسن.

وبعبارة أخرى: لو سلمنا مفاد الرواية، فإن مفادها الحكومة، ولا معارضة بين الحاكم والمحكوم، فتلك الروايات مثلاً: تأمر بحسن الظن أي تأمر بحمل فعل الغير على الفعل الحسن وهذه الرواية تفصل بأن مورد تلك الروايات هو فرض استيلاء الصلاح على الزمان وأهله فمفادها حاكم وليس معارضاً.

الرواية الثالثة: رواية محمد بن هارون الجلاب.

قال: سمعت أبا الحسن× يقول: >إذا كان الجور اغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يعرف ذلك منه<.

والنقاش في هذه الرواية هو النقاش في الرواية السابقة.

والنتيجة: أنه لم يقم دليل ناهض على المعارضة مع الروايات السابقة على فرض تمامية دلالتها على الأصل المذكور.

هذا كله في المعنى الثالث لأصالة الصحة.

المعنى الرابع _الذي تعرض له الشيخ الأعظم «قده» _: هو أصالة الصحة في خبر الغير.

والمقصود بأصالة الصحة في خبر الغير يتوقف بيانه على ذكر المراحل التي يتم ترتيبها تمهيداً للاحتجاج بخبر الغير والاعتماد عليه.

المرحلة الأولى: مرحلة الإرادة التفهيمية، فلو صدر كلام من شخص ولا ندري انه أراد استعمال الألفاظ في معانيها أي أراد إخطار مفاهيمها اللغوية والعرفية في أذهاننا؟ أم أن الكلام صدر منه خطأ أو صدر منه عبثاً أو انه في مقام تعلم الالفاظ مثلاً، فهنا يوجد اصل عقلائي وهو حمل كلام الملتفت على انه مراد استعمالي على انه مراد تفهيمي وان وقع الاختلاف في نكتة هذا الأصل العقلائي حيث ذهب سيدنا الخوئي «قده» إلى ان الملاك في هذا الأصل العقلائي هو التعهد بمعنى ان هناك تعهدا نوعياً لأبناء كل لغة على أن من تحدث باللفظ الفلاني أراد تفهيم المعنى الفلاني ما لم ينصب قرينة على خلاف ذلك. فهذا هو الملاك في وجود هذا الأصل المسمى بأصالة الإرادة التفهيمية.

وفي المقابل ذهب السيد الاستاذ «دام ظله» إلى ان النكتة في هذا الأصل العقلائي هو السببية القصدية، وبيان ذلك:

ان هذا الأصل من صغريات اصل عام وهو انه من صدر منه سبب لمسبب معين وهو ملتفت للسببية فقد قصد السببية، فمن صدر منه إطلاق رصاص على هدف معين وهو ملتفت إلى سببية هذا الإطلاق لتلف معين فقد قصد الاتلاف. ومن مشى في طريق وهو ملتفت إلى ان هذا الطريق يؤدي إلى النتيجة المعينة فقد قصد السببية المؤدية لتلك النتيجة، والألفاظ بنظر المرتكز العرفي أسباب لخطور معانيها في الذهن، فمن صدرت منه الألفاظ وهو ملتفت إلى سببيتها لخطور معانيها في الذهن فهو قاصد لهذه السببية.

وتنقيح أي من الملاكين يأتي في محله في الأصول.

المرحلة الثانية: حمل الكلام على المراد الجدي. أي بعد ان ثبت ان معاني الالفاظ مراد استعمالي تفهيمي فهل هذا المراد الاستعمالي مراد جدي أم لا؟

وهنا ينبغي الالتفات إلى الفرق بين الإنشاء والإخبار. فإذا صدر إنشاء ممن له أهلية الإنشاء سواء كان هذا الإنشاء طلباً كأمر أو نهي أو كان هذا الإنشاء عقداً أو كان هذا الإنشاء طلاقاً أو كان هذا الإنشاء تمنيا أو ترجياً على أية حال، إذا صدرت الجملة الإنشائية ممن هو أهل لهذا الإنشاء وقد احرزنا ان المنشأ مراد استعمالي فهو هو مراد جدي أم لا؟ مقتضى أصالة التطابق وهي اصل عقلائي بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي ان المنشأ مراد جدي له ومقتضى انه مراد جدي له ترتيب آثار المنشأ الواقعي عليه، أي ترتيب آثار المنشأ الفعلي عليه.

هذا بالنسبة إلى الجملة الإنشائية.

أما إذا صدرت الجملة الخبرية:

والمفروض أننا أحرزنا في المرحلة الأولى أن معانيها مراد استعمالي وشككنا ان هذا المراد الاستعمالي صادر عن جد أم لا؟ بمعنى انه يريد الإخبار جدا أم لا؟ أم انه قصد تفهيم المعاني ولكنه على سبيل الاستهزاء أو على سبيل التقية أو ما أشبه ذلك من الدواعي غير الجدية أي غير الجدية في الإخبار عن الواقع وإن كان تلك الدواعي هي جدية في واقعها، فالمراد بأصالة الجد: أصالة الجد في الإخبار عن الواقع وإلا الدواعي الأخرى كداعي الامتحان أو داعي الاستهزاء أو ما اشبه ذلك هي دواعي جدية، ولكن عندما يقولون هناك أصلا عقلائياً وهو أصالة الجد فالمقصود به: انه قصد الإخبار عن الواقع جداً. المقصود تحديد هذا الداعي بأصالة الجد.

فلا شك في وجود اصل عقلائي وهو أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي، الا انه في الجملة الخبرية غاية ما يترتب على ذلك كما أشار إليه المحقق الإيرواني وغيره وتبعه السيد الأستاذ «دام ظله» غاية ما يترتب على ذلك ان يؤخذ المخبر بما اخبر به، بمعنى انه نحن في هذه المرحلة وهي المرحلة الثانية لا نرتب آثار الواقع، هذه مرحلة ثالثة ترتيب آثار الواقع، بل في المرحلة الثانية نقول: ما اخبر به موافق لمتعقده فيؤخذ به، فلو قال هذا الكتاب لزيد فيؤخذ بإقراره يؤخذ بكلامه، إذن غاية ما يترتب على هذه المرحلة الثانية وهي مرحلة أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي غاية ما يترتب على ذلك ان المتكلم مأخوذ بكلامه يحتج عليه بكلامه: أن كلامك موافقة لمعتقدك، الذي يهمنا الآن أنه موافق لمعتقدك، أي أنك أخبرت بما تعتقد انه واقع، فكل أثر يترتب على موافقة الكلام للمعتقد يؤخذ به المتكلم.

بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة: ولنفترض ان الكلام خبر حتى يحصل الفرق وإلا لو كان الخبر إنشاء يحصل اثره بالمرحلة الثانية أي بمجرد اجراء أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي نرتّب آثار المنشأ الفعلي على كلامه. سواء كان المنشأ الفعلي امرا أو نهياً أم طلاقاً أم نكاحاً أم غير ذلك.

اما إذا كان الكلام جملة خبرية. فتوجد مرحلة ثالثة وهي:

هل نستطيع ان نرتب أثر الواقع هذا إخبار عن الواقع، هل نستطيع ان نرتب أثر الواقع على كلامه وهو معنى الحجية سواء قلنا بأن معنى الحجية المنجزية أو المعذرية أو قلنا بأن معنى الحجية الوسطية في الإثبات يعني جعل العلمية أو قلنا بأن معنى الحجية هي صحة الاحتجاج بالكلام له وعليه. بأي معنى اخترنا تفسير الحجية، على أية حال هل نستطيع ان نرتب أثر الواقع على كلام المتكلم أم لا؟

ومن الواضح ان الخبر يعني المخبر به تارة يكون المخبر به حسيّاً، تارة يكون المخبر به حدسياً.

فإن كان المخبر به حسيّاً ولم تقم قرينة على أنه استند في المخبر به الحسّي على حدس، يرتب آثار الواقع، فهنا يوجد في كلمات كثير من الأعلام يقال: إذا شك في أن المخبر به الحسي هل هو ناشئ عن حسّ أو حدس فمقتضى أصالة الحسّ ان يحمل انه ناشئ عن حسّ، هذا الكلام محل تأمل لا يوجد إجراء لأصالة الحس وراء ترتيب آثار الواقع على المخبر به، هناك كلمة مختصرة: المخبر به حسّيٌ فما لم يقم منشأ عقلائيٌ على أنه أخبر عنه عن حدس ما لم يقم منشأ عقلائي على ذلك فنرتب آثار الواقع على المخبر به بلا حاجة لأن نجري أصالة أخرى وهي أصالة الحس لتكون ممهدة لترتيب آثار الواقع على المخبر به، ولعل مقصود القائلين بأصالة الحس هو هذا المعنى: متى ما لم يقم منشأ عقلائي على الحدس يرتب آثار الواقع على المخبر به الحسي. وهذا هو معنى حجية خبر الثقة. يرتب آثار الواقع على المخبر به الحسي بلا حاجة إلى توسيط أصالة الحس. لأنه لو كان منشأ الإخبار حدساً كالإخبار بإمكان رؤية الهلال بالعين المجردة لكن لا عن حس بل نتيجة الحسابات الفلكية فلا نحرز بناء العقلاء على ترتيب آثار الواقع عليه.

وإن كان المخبر به حدسياً، نظراً، اجتهاداً، فما لم يقم منشأ عقلائي على أن منشأ الإخبار غير الحدس كما لو احتملنا أن منشأ إخباره بهذا النظر هو الاتكاء على الجن أو علم السحر أو علم الطلسمات، يعني ليس منشأ إخباره بهذا الأمر الحدسي هو حدسه وإعمال نظره واجتهاده، لو فرضنا ان الطبيب شخص العلاج لا اعتماداً على نظره واجتهاده بل اعتمادا على السحر مثلاً، فهذا مما لم يحرز بناء العقلاء على حجيته. إذن ما لم يقم منشأ عقلائي على خلاف الحدس فيعمل بإخباره الحدسي إذا كان من أهل الخبرة.

وكما ذكرنا في محله أن قيام منشأ عقلائي على الخلاف ضائر بأي أصل من الأصول، سواء في المرحلة الأولى وهو إجراء أصالة الإرادة التفهيمية، أو في المرحلة الثانية وهو إجراء الإرادة الجدية، وفي المرحلة الثالثة وهو ترتيب آثار الواقع على ما ثبت بأصل أنه مراد جدي إذا كان خبراً فكل ذلك يضر به قيام منشأ عقلائي على الخلاف.

وبعد ان تبينت لنا المراحل يأتي الكلام في انه: هل ان حجية خبر الثقة بناء على ان المستفاد من الأدلة هو حجية خبر الثقة؟ أو حجية الخبر الموثوق به بناء على مفاد الادلة هو حجية الوثوق، هل هذا مخصص بما إذا كان المخبر إمامياً؟

فيقال لا، إن كان المخبر إمامياً يحمل خبره على الصحيح بمعنى ان يرتب آثار الواقع على خبره بمجرد كونه مؤمناً وهو ما عبر عنه بأصالة العدالة. إذن فأصالة الصحة بالمعنى الرابع تعني هذا وهو انه يرفع اليد عن دليل حجية خبر الثقة أو عموم دليل حجية الخبر الموثوق به بما إذا كان المخبر مؤمناً فمتى ما كان المخبر مؤمنا يرتب على خبره آثار الواقع وإن لم يثبت وثاقته أو وإن لم يحصل الوثوق بكلامه، فقد ادعي بأن المستفاد في بعض الروايات السابقة نحو «كذّب سمعك وبصرك عن أخيك» انه في خصوص خبر المؤمن يرتب آثار الواقع وإن لم تثبت وثاقته وإن لم يحصل الوثوق بمفاد خبره.

ولكن ذكرنا فيما سبق: أن هذه الروايات غاية ما تفيد التصديق له لا التصديق به، يعني أن المؤمن مأمور بأن يتعامل مع المؤمن الآخر بأن لا يكذّبه عملاً بأن لا يكذبه أمامه. فهذه الاخبار ناظرة إلى معاملة خارجية كما يقولون المحدثون الآن «بأن لا تجرج مشاعره» يعني إذا تعاملت معه ووصلك خبر منه أو عنه انه فعل كذا أو قال كذا فعامله ظاهراً معاملة من لم يسمع عنه شيئا ومن لم يرى منه شيئاً. عامله كأنك لم تسمع عنه سوءا عامله كأنك لم ترى منه سوءا، فالمنظور في هذه الأخبار التصديق له لا التصديق به، لا ترتيب آثار الواقع على كلامه وإلا فلا يحتمل شرعاً ان يرجح إخباره على خمسين قسامة تشهد بخلاف ذلك، فإن هذه قرينة، يعني أن هذا السياق «وإن شهد عندك خمسون قسامة بأنه قال كذا فقال لم اقل فصدقه وكذبهم» هذا السياق قرينة على أن مفاد هذه الأخبار الأمر بالتصديق له ظاهراً لا الأمر بالتصديق به واقعاً.

إذن فهذا الأصل بالمعنى الرابع غير تام.

والحمد لله رب العالمين.