أصالة الصحة | الدرس 18

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: تفصيل المحقق النائيني في إجراء أصالة الصحة بناء على ان دليل أصالة الصحة هو الاجماع.

ونتعرض الآن إلى التفصيل الذي ذكره سيدنا «قده» بناء على ان دليل أصالة الصحة هو السيرة العقلائية.

فقد فصّل سيدنا «قده» في إجراء أصالة الصحة بين ان يكون الشك في الصحة ناشئاً عن الشك في شرط من شروط العقد وبين ان يكون الشك في الصحة ناشئاً عن الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين.

حيث أفاد بأن مورد أصالة الصحة ما إذا وقع الشك في الفعلية، اي في فعلية ترتب الأثر، وأما إذا وقع الشك في القابلية اي في قابلية المتعاقدين في إجراء العقد أو الطلاق أو الإيقاع أو قابلية المورد لتعلق العقد به فليس لك مجرى لأصالة الصحة.

وقد أفاد سيدنا «قده» هنا أموراً ثلاثة نتعرض اليها:

الأمر الاول: ذكر بأن دليل أصالة الصحة هي السيرة العقلائية وهي دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن والقدر المتيقن منه ما إذا وقع الشك في الصحة الفعلية، وأما إذا وقع الشك في القابلية اي قابلية المتعاقدين لإجراء العقد أو قابلية المورد لتعلق العقد به فلم يحرز قيام السيرة العقلائية على إجراء أصالة الصحة في ذلك بل احرز العدم.

الأمر الثاني: ان سيدنا «قده» ضرب عدة أمثلة كشاهد على عدم إجراء أصالة الصحة عند الشك في القابلية. المثالث الأول: ما إذا باع زيد دار عمر مع اعترافه بكونها دار عمر وان الدار ليست تحت يده وشك في انه وكيل عن عمر أم لا؟ فإن العقلاء لا يجرون أصالة الصحة في بيعه.

المثال الثاني: ما لو طلق زيد زوجة عمر وشك في كون المطلق وكيلاً عن الزوج أو لا؟ فإن العقلاء لا يرتبون آثار الصحة على طلاقه.

المثال الثالث: ما إذا باع ولي الوقف الوقف ولا ندري انه باعه لوجود مسوغ شرعي للبيع أم لا؟ فإنه لا تجري أصالة الصحة في البيع.

والمثالث الرابع: ما لو طلّق زيد زوجة عمر فانكر عمر الوكالة في الطلاق فإنه يقدم قول الزوج في انكار الوكالة مع ان الوكيل أو المدعي للوكالة مستند لأصالة الصحة في طلاقه.

واقتنص من هذه الأمثلة ان السيرة العقلائية جارية على عدم ترتيب آثار الصحة عند الشك في القابلية أو على الاقل لا يحرز جريانها في مثل ذلك.

الأمر الثالث: قال ان ما ذكره الشيخ الاعظم من قيام السيرة على ترتيب آثار الصحة على المعاملات الصادرة عن الناس من الاسواق وان لم تحرز قابلية الفاعل هذا ممنوع، فإن ترتيب الآثار على المعاملات الجارية في الاسواق ليست مستنداً إلى إجراء أصالة الصحة بل إلى إجراء قاعدة اليد حيث إن باليد تحرز القابلية، فإذا شككنا في ولايته على البيع أو وكالته أو كونه مأذونا من قبل المالك فإن اليد كما هي امارة على الملكية فهي امارة على الولاية على التصرف من باب الولاية أو الوكالة أو الإذن، وليس من باب إجراء أصالة الصحة. فهذا ملخص ما ذكره سيدنا «قده» في مصباح الأصول.

وقد أورد عليه تلامذته عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: ما ذكره سيد المنتقى «قده» على الامر الثالث الذي تعرض له. حيث أفاد بأنه لو كانت السيرة قائمة على ترتيب اثار الصحة على المعاملات عند الشك في قابلية القابل عرفا فقط لتم ما ذكره، فإن إجراء أصالة الصحة عند الشك في قابلة الفاعل عرفا فإن ترتيب آثار الصحة عند الشك في قابلية الفاعل عرفا لا يحرز استناده إلى أصالة الصحة بل لعله لقاعدة اليد، هذا صحيح، لكن المفروض ان السيرة قائمة على إجراء أصالة الصحة حتى في الموارد التي ليس فيها أصل أو امارة ثتبت قابلية الفاعل أو المورد، كالشك في البلوغ أو الرشد، فإن قاعدة اليد لا يتثبت ان البائع بالغ رشيد، أو إذا شك مثلاً في صحة الطلاق للشك في انه وقع في طهر لم تواقع فيه الزوجة أو لا؟ حضره شاهدان عادلان أم لا؟ فإن هذا ليس من الشك في قابلية المطلق كي تحرز القابلية بامارية اليد، وإنما هو من الشك في الشروط الأخرى ومع ذلك جرت السيرة على ترتيب آثار الصحة على ذلك.

او كما شك في مجهولية العوضية أو زيادة احدهما على الآخر في المالية مع كونهما من جنس واحد من المكيل والموزون ونحو ذلك، فإن عدم ترددهم في إجراء أصالة الصحة في هذه الموارد التي ليس فيها امارة أو أصل يحدد قابلية المورد أو قابلية الفاعل من ناحية شرعية أو عرفية كاشف عن ان السيرة اعم من مورد الشك في الفعلية بل تشمل مورد الشك في القابلية الشرعية ايضاً.

هذه هي المناقشة الاولى وهي مناقشة صحيحة.

المناقشة الثانية: أفاد في المنتقى: >ان استناد العقد أو الايقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع أصالة الصحة لأن مفاد أصالة الصحة مفاد «أوفوا بالعقود» وظاهر انه قد اخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما أخذ في موضوعه العقد لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ بيع غير المالك مخصصا لعموم «أوفوا بالعقود» ولذلك فعدم جريان أصالة الصحة في المقام انما هو لأجل عدم إحراز موضوعها وهو العقد المستند إلى المالك لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في القابلية<.

وملخص كلامه: ان مفاد أصالة الصحة مفاد «أوفوا بالعقود» ومن الواضح ان قد اخذ في موضوع وجوب الوفاء في «اوفوا بالعقود» العقد المستند إلى المالك، لأن مفاد الآية أوفوا بعقودكم، اي العقود المستندة إليكم، فما لم يحرز استناد العقد إلى المالك لم يتنقح موضوع «أوفوا بالعقود» فكذلك في أصالة الصحة إذ ما لم يحرز استناد العقد أو الإيقاع إلى المالك كما إذا باع زيد دار عمر معترفا بكونها دار عمر، وشككنا في كونه وكيلا عنه أم لا؟ أو طلق زيد زوجة عمر وشككنا في كونه وكيلا عنه أم لا؟ فهنا عدم جريان أصالة الصحة لا لأجل الشك في القابلية بل لعدم إحراز موضوعها وهو استناد العقد إلى المالك.

ولكن هذه المناقشة محل تأمل. والوجه في ذلك:

ان قياس أصالة الصحة على «اوفوا بالعقود» في غير محله، فإن الكلام في المقيس عليه ثم بالمقيس. اما بالنسبة إلى المقيس عليه فهو «أوفوا بالعقود» فتارة نختار ان مدلوله حكم مولوي وهو وجوب الوفاء، وتارة نختار ان مدلول الآية إرشاد إلى نفوذ العقد أو لزومه، فبناء على المسلك الاول: وهو ان «أوفوا بالعقود» أمر مولوي موضوعه العقد، فحينئذٍ يدعى ان موضوعه العقد المستند إلى المالك، مع ان الآية لم تذكر حيثية الاستناد ولكن المرتكز العرفي يتلقى حيثية الاستناد بمجرد تلقي الآية وذلك لحيثيتين:

الحيثية الأولى: ان هذا مقتضى مناسبة الحكم للموضوع، فإذا قيل يجب عليك الوفاء بالعقد كان ظاهراً عرفا في العقد المستند اليك بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع.

الحيثية الثانية: ان يقال انه من المستهجن ان يأمر الإنسان بعقد أجنبي أو بعقد شخص اجنبي، فهذا مقتضى هذا الاستهجان العرفي ظهور قوله «أوفوا بالعقود» في العقد المستند إلى المالك.

هذا إذا قلنا بأن مفاد «اوفوا بالعقود» الامر المولوي، واما إذا قلنا بأن مفادها الامر الارشادي اي ان مفاد «اوفوا بالعقود» ان العقد نافذ، أو ان العقد لازم، فحينئذٍ لا موجب لتخصيص موضوع النفوذ بالعقد المستند إلى المالك، فإن القرينة الموجبة لاستظهار العقد إلى المالك مبنية على إما على مناسبة الحكم للموضوع أو الاستهجان العرفي وكلاهما إنما يتصور فيما إذا كان مفاد الآية أمراً مولويا لا فيما إذا كان مفاد الآية أمراً إرشادياً وهو الإرشاد إلى النفوذ أو اللزوم، فكأنه قال من البداية: العقد نافذ أو لازم. فإنه بالنتيجة لا موجب لتخصيص موضوع الآية للعقد المستند إلى مالكه بحيث لو شك في الاستناد لم يجز التمسك بعموم الآية.

نعم، بعد تخصيص الآية بالأدلة الدالة على عدم نفوذ عقد غير المالك فحينئذٍ بمقتضى الجمع بين العام والخاص يكون موضوع الآية العقد الذي ليس صادراً من الأجنبي أو العقد المستند إلى المالك بحسب مفاد المخصص لأنه ان كان مفاد المخصص عدم نفوذ العقد الصادر من الاجنبي فحينئذٍ مقتضى الجمع بين العام والخاص ان يقال بأن موضوع العام مقيد بقيد عدمي وهو ان لا يكون العقد عقداً اجنبياً.

وإذا كان مفاد المخصص هو ان لا نفوذ الا للعقد المستند إلى المالك بحيث يكون مفاد المخصص جملة حصرية للنفوذ في عقد المالك كان قرينة على ان موضوع العام العقد المستند إلى المالك فإذا شك في الاستناد لم يجز التمسك بالعام في المورد لأنه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية لموضوعه.

فحيثية الاستناد إلى المالك في المقيس عليه هل حيثية مستفادة من ظاهر اللفظ؟ أم هي ببرك الجمع بين العام والخاص فهذا يختلف باختلاف كون مفاد الآية حكماً تكليفياً أو حكماً وضعياً.

وبالتالي لو قلنا بأن مفاد الآية حكم وضعي اي ان الامر فيها إرشاد إلى النفوذ أو اللزوم فعدم صحة التمسك بالدليل عند الشك في استناد العقد إلى المالك لا لأنه مأخوذ في الموضوع بل هو مقتضى الجمع بين العام والخاص. هذا بالنسبة إلى المقيس عليه.

اما بالنسبة إلى المقيس: فلا موجب لأخذ استناد العقد إلى المالك في موضوع أصالة الصحة، بل مقتضى السيرة العقلائية انه إذا شك في صحة العقد أو صحة هذا الطلاق إجراء أصالة الصحة عليه وإن لم نحرز حصول الوكالة أو حصول الولاية.

ولو سلمنا ان السيرة العقلائية لا تجري أصالة الصحة في المقام لعدم إحراز الموضوع وهو الاستناد إلى المالك أو الموكل فإذا سلمنا بذلك فإن هذا هو عين مدعى سيدنا «قده» وهو أن السيرة العقلائية لا تجري أصالة الصحة عند الشك في القابلية، إذ اي فرق بين التعبيرين؟ من ان نقول: ان أصالة الصحة قد اخذ في موضوعها قابلية الفاعل والمورد فإذا شك في القابلية لم تجري، أو ان نقول: بأن أصالة الصحة في العقد أو الايقاع قد اخذ في موضوعها استناد العقد إلى المالك أو الولي، فإنهما صياغتان لمطلب واحد.

نعم يبقى الفرق ان سيدنا «قده» عمم الاشكال إلى ما إذا شك في قابلية الفاعل والمورد شرعاً كما إذا شك في بلوغ العاقد أو رشده، وكما إذا شك في أن المبيع مثلاً موقوف أم ليس بموقوف، فحينئذٍ عمم الإشكال إلى ما إذا شك في القابلية الشرعية للفاعل والمورد، بينما ما يتوقف العقلاء في اجرائه هو فرض الشك في القابلية العرفية التي عبر عنها سيد المنتقى بما إذا شك في الاستناد اي في استناد العقد الموجود إلى المالك أو الولي أو استناد الطلاق إلى الزوج ونحو ذلك.

الملاحظة الثالثة: التي اوردها سيد المنتقى على سيدنا الخوئي: قال ان حصول الاثر وترتبه في المثالين، يعني ما إذا شك في البيع وفي الطلاق، يتوقف على إحراز المالك أو الزوج استناد المعاملة اليه لا من جهة كون الاستناد مأخوذاً في موضوع النفوذ بل من جهة ان المالك انما يجب عليه تسلم الدار إلى المشتري إذا صدر منه العقد وهكذا الزوج، وأصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك كي يجب على المالك ترتيب الآثار بل هي اجنبية عن المالك، وبالجملة، عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية بل من جهة خصوصية في المقام فلا يرد النقض بهما.

ومحصل هذه المناقشة:

اذا شك في ان البيع مستند إلى المالك أم لا؟ وشك في ان الطلاق مستند إلى الزوج أم لا؟ فالاثر العملي وهو انه يجب على المالك ان يسلم الدار إلى المشتري أو الأثر العملي في مسألة الطلاق من انه يحرم على الزوج بعد العدّة ايّ استمتاع بالمرأة المطلقة، هذان الأثران ليسا موضوعهما العقد أو الطلاق بل موضوعهما استناد العقد إلى المالك واستناد الطلاق إلى الزوج. إذ لا يجب على المالك ان يسلم الدار إلى المشتري ما لم يستند البيع اليه، ولا يحرم على الزوج الاستمتاع بالمرأة ما لم يستند الطلاق اليه. وبالتالي لأجل عدم إحراز الاستناد لا يترتب الأثر ولو قلنا بجريان أصالة الصحة فإن أصالة الصحة ليست من الامارات التي تثبت لوازمها كي تثبت استناد العقد أو الطلاق إلى المالك، إذن فعدم جريان أصالة الصحة في المقام لا لأجل ان الشك في القابلية بل لخصوصية في المقام وهو ان الأثر العملي فرع ثبوت الاستناد. اي الاثر العملي للمثالين هذين فرع ثبوت الاستناد لا ان هذه نكتة عامة لكل موارد الشك في القابلية.

ويلاحظ على هذه المناقشة:

اذا نظرنا إلى الأثر بلحاظ احد المتعاقدين أو احد طرفي الايقاع فالكلام تام، ولكننا إذا نظرنا إلى الأثر بلحاظ شخص اجنبي، مثلا: هل للأجني ان يتزوج هذه الزوجة المطلقة بعد تمامية عدتها أم لا؟ فالمفروض ان هذا الاثر ليس لأحد طرفي الإيقاع بل هو لطرف أجنبي وهذا الاثر العملي بالنسبة إلى الطرف الأجنبي لم يؤخذ في موضوعه إحراز استناد هذا الطلاق إلى الزواج، بل يكفي في انه طلاق صحيح وقد ثبت ذلك بأصالة الصحة.

كما في البيع، إذا وجدنا ان زيداً باع دار عمر على شخص فأراد شخص ثالث ان يرتب الأثر على هذا البيع بأن يشتري الدار من المشتري مثلاً، مع عدم وجود أمارة على ان المبيع للمشتري كما إذا افترضنا ان الدار ليست تحت يده كي تكون امارية اليد دليلا على الملكية أو الولاية، فحينئذٍ لو اراد شخص اجنبي ان يرتب الأثر فإنه يكفي في ترتيب الأثر ان يكون البيع صحيحاً ولا حاجة إلى استناد البيع إلى المالك كي يقال بأن أصالة الصحة لا تثبت حيثية الاستناد.

ويأتي الكلام في بقية المناقشات من قبل السيد الأستاذ «دام ظله».

والحمد لله رب العالمين.