درس الأصول | 010

دوران الامر بين الاقل والأكثر في الشبهة المصداقية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في جريان البراءة عند الشك في المحصَّل. وذكرنا فيما سبق ان السيد الشهيد «قده» أجرى البراءة عند الشك في المحصل الشرعي أو المحصل العقلي المبهم، والوجه في ذلك:

أن مرجع الأمر بالمسبب الذي لا يعرف حدوده إلا من قبِل المشرع الى الأمر بالسبب، أي أن ما دخل في عهدة المكلف هو السبب، فإذا قال المشرع، تجب الصلاة عن طهارة وكانت الطهارة هي عبارة عن المسبب عن الغسلات والمسحات، فإذا شككنا في أن الترتيب بين الرجلين في المسح هل هو شرط أم لا؟ فمرجع الامر بالصلاة عن طهارة الى الأمر بالوضوء المؤلف من الغسلات والمسحات. وحيث ان الوضوء المؤلف من الغسلات والمسحات يدور امره بين الاقل والاكثر أي بين الوضوء بشرط الترتيب أو الوضوء لا بشرط، فتجري البراءة حينئذ والنتيجة: هي صحة الصلاة بالوضوء الخالي من الترتيب.

ولكن هنا ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: ظاهر الامر بالمسبب كما إذا قال المشرع «صلّ عن طهارة، أو لا صلاة الا بطهور» إن للمسبب موضوعية وأن ما دخل في عهدة المكلف هو المسبب أي الطهارة، ومجرد أن هذا المسبب الذي دخل في عهدة المكلف مما لا تعرف حدوده الا من قبل الشارع، فلذلك مقدار بيانه بمقدار بيان سببه، هذا لا يصلح قرينة على أن الذي أدخل في العهدة هو السبب، بل غاية هذا الامر يفيد في الاطلاق المقامي، أي إذا كان المأمور به هو المسبب ولا يمكن معرفة حدوده الا من خلال السبب فإذا شككنا في اعتبار شيء في السبب جزءا أو شرطا أمكن التمسك بالاطلاق المقامي للدليل لنفي دخل المشكوك، اما لا يصلح هذا قرينة على ان المأمور به السبب، إذ ما دام ظاهر الامر هو الامر بالمسبب فمقتضاه ان غرض الشارع في المسبب وما دخل في عهدة المكلف هو المسبب غاية الامر هذا المسبب مبهم، لا يعرف حدوده الا من جهة بيان السبب، لا أن السبب هو الذي دخل في عهدة المكلف، حتى يدخل الموضوع في باب دوران الامر بين الاقل والاكثر من جهة السبب.

فحينئذ يمكن للمولى ان يبين السبب بدليل واحد ويمكن ان يبينه بعدة ادلة، فنحتمل ان المولى بين الشرطية أو الجزئية في دليل لم يصل الينا وما دام هذا محتملا إذن بالنتيجة لا ندري هل ان المسبب يحصل بالوضوء الخالي عن الترتيب أم لا؟ فمقتضى الاستصحاب «استصحاب عدم حصول الطهارة بالوضوء الخالي من الترتيب» أو مقتضى الاشتغال حيث ان المولى ادخل في عهدة المكلف المسبب، فمقتضى الاشتغال به عدم جريان البراءة عما يشك في دخله في السبب، بل لو جرت البراءة عن شرطية الترتيب مثلاً لكانت اصلا مثبتاً لانها لا تثبت لنا ان المسبب وهو الطهارة قد حصل الوضوء الفاقد للترتيب.

الملاحظة الثانية: ما هو مجرى البراءة بنظره «قده»؟ هل مجرى البراءة بنظره هو الوجوب الضمني؟ أو قل وجوب الاكثر؟ حيث لا ندري هل أن المأمور به الوضوء بشرط الترتيب؟ أو الوضوء لا بشرط؟ فنجري البراءة عن الأمر الضمني بالترتيب أو نجري البراءة عن وجوب الاكثر أي الوضوء المشتمل على الترتيب كما هو ظاهر احد تقريره انه اجرى البراءة عن الوجوب الاكثر أو الوجوب الضمني أو التقيد.

إذا كان هذا هو مجرى البراءة بنظره «قده» فهذا يخرج عن باب الشك في المحصَّل، وبالنتيجة يكون المورد من دوران الامر بين الأقل والأكثر، فلذلك أجرى البراءة عن الأكثر، أو عن الوجوب الضمني للمشكوك أو عن تقيد المأمور به للمشكوك، وما شاكل ذلك من انواع اجراء البراءة الذي سبق بحثه من دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

فاذا كان هذا مقصوده «قده» لا نحتاج الى مسألة إلى إدخال مسألة اهتمام المولى بالغرض بمقدار بيانه للسبب. لا نحتاج الى هذه الضميمة.

وأما إذا كان مجرى البراءة هو الاهتمام كما هو ظاهر تقريره الآخر، كما إذا لم ندري هل السبب مشتمل على المشكوك؟ أم لا؟ فلا ندري هل ان الشارع مهتم بالترتيب بين الرجلين؟ نجري البراءة عن الاهتمام، فهذا يتنافى مع ادخال المورد في باب الاقل والاكثر الارتباطيين لأنه بنى على ان ما دخل في العهدة هو السبب وليس المسبب والسبب دائر بين الاقل والأكثر فالمورد أصلاً ليس من باب الشك في المحصّل في شيء، المورد هو من دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، واذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين يمكن ان يقال هناك: يمكن ان نجري البراءة عن الأكثر، يمكن ان نجري البراءة عن التقيد، يمكن ان نجري البراءة عن الوجوب الضمني، بناءً عليه. نعم هو لا يرى الجزئية والشرطية موردا للتنجز فلا معنى لجريان البراءة عنهما. ولكن تجري البراءة عن الاكثر تجري البراءة عن التقيد، تجري البراءة عن الوجوب الضمني.

إذن فما هو مجرى البراءة بنظره؟

هل ان مجرى البراءة بنظره اهتمام المولى بالمشكوك حيث لا ندري ان المولى اهتم بالمشكوك أو لا؟ فنجري البراءة عن اهتمام المولى بالمشكوك. فهذا امر لا حاجة له ولا دخل له، إذ ما دام المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجري فيه ما ذكره في بحث دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

واذا قال انا ملتزم بما ذكرته هناك انني اجري البراءة عن الاكثر أو اجري البراءة عن التقيد، أو اجري البراءة عن الوجوب الضمني، إذن هذه المقدمة التي اقحمها في الاستدلال من انه:

ما دام المسبب لا يعرف الا من جهة السبب، فبلحاظ ذلك نعرف ان مقدار اهتمام المولى بغرضه بمقدار بيان السبب. هذه المقدمة التي ادخلها لا ربط لها بالموضوع، بالنتيجة هذا مسبب لا يعرف الا من جهة سببه، إذن الذي دخل في العهدة هو السبب وليس المسبب، والسبب داخل بين الأقل والأكثر فيجري فيه ما ذكره في بحث الاقل والأكثر.

هذا تمام الكلام بلحاظ ما افاده السيد الشهيد وتبين بذلك: أنّ الصحيح جريان الاشتغال عند الشك في المحصَّل كما هو المعروف بين الاصوليين سواء كان المحصل شرعيا أو عقليا أو عرفياً.

البيان الثالث _لإجراء البراءة عند الشك في المحصل_:

أن يقال: سبق في بحث دوران الامر بين الاقل والاكثر اشكال المثبتية. وبيانه:

اذا دار امر الصلاة الواجبة بين الصلاة بشرط تسبيحات ثلاث أو الصلاة لا بشرط من حيث التسبيحات الثلاث، هذا من دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين. والمعروف الجاري البراءة. فتجري البراءة عن اشتراط التسبيحات الثلاث أو جزئية التسبيحات الثلاث.

فأُشكل هناك: أن جريان البراءة عن جزئية التسبيحات الثلاث لا يثبت ان المأمور به هو الصلاة لا بشرط حيث يتردد الامر بين الصلاة بشرط أو لا بشرط، هل ان الصلاة المأمور بها بشرط التسبيحات الثلاث أو أن التسبيحات المأمور بها بشرط التسبيحات الثلاث؟ أو أن الصلاة المأمور به لا بشرط من هذه الجهة، فجريان البراءة عن الشرط لا يثبت ان المأمور به هو اللا بشرط، فما هو الحل؟!

فأجيب عن ذلك هناك: بأن المفروض ان الامر لا يتعلق لا باللا بشرطية ولا يتعلق بعنوان الصلاة ولا يتعلق بعنوان الصلاة الصحيحة، بل يتعلق الامر بواقع الاجزاء والشرائط، أي لا وجه لتعلق الامر بالصلاة على نحو اللا بشرط، لان اللا بشرطية لحاظ وليس ملحوظ واللحاظ لا يقع تحت الطلب، إنما الذي يقع تحت الطلب والامر واقع الملحوظ لا لحاظه واللا بشرطية مجرد لحاظ لا اكثر، أي لاحظ المولى ذات الصلاة واذا لاحظ ذات الصلاة عبر عن هذا اللحاظ بانه ذات الشرط، فاللا بشرطية لحاظ لا ملحوظ حتى يتعلق الامر به، إذن لا معنى لتعلق الأمر بالصلاة على نحو اللا بشرط. كما أنه لم يتعلق الامر بعنوان الصلاة فإن عنوان الصلاة مجرد عنوان مشير لواقع الاجزاء والشرائط فانت مأمور بتكبير وركوع وسجود اما عنوان الصلاة مجرد عنوان مشير يرمز الى ما هو المأمور به. كما ان الامر لا يتعلق بالصلاة ال صحيحة، لان الصحة عنوان متأخر رتبة عن الأمر فكيف يؤخذ في متعلق الأمر؟ إذ الصحة هي عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به، فقد فرض مأمور به كي يقال بأن المأتي به مطابق أو غير مطابق، اذن الصحة متأخرة رتبة عن الامر لانها مطابقة المأتي به للمأمور به أو أنها منتزعة منه، فإذا كانت متأخرة رتبة عن الأمر فكيف تلحظ متعلقة للأمر يعني في رتبة سابقة عليه؟!.

اذن بالنتيجة لابد ان يقال: البراءة عن وجود التسبيحات الثلاث لا تثبت تعلق الامر بالصلاة على نحو اللا بشرط، لأن اللا بشرطية أساساً لا يتعلق بها الامر. ولا وجه لأن يقال: البراءة عن شرطية التسبيحات لا تثبت حصول الصلاة، لأنّ عنوان الصلاة اساسا ليس مأمورا به، كما لا وجه لأن يقال: البراءة عن وجوب التسبيحات الثلاث لا تثبت صحة الباقي لان الصحة لم يتعلق بها الامر وانما الصحة منتزعة عن تعلق الامر وليست متعلقا للأمر. اذن ما تعلق به الامر واقع هذه الاجزاء والشرائط فإذا دار امر هذا الواقع بين تسعة أو عشرة جرت البراءة عن العاشر، ولا نحتاج الى اثبات شيء _بعد إجراء البراءة عن العاشر_ بهذه البراءة كي يقال بأن البراءة اصل مثبت.

ولكن أشكل على هذا: بأن هذا يأتي فيما لو لم يوجد أثر مترتب على اثر مترتب على هذا العنوان. مثلا:

صحة صلاة العصر مترتبة على سبق ظهر صحيحة، فإذا شككنا في صلاة الظهر بين الاقل والاكثر واجرينا البراءة عن الاكثر، جريان البراءة عن الاكثر هل ينقح موضوع صحة صلاة العصر؟ والمفروض أن صلاة العصر مشروطة بسبق ظهر صحيحة، والمفروض ان البراءة عن الاكثر لا تثبت أن الظهر صحيحة. أو مثلا في الطواف إذا شككنا أو في السعي إذا شككنا: هل يعتبر في السعي ان يكون بين الجبلين أو لا يعتبر في السعي ذلك، فأجرينا البراء. فمع جريان البراءة التقصير بعد السعي إنما يتحقق التحلل من الإحرام كان هذا التقصير مسبوقاً بسعي صحيح، والمفروض ان جريان البراءة عن الأكثر في السعي لا يثبت انه سعي صحيح، فلم يترتب عليه التقصير المحلل.

او مثلاً مسح المصحف الشريف، وهو مشروط بوضوء، لا ندري أن الوضوء يشترط فيه الترتيب بين الرجلين أو لا؟ جريان البراءة عن شرطية الترتيب بين الرجلين لا يثبت ارتفاع الحدث بهذا الوضوء، فالجاري استصحاب الحدث.

إذن لو ترتب اثر على عنوان معين مثل: مسح المصحب يتوقف على ارتفاع الحدث. صحة العصر مترتب على سبق ظهر صحيحة، جريان البراءة لا يثبت أن الظهر صحيحة. وهكذا.

أجاب شيخنا الاستاذ عن هذا الإشكال الذي طرحه ايضا السيد الشهيد في «شرح العروة» بما يترتب على مقدمتين:

المقدمة الاولى: أن جريان البراءة عن الاكثر يثبت الصحة الظاهرية للأقل، فإذا شككنا هل الصلاة المأمور بها صلاة مع تسبيحات ثلاثة أم لا؟ جرت البراءة عن جزئية التسبيحات الثلاث، هذا يثبت ان الصلاة الباقي صحيحة ظاهراً بمقتضى الارتكاز المتشرعي. أي ان الارتكاز المتشرعي قائم على أن إجراء البراءة عن الأكثر يعني صحة الاقل ظاهراً.

المقدمة الثانية: بعد ان ثبتت الصحة الظاهرة للاقل بمقتضى الارتكاز المتشرعي فمقتضى الاطلاق المقامي لأدلة البراءة ترتيب آثار الصحة الواقعية، لأنه لو كانت الصحة الواقعية لا تترتب آثارها على الصحة الظاهرية لتنبّه على ذلك، فعندما يقول المولى: اجري البراءة إذا شككت في وجوب الاكثر، ولكن لو اجريت البراءة لا تفيد في ارتفاع الصحة الواقعية لا تفيد في ارتفاع الحديث، لا تفيد في حصول التحلل بالتقصير، لا تفيد في عصر صحيحة، وأشباه ذلك لنبه على ذلك. اذن ما دام جريان البراءة عن الاكثر يثبت الصحة الظاهرية، ومقتضى الاطلاق المقامي ان ما كان أثراً للصحة الواقعية فإنه يترتب على الصحة الظاهرية، وإلا لنبه المولى على ذلك، فلا يرد إشكال المثبتية.

والحمد لله رب العالمين.