علاقة الحياة بالمبدع الحي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من هذه الآية المباركة نتحدّث عن صنع الحياة. هل الحياة التي نراها متمثلةً أمامنا في الكائنات الحية ظاهرةٌ كيميائيةٌ، أم هي ظاهرةٌ معلوماتيةٌ؟ لا إشكال في أنَّ هناك حاجةً ماسّةً إلى المعلومة في بناء الحياة، فهناك حاجةٌ إلى المعلومات في بناء الخلية الحية ومكوناتها، وهناك حاجة إلى المعلومات في الشفرة الوراثية لتقوم بإسهامها في توجيه الخلية الحية، المعلومات ركيزة أساسية في خلق الحياة وصنعها، بل إنَّ بعض العلماء ذهب إلى أنَّ الحياة هي ظاهرة معلوماتية قبل أن تكون ظاهرة كيميائية.

«بنكيمستون» في مجلّة «العلوم، ديسمبر 2003» قال: لو سألت أي إنسان: ما هو أصل الحياة؟ لأجابك: المادة والطاقة هما أصل الحياة، ولكن الصحيح أنَّ الأصل في الوجود هو المعلومة، لولا المعلومة لما جرت الطاقة، ولما تحوّلت إلى مادة، هناك حاجة إلى المعلومة. الروبوت في مصنع السيارات يقوم بتجميع قطع السيارة ليكوّن سيارة، لولا وجود برنامج كمبيوتري يحمل معلومات يوجّه هذا الروبوت لما استطاع تأليف السيارة من القطع المجموعة أمامه. كذلك أول بذرة للكون - وهي الطاقة - لا يمكن أن تجري لتتحول إلى مادة لولا وجود معلومات تمشي وراءها، معلومات توجّهها في قانون التحول. إذن، المعلومة هي أصل الوجود، وليس أصل الوجود هو الطاقة أو المادة، هذا رأي عالم.

رأي عالم آخر: «ديفيز» يقول: لقد اعتدنا أن نعبّر عن الكون بأنه ظاهرة فيزيائية، وأن نعبر عن الحياة بأنها ظاهرة كيميائية، لكن تقدّم العلم أثبت أنَّ الحياة ظاهرة معلوماتية. المعلومة قبل القانون الفيزيائي، المعلومة قبل التفاعل الكيميائي، المعلومة هي البذرة وهي الأصل، الأصل هو المعلومة، جاءت المادة لتجسيد تلك المعلومة، ولتمثيل تلك المعلومة، المعلومة هي الأصل.

بعض العلماء استفاد من هذه النقطة - وهي أصالة المعلومة - في تحليل هذه الآية المباركة: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، لماذا عبّرت الآية بالقول؟ لماذا لم تقل الآية: إنما أمره إذا أراد شيئًا أوجده؟ لماذا قال: أن يقول له؟! لماذا جعل القول هو الواسطة في الإيجاد؟ يقول: هذا تعبير عن المعلومة، يعني لا يوجد شيئًا حتى يغرس معلومة الوجود في علّته قبل إيجاده، هذا الشيء الذي يريد أن يوجده قبله علة، يغرس المعلومة في علته التي على أساس هذه المعلومة تقوم العلة بإيجاد ذلك الشيء. يعني هذه بذرة شجرة التفاح، هذه البذرة حتى تتحول إلى شجرة، نفس البذرة تمتلك معلومات تسير على ضوئها لتتحول إلى شجرة، ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ يعني أن يعطيه المعلومات لكي يسير على ضوئها فيتشكّل ويتجسّد.

الآن نحن اعتبرنا المعلومات أصل الحياة، أو اعتبرنا المعلومات ركيزة من ركائز الحياة، النتيجة واحدة: المعلومة ركنٌ في الحياة، لا يمكن صنع الحياة بدون معلومات، المعلومات ركن في الحياة، لأجل ذلك نأتي الآن ونتحدث عن محاور ثلاثة:

المحور الأول: الربط بين المعلومة وبين انطلاق الحياة من المبدع الحي جلّ وعلا.

هنا حتى نستوضح الصورة بشكل جيّد أذكر لك أمورًا ثلاثة:

الأمر الأول: هل البصمة المعلوماتية تدلّ على مصمّم ذكي؟

إذا رأينا معلومة في جهة ما، فهل تدل المعلومة على أنَّ وراءها مصممًا ذكيًا أم لا؟ هل المعلومة بصمة تدل على مصمم ذكي أم لا؟ الجواب: نعم، ما هو الشاهد على ذلك؟ الشاهد تطبيق المصطلح الرياضي المعبَّر عنه بالتعقيد المتفرِّد SC، هذا المصطلح الرياضي أينما طبّقته اكتشف وراءه مصممًا ذكيًا، كيف؟

عام 1997 أخرج فيلم اسمه فيلم التواصل، التواصل مع الفضاء الخارجي، هذا الفيلم يسرد قصة عالمة فضاء «إيليا أروي»، هذه العالمة قامت بجهود جبّارة في سبيل أن تستخرج هل في الفضاء حياة ذكية غير عالمنا؟ عالمنا يعجّ بالحياة، هل في الفضاء حياة ذكية أم لا؟ وكيف نتوصّل إلى هذه النقطة، أن في الفضاء حياة ذكية وراء حياة عالمنا أم لا؟ أُرْسِلَت إشارات إلى الفضاء، ينتظَر إجابة عن هذه الإشارات، فجاءت الإجابات من تتابع طويل للأرقام الأولية.

أنتم تعلمون أنَّ هناك أرقامًا أولية وأرقامًا متكررة، الأرقام الأولية مثل 2، 3، 5، 11، 101... إلخ، هذه الأرقام تسمّى أرقامًا أولية، أرقام لا تعتمد على رقم قبلها، هذا الرقم لا يعتمد على مركّب رقمي قبله، لأنه لا ينقسم إلا على 1 أو على نفسه، رقم 11 مثلًا لا يعتمد على مركّب رقمي قبله، ولذلك رقم 11 لا ينقسم إلا على 1 أو على نفسه، بينما الأرقام المتكررة مثل 4، 8، 16، 32، 64... وهكذا، هذه أرقام متكررة، رقم 2 تكرره وتكرره فيبني هذه الأرقام كلها، هذه السلسلة كلها يبنيها رقم 2، إذن هذه أرقام متكررة.

عندما أُرْسِلَت الإشارات إلى الفضاء جاءت بعد هذه الإشارات استجابةً لها، جاءت أرقام أولية بتتابع طويل، تتابع مستمر، كله من الأرقام الأولية، 11، 1011، دائمًا من سنخ الأرقام الأولية التي لا تنقسم إلا على نفسها، اكتشفت هذه العالمة أنَّ هناك حياة ذكية، تتابع طويل لأرقام أولية دون غيرها يعني التعقيد المتفرّد، تفرّد وتعقيد، أما التفرّد فلأن الأرقام الأولية هي متفردة، الأرقام الأولية تتميز بأنها أرقام متفردة لا تعتمد على رقم آخر، والتعقيد هو التتابع الطويل، يعني هذه الأرقام ما أخطأت، مرة رقم متكرر ومرة رقم متفرد، بل كل التتابع من سنخ واحد، من الأرقام الأولية، هذا لا يحتمل أنه حدث صدفة.

إذن، مصطلح التعقيد المتفرد انطبق على هذه الاستجابة الفضائية، تتابع طويل للأرقام الأولية، العالمة «إيليا أروي» اعتبرت هذا معلومة، الفضاء يعطينا معلومة، والمعلومة بصمة ذكاء، متى ما وُجِدَت المعلومة كشفت عن أنَّ وراءها مصممًا ذكيًا، إذن هناك حياة ذكية في هذا الفضاء، سواء كانت هذه الحياة للملائكة، للأرواح، لأي شيء آخر، المهم أنَّ هناك حياة ذكية وراء هذا العالم من خلال بصمة المعلومات التي وصلتنا.

الأمر الثاني: علاقة الشفرة الوراثية بالحروف الأربعة.

نريد أن نطبّق هذا المصطلح الرياضي - التعقيد المتفرّد - على الشفرة الوراثية DNA، كيف؟ أولًا أشرح نقطة ترتبط بمحل كلامنا. بالنسبة إلى الشفرة الوراثية، من أعظم إنجازات القرن العشرين ما توصّل إليه علماء البيولوجيا الجزيئية من أنَّ الحروف الأربعة ACGT الدخيلة في تكوين الشفرة الوراثية، هذه الحروف الأربعة تتراص في مجموعات، تلك المجموعات هي الجينات، الجينات هي المسؤولة عن تكوين البروتينات، عن التشفير للبروتينات، كل جينوم من هذه الجينات، هذا الجينوم الذي طوله 3، 3 مليار حرف، يحتوي هذا الجينوم على 7 بليون خانة معلومات، جينوم واحد يحتوي على هذا العدد الضخم. الجينوم هو المسؤول عن إيجاد البروتين، هو المسؤول عن التشفير للبروتين، كيف يهتدي لإيجاد البروتين؟ هنا تتدخّل الحروف الأربعة، الحروف الأربعة هي التي تقوم بتتابع يؤدّي إلى أن يتولّد من هذا الجينوم البروتين.

الأمر الثالث: تطبيق التعقيد المتفرّد على الجينوم.

نأتي الآن ونطبّق الذي ذكرناه في الأمر الأول - التعقيد المتفرّد - على ما تقوم به الحروف الأربعة ACGT في توجيه الجينوم للتشفير للبروتين، نأتي الآن ونطبّق ذلك. أحد علماء اللغويات في جامعة هاواي في أمريكا قال: إذا كتبت جملة ذات عشر كلمات، كتبت مثلًا: أنا مسلم مؤمن عاشق للحسين ، كتبت هذه الجملة، هذه الجملة ذات الكلمات العشر كم نمطًا لها؟ كم بناء؟ إذا أردت أن تتصوّر بناءات للجملة وصيغًا متعددة، كم؟ جملة من عشر كلمات ذات معنى كم نمطًا يتصوَّر لها؟ 3، 628، 800 نمط، أنت من هذه الأنماط كلها لماذا اخترت هذا النمط؟! إذن معنى ذلك أنَّ في عقلك توجد آلية فطرية ذكيّة هدتك إلى هذا الاختيار، هدتك إلى هذا النمط دون غيره.

هنا يقول هذا العالم: هذه الآلية الفطرية الذكية الموجودة في عقولنا هي معلومة من المعلومات، وإلا لماذا ذهبت أنا إلى هذا الخيار دون غيره؟! أستطيع أن أركّب الكلمات بثلاثة ملايين تركيبًا، لماذا اخترت هذا التركيب بالذات؟! إذن، وجود هذه الآلية الفطرية الذكية عندي، هذا يعبَّر عنه بالمعلومة، وهذه المعلومة بصمة ذكاء تدلّ على أنَّ وراءها مصممًا ذكيًا، خلقنا تعالى، أودع فينا هذا التصميم الذكي، هذه الآلية الذكية التي تهدينا لاختيار الجمل ذات المعاني الصحيحة دون غيرها من البناءات والأنماط.

مسألة الجينوم هكذا تمامًا، يراد من هذا الجين أن يولّد لنا بروتينًا، نريد من هذا الجين أن يشفّر لبناء بروتين، أمام الحروف الأربعة بدائل، كيف من بين هذه البدائل الحروف الأربعة توجّه الجين للتشفير للبروتين المعيّن، لماذا؟! افترض أننا أخذنا أصغر بروتين، أصغر بروتين يمتلك مثلًا مئة حمض أميني، هذا البروتين الأصغر كيف تهتدي الحروف الأربعة في تتابع معين لكي توجّه الجين نحو توليده بالذات دون غيره؟ تصوّر البدائل المطروحة في المقام، البدائل المطروحة 10^130، عدد هائل من البدائل، ومع ذلك تتابع الحروف الأربعة بشكل سلس يؤدّي بهذا الجين لتوليد أصغر بروتين معيّن، احتمال أن يحصل هذا صدفة احتمال 1 * 10^ - 150، احتمال لا يعتنى به.

أو يأتيك إنسان ويقول: ليس صدفة، ولكن القانون الفيزيائي هو الذي اقتضى أن يحصل هكذا. «ديفيز» يقول: هذا غير ممكن أيضًا؛ لأن القوانين الفيزيائية قوانين ثابتة، بينما الشفرة الوراثية شفرة متغيرة، أمامها بدائل متعددة، والقوانين الثابتة لا تملأ شفرة متغيرة. إذن، إذا لم يكن هذا نتيجة الصدفة، ولم يكن هذا نتيجة القانون، فكيف اهتدت الحروف الأربعة في تتابع معيّن من بين عدد هائل من البدائل والاحتمالات أن توجّه الجين للتشفير لهذا البروتين؟!

هذا كاهتداء عقلي من بين ملايين البدائل إلى جملة صحيحة ذات معنى، أي أنَّ هناك آلية ذكية فطرية دُمِغَت في هذا الجين ليهتدي إلى التشفير المعيّن، وهذه الآلية الذكية بصمة معلومات، وبصمة المعلومات تدلّ على مصمّم ذكي، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يعني يعطيه المعلومة ﴿كُنْ فَيَكُونُ على طبق تلك المعلومة، فهناك ارتباط وثيق بين الظاهرة المعلوماتية للحياة، أو الركيزة المعلوماتية للحياة وبين المبدع الحي تبارك وتعالى، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

المحور الثاني: عجز الإنسان عن خلق الحياة.

سلّمنا أنَّ الخلية الحية تدلّ على وجود المبدع الحي، لماذا يخلقها من قبل الإنسان؟ الإنسان أيضًا مبدع حي، ما دامت الخلية الحية تعني أنَّ وراءها خالقًا حيًا، إذن فما هو المانع من أن يصنع الإنسان الخلية الحية، وبالتالي لا ينحصر إيجادها بالله تبارك وتعالى؟

في 20 مايو 2010 أعلن عالم البيولوجيا الجزيئية «فينتر» أنه بعد 15 عامًا من الجهود المضنية تمكّن ممّا يسمى خلق الحياة، تمكّنوا من تجميع الشفرة الوراثية DNA لإحدى الخلايا البكتيرية من مكوناتها الأولية، ووضعوها في جسم خلية بكتيرية حية من نوع آخر بعد نزع شفرتها الوراثية، جاؤوا إلى خلية من بكتيريا معينة، نزعوا شفرتها الوراثية، ثم جاؤوا إلى خلية أخرى، أخذوا منها المكونات الأولية التي هي المعلومات اللازمة لتكوين البروتين، جاؤوا بها ووضعوها في هذه الخلية التي نزعت منها الشفرة الوراثية، فرأوا أنها مارست عملها بكل سلاسة، مارست وظائفها الحيوية بكل سلاسة وأنتجت البروتينات، فاستنتجوا من هذا أنَّ القضية سهلة! يمكن لنا أن نصنع حياة، يمكن لنا أن نوجد حياة، نحن نزعنا الشفرة الوراثية من خلية، ووضعنا فيها المكونات الأولية من خلية أخرى، فمارست عملها بكل سهولة، إذن إنتاج الحياة أمر ممكن للبشر، وليس أمرًا صعبًا.

أنت إذا تأمّلت في هذا المعنى ماذا تقول؟ أنت الآن سمعت هذا الخبر، ماذا تستنتج؟ هل هذا خلق؟! هل هذا صنع؟! أم هذا تقليد تايوان؟! هل هذا صنع؟! هل هذا خلق؟! هل هذا إيجاد؟! أم هذا تقليد؟! أم لا يستحق حتى كلمة تقليد، وإنما نسمّيه تجميعًا، كما تفعل بعض الدول، حيث تجمع بعض قطع السيارات وتقول صنعنا سيارات! هل هذا خلق، أم هو تجميع، الذي هو أقل رتبةً حتى من التقليد؟! الذي صنعوه - كما يعبِّر عن ذلك بعض العلماء - هو مجرّد استبدال DNA - C بDNA - M لا شيء آخر! هم أخذوا المكونات الأولية من خلية، وإلا الخلية الحية جاهزة، لم يوجدوا خلية حية، وإنما أخذوا مكونات أولية تعني المعلومات اللازمة لتوليد البروتين ووضعوها في خلية أخرى، لا أكثر ولا أقل، لا خلق، ولا حتى تقليد للخلق، وإنما هو مجرد استبدال وتجميع.

هذا يرشدنا إلى أنَّ صنع الحياة يحتاج إلى ركنين: معلومات، من أين يأتون بالمعلومات؟ يضطرون إلى أخذها من خلية أخرى، والركن الآخر: النفخة الغيبية، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، النفخة الغيبية لا يستطيعون القيام بها، هل سمعت أنَّ شخصًا يستطيع أن يصنع حبة قمح؟! يستطيع أن يصنع مركبة فضائية، لكنه لا يستطيع أن يصنع حبة قمح! الإنسان يصنع أكبر مركبة فضائية، تصل إلى أبعاد أبعاد من الفضاء، لكن لا يستطيع أن يصنع حبة قمح! لماذا؟! لأن هذه حياة، حبة القمح فيها حياة، فيها نفخة غيبية، بينما المركبة الفضائية لا تتضمن حياة، يستطيع الإنسان أن يصنع أي شيء، لكنه لا يستطيع شرارة الحياة، وأن يولّد شرارة الحياة.

ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا، الذباب رمز للحياة، مثال للحياة، يعني لا يستطيعون أن يصنعوا حياة، ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، حتى لو جمعوا قدراتهم كلها لخلق حبة قمح، لخلق ذبابة، لخلق حشرة، لا يمكن، لأن هذه شرارة الحياة، وشرارة الحياة تعني المعلومات، والمعلومات تعني بصمة الذكاء، وبصمة الذكاء تعني المبدع الحي جلّ وعلا.

المحور الثالث: حاجة المخلوق للخالق بين الذاتية والحدوثية.

هناك مصطلح فلسفي عند علمائنا، يقولون: حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتية وليست حاجة حدوثية، ما معنى هذا المصطلح؟ أربطه له بالمحورين السابقين. ما هو الفرق بين علاقة الجهاز بمخترعه، وعلاقة الإنسان بمشيه؟ أنا الآن أمشي، المشي له علاقة بي، أنا الفاعل والمشي فعلي، والمخترَع جهازٌ يخترعه عالمٌ معيَّن، ما هو الفرق بينهما؟ الجهاز يبقى وإن مات المخترِع، هذا معناه أنَّ حاجة الجهاز إلى المخترِع حاجة حدوثية فقط، يعني يحتاج إليه في فترة الحدوث والولادة فقط، بعد ذلك لا يحتاج إليه، بل يستغني عنه، بينما المشي يحتاج إليك حدوثًا وبقاء، بمجرد أن تنام ينقطع المشي، بمجرد أن تنتهي في أي لحظة ينقطع المشي، حاجة الفعل إلى الفاعل حاجة ذاتية، يعني حدوثية وبقائية، بينما حاجة المخترَع للمخترِع حاجة حدوثية وليست حاجة ذاتية، لماذا؟ ما هو سرّ الفرق بينهما؟

سرّ الفرق أنَّ المخترِع لا يعطي وجودًا، إنما يعطي تركيبًا، يعطي صورة، المخترِع لا يخلق المادة، المادة موجودة، ما يقوم به المخترِع ليس إيجاد المادة، وإنما ما يقوم به المخترِع هو إيجاد الصورة، لأنه فقط يوجد صورة، ولذلك يمكن الاستغناء عنه، بينما المشي أنت توجد مادته وصورته، أنت توجده من العدم، فالمشي يعتمد عليك مادة وصورة، لأنه يعتمد عليك مادةً وصورةً لا يستغني عنك لحظةً واحدةً.

مثال أدق: علاقة هذا الضوء بالطاقة الكهربائية ما هي؟ هل هي علاقة حدوثية أم هي علاقة ذاتية؟ علاقة ذاتية، هذا الضوء لو انفصلت عنه الطاقة الكهربائية أقل من جزء من مليون جزء من الثانية ينتهي، علاقة الضوء بالطاقة الكهربائية علاقة ذاتية، يعني وجوده مادةً وصورةً هو من الطاقة الكهربائية، ولذلك ينتهي إذا انتهت الطاقة الكهربائية، بينما علاقة الجهاز بمخترِعه علاقة حدوثية.

علاقتنا بالله من أي نوع؟ هل هي من العلاقة الحدوثية أم من العلاقة الذاتية؟ هي من العلاقة الحدوثية، الله لا يركّبنا ولا يجمّعنا، نحن لم نكن موجودين والله تدخّل فقط في التركيب وإيجاد الصورة، بل أصل وجودنا مادةً وصورةً بجميع مكوناتها، بكلا الركنين: المعلومات والنفخة، كل وجودنا منه تبارك وتعالى، فوجودنا يستند إلى إيجاده ومدده في كل ثانية، في كل لحظة، في كل آن، ولذلك يقول العلماء: حاجتنا لله حاجة ذاتية وليست حاجة حدوثية، فلا يمكن استغناء المخلوق عن الخالق لحظة واحدة، كما لا يمكن أن يستغني الضوء عن الطاقة الكهربائية لحظة واحدة، فنحن لسنا شيئًا له الربط، بل نحن عين الربط بالوجود الواجبي جلّ وعلا.

إذن بالنتيجة: هذا الفقر الذي عبّرنا عنه في الليلة السابقة بالفقر الوجودي، الإنسان بل كل مخلوق يعيش فقرًا وجوديًا لله عز وجل، المراد بالفقر الوجودي أنه في كل وجوده يحتاج إلى الخالق، في كل آن وفي كل لحظة، وهذا الفقر الوجودي هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، ويعبِّر عنه الحسين سيّد الشهداء كما ورد في دعاء يوم عرفة: ”كيف يستدلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك“، ما كان عين الافتقار وعين الحاجة إليك، كيف يكون دليلًا عليك؟!