أصالة الصحة | الدرس 32

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الجهة العاشرة: النسبة بين اصالة الصحة وغيرها من الأصول

وبالتحديد البحث بين النسبة بين اصالة الصحة وبين الاستصحاب الذي يلتقي معها في مواردها وحيث ان الاستصحاب تارة يكون أصلا حكميا وهو المعبر عنه باصالة الفساد أي استصحاب عدم النقل والانتقال كما اذا شكّ في عقد انه صحيح ام لا، فان الجاري فيه مع غمض النظر عن اصالة الصحّة هو استصحاب عدم النقل والانتقال او استصحاب عدم تحقق العلقة الوضعية كالزوجية او البينونة في الطلاق او أي حق اخر يستفاد من عقد او إيقاع، او ما اشبه ذلك.

وتارة يكون الاستصحاب أصلا موضوعيا كما لو شكّ في صحّة العقد للشك في بلوغ المتعاقدين فان مقتضى الاستصحاب عدم البلوغ، او لو شكّ في صحّة العقد للشك في تحقق القبول او القبض، فمقتضى الاستصحاب عدم القبول وعدم القبض، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول في النسبة بين اصالة الصحّة والاستصحاب الحكمي المعبر عنه باصالة الفساد

والبحث في هذا المقام في مطلبين: الأول اذا كانت اصالة الصحّة امارة. الثاني اذا كانت اصالة الصحّة أصلا عمليا.

المطلب الأول اذا قلنا بان اصالة الصحّة امارة فما هو وجه تقدمها على الاستصحاب الحكمي وهنا مسلكان، الأول ان نختار ان الاستصحاب أصل عملي والمسلك الثاني ان نختار انه امارة.

اما على المسلك الأول من ان الاستصحاب أصل عملي وان اصالة الصحّة امارة فان أصالة الصحّة حينئذٍ تتقدم على الاستصحاب تقدم الامارة على الأصل العملي.

ويمكن تصوير ذلك في المقام بان يقال بان دليل الاستصحاب وهو قوله لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله ظاهر في ان الرافع للاستصحاب هو اليقين فاذا قلنا بان المراد الجدي من لفظ اليقين هو مطلق الحجة، او مطلق الامارة المعتبرة فحينئذٍ يكون قيام اصالة الصحّة واردا على الاستصحاب لأنّه رافع لموضوعه، حيث اخذ في موضوعه عدم الحجة او عدم الامارة على خلافه.

واما إذا قلنا بان المراد الجدي من اليقين هو اليقين الوجداني غاية ما في الباب ان ما دل على امارية اصالة الصحّة نزلها منزلة اليقين، وحينئذٍ يكون تقدم اصالة الصحّة على الاستصحاب من باب الحكومة، باعتبار انه يقين تنزيلا وليست يقينا وجدانا، فرافعية اصالة الصحّة للشك تنزيلية لا تكونينة كي يكون من باب الورود بل هو من باب الحكومة، وليس من باب التخصيص باعتبار ان بينهما عموما من وجه، قد تثبت اصالة الصحّة في مورد لا يكون مجرى للاستصحاب الحكمي كما لو شكّ في العمل الخارجي لا في عمل اعتباري كالعقد والإيقاع كي يكون مجرى لاستصحاب عدم تحقق العلقة الوضعية المعبرة عنها باصالة الفساد، بل قد تجري أصالة الصحّة في عمل خارجي صادر من فاعل ملتفت مما لا يكون مجرى للاستصحاب الحكمي.

كما ان الاستصحاب الحكمي يشمل موارد لا تكون محلاً لاصالة الصحّة، كما هو واضح حيث ذكرنا ان بعض الموارد مما لا تجري فيها اصالة الصحة كما لو قام منشأ عقلائي على خلافها او ان الفاعل جاهل بالصحة والفساد، فالنسبة بين الاستصحاب الحكمي واصالة الصحّة العموم من وجه فلا يكون تقدم اصالة الصحّة على الاتصجاب الحكمي بالتخصيص كما ورد في عبارة المنتقى.

المسلك الثاني ان يقال بان الاستصحاب امارة كما ان اصالة الصحّة امارة، وحينئذٍ فما هي النسبة بين اصالة الصحّة والاستصحاب؟

وهنا تصوران الأول ان يقال ان الاستصحاب امارة شرعية تعبدية مستفادة من دليلها وهو لا تنقض اليقين بالشك، والتصور الآخر ان يقال ان الاستصحاب امارة عقلائي واما قوله لا تنقض اليقين بالشك فما هو الا ارشاد لما عليه البناء العقلائي من امارية الاستصحاب.

فاذا بنينا على ان الاستصحاب امارة شرعية تعبدية فقد يقال حينئذٍ بان الاستصحاب مقدم على اصالة الصحّة، والسر في ذلك ان دليل امارية الاستصحاب دليل لفظي بينما دليل امارية اصالة الصحّة هو مجرد عدم الردع أي دليل امضائي وليس دليلا تأسيسيا كامارية الاستصحاب، وواضح ان دلالة الدليل اللفظي اقوى ظهورا من عدم الردع أي من دلالة الدليل السكوتي وهو عدم الردع، فلأجل ذلك يكون الاستصحاب مقدما على اصالة الصحّة.

ولكن يمكن الجواب عن هذا المنحى بأحد وجهين الأول ان يقال بانّ دليل الاستصحاب وان كان دليلا لفظيا ولكن المفروض ان دليل اصالة الصحّة لابد من تحديده فان كان دليل اصالة الصحّة هو الاجماع وسيرة المتشرعة فالمفروض انهما دليلان قطعيان فان كاشفية الاجماع والسيرة المتشرعية عن حكم الشارع كاشفية قطعية وليست كاشفية ظينة وبالتالي فبما ان الاجماع والسيرة المتشرعية قائمة على العمل باصالة الصحّة في مورد الاستصحاب الحكمي اذ لا اشكال في قيام الاجماع والسيرة العملية على اصالة الصحّة في مورد الاستصحاب الحكمي حيث ان من القدر المتيقن من موارد اصالة الصحّة هو العقود والايقاعات التي هي مجرى للاستصحاب الحكمي وهو اصالة الفساد او استصحاب عدم العقلة الوضعية، فلذلك يكون تقدم اصالة الصحّة على الاستصحاب بناءً على كون دليلها الاجماع والسيرة المتشرعية من قبيل حكومة الدليل الخاص على الاستصحاب الحكمي او فقل بانّ نقض اليقين الاستصحابي حينئذٍ باصالة الصحّة من باب نقض اليقين باليقين لا بالشك.

واما اذا قلنا بانّ دليل اصالة الصحّة هو الدليل السكوتي وهو عبارة عن الامضاء المستفاد من عدم الردع فلا اشكال بانّ اغلب موارد اصالة الصحّة هي موارد الاستصحاب الحكمي بحيث لو قدمنا دليل الاستصحاب على اصالة الصحّة لم يبق تحت اصالة الصحّة الا موارد نادرة وهذا مما يوجب لغوية اصالة الصحّة ولغوية حجيتها.

الا ان يشكل على ذلك ان هذا غايته هو حجية اصالة الصحّة بالمقدار الذي يرتفع به محذور اللغوية لا حجيتها في تمام الموارد المدعاة لها او قام البناء العقلائي عليها، اذ ما دامت النكتة في التقديم هو لزوم لغوية امضائها فيكفي في رفع المحذور حجيتها بالمقدار الذي لا يلزم منه ترتب هذا المحذور.

الوجه الثاني ان يقال بما ان دليل الاستصحاب وهو قوله لا تنقض اليقين بالشك محفوف بالسيرة العقلائية وهي قائمة على ان اصالة الصحّة امارة كاشفة عن الواقع اذن بالنتيجة مقتضى ذلك عدم احراز شمول العموم لمثل ذلك، أي لا نحرز شمول عموم دليل الاستصحاب الحكمي لمورد قيام اصالة الصحّة مادام محفوفا بالسيرة العقلائية القائمة على العمل باصالة الصحّة في مورد الاستصحاب، فحيث لم يحرز رادعية دليل الاستصحاب لاصالة الصحّة جرت اصالة الصحّة.

هذا كله بناءً على التصور الأول وهو دعوى ان الاستصحاب امارة شرعية تعبدية، اما بناءً على ان الاستصحاب امارة عقلائية كما ذهب اليه السيد الأستاذ دام ظله وان قوله لا تنقض اليقين بالشك ما هو الا ارشاد لما عليه البناء العقلائي من امارية الاستصحاب اذن فما دام كلاهما امارة عقلائية فلا تنافي بينهما اذ لا تعارض بين الامارات لدى المرتكز العقلائي اذ المناط في النسبة بين الامارات العقلائية هي الاقوائية أي ان الامارة الأقوى كشفا عن الواقع تقدم على غيرها فان اليد مثلاً يعمل بها ما لم يقم إقرار على خلافها والإقرار يعمل به ما لم تقم بينة على خلافه، والسر في ذلك أنّ بناء العقلاء قائم على تحكيم ما هو اقوى كاشفية على غيره، ولأجل ذلك لابد من الرجوع هنا الى ما عليه المرتكز العقلائي واذا رجعنا وجدنا انه جار على العمل باصالة الصحّة في مورد الاستصحاب الحكمي.

هذا كله في المطلب الأول وهو تنقيح النتيجة بناءً على ان اصالة الصحّة امارة.

المطلب الثاني: ما اذا قلنا بان اصالة الصحّة أصل عملي وان الاستصحاب أصل عملي فهل يمكن الردع عن العمل باصالة الصحّة بمقتضى عموم دليل الاستصحاب ام لا، وأيضا هنا نكرر ذكر المسلكين السابقين، فتارة نقول بان دليل اصالة الصحّة وان كانت أصلا عمليا هو الاجماع، او السيرة المتشرعية فلا اشكال حينئذٍ في تقدمها على الاستصحاب اذ المفروض ان ما قام عليه معقد الاجماع وما قامت عليه السيرة المتشرعية هو العمل بما قامت عليه اصالة الصحّة في مورد الاستصحاب الحكمي فهي بمثابة الدليل الخاص الحاكم على دليل الاستصحاب وهذا امر واضح.

المسلك الثاني ان يقال بان دليل اصالة الصحّة هو امضاء الشارع المستفاد من عدم الردع، بينما دليل حجية الاستصحاب هو دليل لفظي تعبدي وهو قوله لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله.

وهذا قد ذكرت وجوه خمسة لبيان تقدم اصالة الصحّة على الاستصحاب الحكمي وان قلنا بان دليل اصالة الصحّة دليل سكوتي وهو الامضاء المسيتفاد من عدم الردع، ودليل الاستصحاب دليل لفظي.

الوجه الأول: ما ذكره السيد الامام في رسائله ومحصله ان دليل الاستصحاب لا يشمل بعمومه مورد اصالة الصحّة، لان موضوع دليل الاستصحاب هو الشك والعقلاء جرى بناؤهم على اصالة الصحّة مع الغفلة عن الشك الذي هو موضوع دليل الاستصحاب فلا نقول بان بنائهم على اصالة الصحّة مع اليقين بالصحة كي يلزم من ذلك الخروج التخصصي عن دليل الاستصحاب وانما نقول قد جرى بناؤهم على اصالة الصحّة في مواردها غافلين عن الشك الذي هو موضوع دليل الاستصحاب وبالتالي لا يصلح دليل الاستصحاب للرادعية عن العمل باصالة الصحّة.

ولكن هذا الكلام محل تأمل فان محل البحث ليس في فرض الوثوق بالصحة، لان هذا معناه الحجية للوثوق لا للأصالة الصحّة، وليس فرض البحث هو الغفلة عن الشك فان هذا لا يعني الاستناد الى اصالة الصحّة وانما يكون المستند هو اصالة الصحّة في فرض الالفات الى الشك، أي ان الانسان في حال الشك في صحّة العقد او الإيقاع شكا تفصيليا فان العقلاء يجرون اصالة الصحّة في مثل هذا المورد ومتى ما التفت للشك تفصيلا كان المورد موضوعا للاستصحاب فما هو وجه تقدم اصالة الصحّة على الاستصحاب؟

الوجه الثاني: ان يقال بان لازم ذلك هو تخصيص الأكثر.

وهو ضعيف لأنّه لو كان دليل اصالة الصحّة دليلا لفظيا لقلنا بانّ تقديم دليل الاستصحاب على دليل اصالة الصحّة مستلزم لتخصيص الأكثر وهو مستهجن فمقتضى ذلك عدم تقدمه عليه، ولكن المفروض ان دليل اصالة الصحّة ليس لفظيا وانما هو سكوتي وهو الامضاء المستفاد من عدم الردع.

الوجه الثالث ان يقال بان النكتة هي لزوم اختلال النظام أي لو اننا قدمنا دليل الاستصحاب على اصالة الصحّة والمفروض ان النكتة في اعتبار اصالة الصحّة أصلا عمليا هو حفظ النظام وعدم اختلاله، فلو قدمنا عموم دليل الاستصحاب على اصالة الصحّة في موردها لعاد محذور اختلال النظام.

وقد اشكل على ذلك السيد الأستاذ «دام ظله» انه لا يلزم هذا المحذور لأنّه ذكرنا ان هناك أصول تقوم مقام اصالة الصحة في مواردها فلا يلزم من عدم جريانها محذور اختلال النظام

ولكن هذه المناقشة غير واردة باعتبار ان هذا الوجه مبني على ورود محذور اختلال النظام، فلا معنى بمناقشته بعدم ورود المحذور.

الوجه الرابع: ان يقال بمحذور اللغوية أي لما كان اغلب موارد اصالة الصحّة مجرى للاستصحاب الحكمي، بحيث لو قدمنا دليل الاستصحاب لم يبق لها مورد او تبقى موارد نادرة فحينئذٍ لازم تقديم دليل الاستصحاب على أصالة الصحة ورود محذور اللغوية.

وقد سبق التأمل في ذلك بان نتيجة هذا التقديم هو حجية اصالة الصحّة بالمقدار الذي يرتفع به محذور اللغوية لا مطلقاً.

الوجه الخامس: ما ذكرناه سابقاً من اننا لا نحرز شمول قوله لا تنقض اليقين بالشك لما لا يراه العقلاء موردا للشك لوجود اصالة الصحّة فيه، فان مقتضى احتفاف هذا الدليل بالسيرة العقلائية القائمة في موارد اصالة الصحّة على عدم الشك لوجود أصل عملي منقح للصحة الا وهو اصالة الصحّة فمن الواضح حينئذٍ انه لا يحرز دليل الاستصحاب لموردها فاذا لم يحرز كانت هي الحجة فيه، اذ لا مانع من حجيتها بعد احراز امضائها الا وجود دليل شرعي على الخلاف، والمفروض انه لم يحرز شموله لموردها فتثبت حجيتها.

والحمدلله رب العالمين