حوار بين المنبر والمجتمع | الجزء 2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ

صدق الله العلي العظيم

هناك مجموعة من النقاط تتعلّق بمحاضراتنا السابقة هي موضع استفهام وسؤال، ولذلك أردنا التعرّض لها للإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بها.

النقطة الأولى: معنى كون الإيمان شعورًا.

ذكرنا في محاضرات سابقة أنَّ الإيمان شعورٌ، ولكنّ هذا الشعور له أسباب، قد يكون سببه الوجدان، قد يكون سببه دليل حساب الاحتمالات، قد يكون سببه البرهان التجريبي، فهل الإيمان الذي يتردّد ذكره في القرآن هو شعور، كما في قوله عز وجل: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، أو قوله: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟

الجواب: الإيمان له ثلاث درجات: الإيمان العقلي، والإيمان القلبي، والإيمان الوجداني، وأعلى درجاته هو الإيمان الوجداني. مثلًا: الآن عندما أقيم علاقة مع أيّ إنسان آخر، هذه العلاقة تأخذ مراحل ثلاثًا: مرحلة عقلية، مرحلة قلبية، مرحلة وجدانية. في البداية، ألتقي بإنسان ظاهره الخير، لا أدري هل أقيم علاقة معه أم لا، هنا عقلي هو الذي يعمل في أول مرة، هل هذه العلاقة نافعة مثمرة دينًا ودنيا؟ فإذا اقتنع عقلي بأن للعلاقة أثرًا ومنفعة دينية أو دنيوية فتجاوزت المرحلة الأولى، وهي الإيمان العقلي.

ثم أصل إلى المرحلة الثانية، مسألة تلقين القلب، بعد أن أدرك عقلي أنّ العلاقة مفيدة أقوم وألقّن قلبي على ما أدركه عقلي، القلب هنا يطاوع العقل، أقول لقلبي: ثبت لي أنّ هذه العلاقة مفيدة، فلماذا أنت خائف قلق؟ أحيانًا القلب يقلق حتى لو كان الأمر واضحًا، كما لو أراد إنسان أن يؤسس شركة أو تجارة، قد يقتنع بجدوى الشركة لكن لا زال قلبه قلقًا حذرًا، إذن هنا أحتاج إلى المرحلة الثانية، بعد أن اقتنع عقلي بأنّ العلاقة مفيدة، أعقد قلبي وألقنه على ألا يخاف ولا يقلق ويمضي في هذه العلاقة، فأكون قد قطعت المرحلة الثانية، وهي المرحلة القلبية. بعد أن أعاشر هذا الإنسان، وأرى فيه خصال الصدق والإخلاص، أشعر بعلاقته شعورًا وجدانيًا، أصل إلى المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الوجدان، أشعر بصدقه وبإخلاصه.

الإيمان بالله كذلك، يقطع مراحل ثلاثًا: المرحلة الأولى هي مرحلة الأدلة، مرحلة الاستدلال العقلي، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ يعني يعملون عقلهم وأدلتهم ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، هذه المرحلة العقلية، مرحلة استحضار الأدلة على خالقية الله، وحدانية الله. بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة عقد القلب، بما أنّ الأدلة شاهدة على الله.

وفي كل شيء له آية   تدل  على  أنه  واحد

فلأعقد قلبي على هذه الأدلة، فلأقل لقلبي: كن مؤمنًا مطمئنًا بالله، ما دامت الأدلة واضحة على خالقيته ووحدانيته، عقد القلب، ولذلك ترى القرآن عندما يتحدث عن المشركين يقول: هم مؤمنون عقلًا لكن غير مؤمنين قلبًا، يقول: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ، أنفسهم يعني عقولهم، عقولهم لديها يقين بالله عز وجل، لكنهم لم يعقدوا قلوبهم على طبق عقولهم.

المرحلة الثالثة: إذا عبد الإنسان ربّه، وانصهر بالعبادة، سوف يشعر أن للعبادة طعمًا في قلبه، سوف يشعر بلذة للصلاة، سوف يشعر بلذة للصدقة، سوف يشعر بلذة لقراءة القرآن، عندما يصل الإنسان إلى مرحلة الشعور باللذة وصل إلى مرحلة الإيمان الوجداني، أصبح الإيمان شعورًا، قطع العقل والقلب وأصبح الإيمان شعورًا يعيش به، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”ركعة لي في دنياكم أحب لي من الجنة وما فيها“، يعني لذة العبادة عندي أهم من لذة الجنة، اللذة المادية للجنة قصور وحور، هذه اللذة المادية أنا لا تعنيني، تعنيني لذة لقاء الله، ركعة لي في دنياكم أشعر فيها بلذة لقاء المحبوب، بلذة لقاء الجمال الأتم، هذه اللذة لا تضاهيها لذة الجنة، هنا يصل الإيمان إلى مرحلة الشعور، فنحن عندما نقول بأنّ الإيمان شعور نقصد أعلى المراتب للإيمان.

النقطة الثانية: نظرية سروش في التجربة النبوية.

تعرّضنا في ليلة من الليالي إلى ما طرحه الدكتور عبد الكريم سروش حول حقيقة النبوة، وقلنا بأنّ الدكتور سروش يرى أنّ النبوة تجربة بشرية روحية، نظير العرفاء والمتصوفة الذين يخوضون تجارب روحية، إلى أن تنكشف لهم بعض الغوامض، تنكشف لهم بعض الأبواب، النبي أيضًا خاض تجربة روحية وصل بها إلى درجة النبوة. لكن عندما نرجع إلى كلام الدكتور سروش، يقول: هناك فرق بين التجارب الروحية الأخرى وتجربة النبي، التجارب الروحية الأخرى انكشاف ناقص، أما تجربة النبي انكشاف تام، ما هو المقصود بهذا الكلام؟

المقصود به أنّ الوحي عبارة عن انكشاف عالم الملكوت، القرآن الكريم يعبّر عن إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ لا ملك، عندنا عالم ملك وعندنا عالم ملكوت، عالم الملك هو هذا العالم عالم المادة، لكن عالم الملكوت هو عالم ما وراء المادة، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، الوحي انكشاف عالم الملكوت، العرفاء والمتصوفة انكشف لهم جزء من عالم الملكوت، فالانكشاف ناقص، أما النبوة فهي عبارة عن انكشاف عالم الملكوت انكشافًا تامًا، النبوة تفترق عن تجربة العرفاء والمتصوفة، فكيف نقيس هذا على هذا؟

الجواب: نحن عندما نرجع إلى كلام الدكتور سروش، هو يقول: الوحي انكشاف، لكن يقول: انكشاف في إطار الخصائص البشرية، كيف؟ هناك آية في القرآن الكريم، قوله عز وجل: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، الماء ينزل من السماء، لكن الوديان تأخذ من هذا الماء بقدرها، الوادي الصغير يأخذ ماء قليلًا، الوادي الكبير يأخذ ماء كثيرًا، فكل واد يأخذ من الماء بحدوده وبمقداره لا أكثر. أيضًا الله تبارك وتعالى عندما أفاض الوجود أخذ منه كل مخلوق بمقدار حدوده، الحشرة أخذت وجودًا صغيرًا، والحوت أخذ وجودًا كبيرًا، فإذن الوجود مثل الماء، الماء يفاض من السماء فتأخذ الوديان كل واد بقدره، الوجود يفاض من الله فتأخذ منه الماهيات بقدرها وبحدودها.

الوحي كذلك، الوحي هو عبارة عن انكشاف لكن انكشاف لكل نبي في إطار خصائصه البشرية، عيسى كان لا يحب النساء، وكان معتزلًا عن الحياة، لذلك نزل الوحي منسجمًا مع طبيعته، فأصبح دين عيسى دين الرهبنة والعزلة، وأما النبي فإنسان عربي يحب النساء، لذلك نزل الوحي منسجمًا مع خصوصيته العربية، منسجمًا مع خصوصيته القرشية، أصبح دين النبي دينًا يشجّع على العلاقة مع المرأة، يشجّع على الانفتاح على الدنيا، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. إذن، الوحي الذي انكشف لعيسى دينٌ ينسجم مع خصائصه البشرية، والوحي الذي انكشف لمحمد دينٌ ينسجم مع خصائصه البشرية، كأنّ الوحي ثوبٌ يفصَّل على مقاس النبي نفسه، هكذا ذكر الدكتور سروش.

نحن نقول: لا يمكن الجمع بين الانكشاف التام وبقاء الخصائص البشرية، لا يمكن الجمع بينهما، متضادان، الخصائص البشرية إما لها تأثير على الوحي، إذن لم يحصل انكشاف تام، الانكشاف ناقص، صار مثله مثل العرفاء، وإما لا تأثير لها أصلًا إذن حصل على الانكشاف التام، لكن لم يكن الوحي مفصَّلًا على مقاسه ولا مؤطرًا بإطاره البشري. اختلاف دين عيسى ودين محمد ليس اختلافًا بالمزاج، المسألة ليست مسألة مزاج، مزاج عيسى صار دخيلًا في دينه، ومزاج النبي صار دخيلًا في دينه! لا، هذا اختلاف مرحلة.

الدين الذي بلّغه النبي في مكة مرحلة، بينما الدين الذي بلّغه في المدينة مرحلة أقوى، في مكة كان يبلّغ التوحيد ونفي الشرك، لكن لمّا اتسع الدين واتضحت معالم التوحيد بلّغ العبادة، بلّغ الصلاة، بلّغ الجهاد، بلّغ الزكاة، تحوّل الدين من توحيد إلى نظام اجتماعي يحكم سلوك الإنسان في عباداته ومعاملاته، فالنبي بلّغ الدين على مراحل. الفرق بين إبراهيم وموسى وعيسى والنبي ليس اختلافًا بالمزاج، وإنما هو اختلاف في المرحلة، كلّ نبي يبلّغ مرحلة من الدين تنسجم مع ظروف تلك المرحلة، وإلا فالدين واحد، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.

إذن المسألة ليست مسألة مزاج، وبالتالي لا يمكن الجمع بين الأمرين، من جهة تقول: النبي انكشف له الملكوت انكشافًا تامًا، ومن جهة أخرى تقول: خصائصه البشرية فرضت نفسها على الوحي الذي انكشف إليه، هذا معناه أنّ الانكشاف ليس تامًا، المقتضي للانكشاف موجود، وهو التجربة التي خاضها النبي بحسب نظريته، ولكن المانع من الانكشاف موجود، وهو الخصائص البشرية، فلا بدّ من أن يقال: الدين ينزل على الشخص المؤهَّل من دون دخلٍ للخصائص البشرية في ذلك الدين.

النقطة الثالثة: التوفيق بين قاعدة اللطف وغيبة الإمام.

ذكرنا في المحاضرات السابقة قاعدة اللطف، وقلنا: مقتضى لطف الله بعباده أن ينصب لهم أنبياء وأوصياء، وأنّ قاعدة اللطف تفرض ضرورة النبوة وتفرض ضرورة الإمامة، هذا ما ذكرناه. قد يعترَض على ذلك بأنه إذا كان مقتضى اللطف وجود الإمام، إذن غيبة الإمام المهدي خلاف اللطف، إما أن تكون غيبة الإمام المهدي موافقة للحكمة، إذن فاللطف لا يقتضي وجود الإمام، وإما أن غيبة الإمام المهدي خلاف الحكمة، فكيف أمضاها الله وهي تتنافى مع الحكمة؟ كيف نوفّق بين قاعدة اللطف وبين غيبة الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف»؟

هناك فرق بين اللطف المقوِّم واللطف المقرِّب، اللطف المقوِّم واجب، اللطف المقرِّب حسن وليس بواجب. مثلًا: نحن ذكرنا في المحاضرة السابقة، قلنا معنى اللطف الواجب أنّ المجتمع البشري محتاج إلى نظام، فإمّا الله يجهل بهذه الحاجة أو يعلم، الله يستحيل أن يجهل بالحاجة، إذا كان الله عالمًا بحاجة المجتمع البشري إلى النظام فهو إما عاجز عن تلبية الحاجة أو قادر، هو ليس عاجزًا، بل هو قادر على تلبية الحاجة، فإذا كان عالمًا بحاجة المجتمع للنظام وقادرًا على تلبية الحاجة فالمانع من نزول النظام إما العبث وإما البخل، وكلاهما يتنافى مع حكمته وكماله، إذن ما هي النتيجة؟

النتيجة أن العقل يدرك، هذا معنى أن اللطف واجب، ليس معنى وجوب اللطف أننا نفرض على الله ماذا يفعل وماذا لا يفعل، العقل المحدود لا يصدر منه عقل مولوي تجاه اللامحدود، العقل المخلوق لا يصدر أمرًا تجاه الخالق، لماذا نحن نقول اللطف واجب؟ معنى أن اللطف واجب هو أنّ العقل يدرك أنّ ذلك ضروري، كما يدرك أن 2 + 2 = 4 يدرك أن اللطف ضروري، يعني مقتضى حاجة البشر إلى النظام أولًا، وعلم الله بهذه الحاجة ثانيًا، وقدرته على تلبيته بهذه الحاجة ثالثًا، وحكمته رابعًا أن ينزل نظامًا، فنزول النظام ضرورة عقلية، هذا معنى أنّ اللطف واجب.

ومن الطبيعي أنه لا يمكن أن ينزل النظام إلا ضمن أنبياء، فلا بد من نصب أنبياء. حينئذ، بناء على هذا الشرح نقول: بعثة النبي لطف مقوِّم، بينما انتصار النبي في المعارك لطف مقرِّب، لولا بعثة النبي لما وصل النظام للمجتمع البشري، إذن بعثة النبي لطف مقوِّم لازم، إذ لولا البعثة لم يصل النظام إلى المجتمع البشري، ووصول النظام إلى المجتمع البشري ضروري، إذن بعثة النبي لطف مقوِّم. بينما، هل من اللازم أن ينتصر النبي في جميع المعارك التي خاضها؟ ليس بالضرورة، لو انتصر لكان أفضل، لو انتصر النبي في كل المعارك لكان الدين أكثر رسوخًا، لكن انتصاره ليس لطفًا مقومًا، بل هو لطف مقرِّب، لو حصل لكان مقرِّبًا للعباد نحو الطاعة أكثر، هو لطف مقرِّب، لذلك ليس أمرًا لازمًا، ليس أمرًا واجبًا، المصالح تتعارض فتقدَّم المصلحة الأهم على المهم، انتصار النبي فيه مصلحة، لكن ابتلاء المؤمنين بالهزيمة ليتمحص المؤمن من غيره أيضًا مصلحة، فتقدَّم مصلحة على أخرى.

نفس القضية بالنسبة إلى الإمام المعصوم، وجود الإمام المعصوم - أصل وجوده - لطف مقوِّم، وأما تواصله مع الناس فهو لطف مقرِّب، لا بدّ من وجود الإمام المعصوم، كما ورد عن الإمام علي : ”لا بدّ لله من حجّة في الأرض: إما ظاهرًا مشهورًا أو خائفًا مغمورًا“، لماذا لا بدّ من وجوده؟ لحفظ الدين، الدين يحتاج إلى الحجّة، في أي شيء؟ في التبليغ، في التفسير، في التطبيق، في الحفظ. أربعة أدوار يقوم بها الحجّة، الأئمة الطاهرون منذ جدّهم محمد إلى الإمام العسكري قاموا بهذه الأدوار، الإمام المنتظر «عج» يقوم بالدور الرابع، وهو الحفظ.

لا يمكن إهمال الدين، الدين متى ما عرضت له عملية تغيير أو تحريف الإمام يتصدّى لهذه المسؤولية - مسؤولية حفظه - وإن كان غائبًا عن الأعين، لأننا نعرف أنّ غيبة الإمام ليست غيبة جسدية، بل هي غيبة عنوانية، يعني لا نعرف من هو الإمام، وإلا فهو مع الناس، يأكل ويشرب ويبيع ويشتري وينام ويتعب ويمرض ويسافر ويأتي ويعيش مع الناس العيشة البشرية الكاملة، ليس غائبًا غيبة جسدية، وإنما هو غائب غيبة عنوانية فقط، نحن لا نعرفه، وإلا هو يعيش مع الناس، ولذلك نقرأ في دعاء الندبة: ”بنفسي أنت من مغيّب لم يخلُ منّا، بنفسي أنت من نازح ما نزح عنّا، بنفسي أنت أمنية شائق يتمنّى من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنّا“، هو معنا وإن كنا لا نعرف شخصه، لا نعرف عنوانه.

إذن، الإمام بما أنه يعيش عيشة بشرية متعارفة فهو يقوم بمسؤوليته الرابعة ألا وهي حفظ الدين، متى ما تعرّض الدين لخلل ما تصدّى لحفظ الدين وسدّ ذلك الخلل، إما مباشرة، أو من خلال العلماء الذين هم موضع تأييده وتسديده. إذن، أصل وجوده لازم، لا بد من أن يوجد إمام، لا تخلو الأرض من حجة لله، لا بد من وجود الإمام، لماذا؟ لأجل حفظ الدين، فحفظ الدين لطف مقوِّم، لذلك لا بدّ من وجود الإمام، وأما تواصله فهو لطف مقرِّب، لو تواصل لأبهج الناس أكثر ولدفعهم إلى الدين أكثر، ولكن إذا تزاحمت المصالح - مصلحة تواصله ومصلحة امتحان المؤمنين وغربلتهم ليميز الخبيث من الطيب - قُدِّمَت المصلحة الأهم على المصلحة المهمة.

النقطة الرابعة: التلازم بين الحجية والعصمة.

ذكرنا في المحاضرات السابقة أنّ هناك ملازمة بين العصمة والإمامة، لا يمكن أن يكون إمام غير معصوم، لماذا؟ قلنا لأن الإمام عبارة عن الحجية، الإمام من كان حجة لله، حجة في قوله، حجة في فعله، حجة في تقريره، يحتج به الله على الناس، الإمامة تعني الحجية، والحجية لا تجتمع مع الخطأ، كيف يكون قوله حجة وهو قد يخطئ؟! كيف يكون فعله حجة وهو قد يخطئ؟! إذن بما أنّ الإمامة تعني الحجية والحجية لا تجتمع مع الخطأ فالإمامة تساوي العصمة. هذا الذي طرحناه، ولكن ربّما يعترَض على ذلك، يقال: لا، صحيح أنّ الإمامة تساوي الحجية، وأما الحجية فلا تساوي العصمة، بل قد يكون حجة وليس بمعصوم، الفقهاء حجج وليسوا بمعصومين، وقد ورد عن الإمام العسكري : ”أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم“، الفقهاء حجج ومع ذلك ليسوا بمعصومين، فتوى الفقيه حجة أحتج بها أمام ربّي، لكن الفقيه ليس بمعصوم، فإذن الحجية لا تلازم العصمة.

الجواب: هنالك فرق بين الحجية المحدودية والحجية المطلقة، الفقيه فتواه حجة، لكن فتواه حجة محدودة، ليست فتوى الفقيه حجة على فقيه آخر، الفقيه فتواه حجة على من ليس بفقيه، فهي محدودة بهذه الجهة، مضافًا إلى أن فتوى الفقيه حجة وليس كل ما يصدر منه حجة، افترض أنّ الفقيه أخبرك بأن هذا الثوب نجس، ليس كلامه حجة لأن هذا تشخيص موضوع، تشخيص الموضوع - هذا نجس أم لا، هذا خمر أم خل - الفقيه وغيره على حد سواء في تشخيص الموضوع، فالذي هو حجة من الفقيه هو فقط فتواه، إذن فتوى الفقيه حجة محدودة، ولذلك لا تلازم العصمة. وأما حجية الإمام فهي حجية مطلقة، كل ما يصدر منه فهو حجة، قول، فعل، تقرير، وحجة على كل من سواه، فبما أن حجيته مطلقة لذلك الحجية المطلقة مساوقة للعصمة، ملازمة للعصمة.

النقطة الخامسة: نظرية القراءة المنسية في الإمامة.

ذكرنا فيما سبق أنّ الدكتور محسن كديور عنده كتاب اسمه «القراءة المنسية»، وقال بأنّ الشيعة يعرفون قراءة واحدة للإمامة، أن الإمامة هي النص والعصمة، لكن هنالك قراءة للإمامة تختلف عن هذه القراءة، وهي أنّ الأئمة علماء أبرار، لا نص ولا عصمة، وقال: هذه القراءة موجودة عند العلماء لكن الشيعة لا يعرفونها. نحن ناقشناه فيما سبق، قلنا: لا يوجد أيّ دليل على أنّ لدى الشيعة قراءة أخرى لموقع الإمامة غير قراءة النص والعصمة، بل ذكرنا الأدلة على هذه القراءة، وقد تقدم الكلام حول ذلك.

إنما هناك جزءٌ آخر من هذه النظرية - نظرية القراءة المنسية - وهو أنّ هناك قراءتين للإمام: قراءة أنّ الإمام يحمل خصائص فوق البشر، وقراءة أنّ الإمام بشر كسائر البشر ليس له خصائص فوق البشرية، من تلك الخصائص: هل الإمام مفوَّض، يعني يتصرّف في عالم التكوين من قبل الله عز وجل، هل هو مفوَّض في التصرف في الكون أم لا؟ هذه من الخصائص، من الخصائص أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، هذه خصائص فوق بشرية، فما هو الداعي للاعتقاد بها؟ الدكتور محسن كديور يقول: يمكن أن نعتقد بالإمامة لكن نعتقد بأنّ المعصوم ليس له خصائص فوق البشرية، فليس مفوَّضًا في التصرف في الكون، وليس له خصوصية في دفنه وتجهيزه وقبره، ومثله مثل الآخرين.

نحن نريد التركيز على هذه النقطة شيئًا ما، نرجع أولًا إلى الآية المباركة التي افتتحنا بها المحاضرة، وهي قوله عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا، وقال في آية أخرى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ، ما هو معنى كلمة يهدون بأمرنا؟ نحن نقرأ الآية ولكن فلنتأمل في معنى يهدون بأمرنا. هناك هداية خلقية وهناك هداية أمرية، الهداية الخلقية كل واحد يستطيع أن يهدي بها الآخر، ليست خاصة بالأئمة، أنا أهدي ولدي، أعلّمه طرق الهداية فيهتدي، رجال يهدون الناس، يعلمونهم سبل الهداية فيهتدون، الهداية التي هي عبر اللغة هداية خلقية، أنا أهديك عبر لغة أتواصل بها معك، هذه هداية خلقية.

أما الهداية من دون لغة، أبعث شعاعًا في قلبك من دون لغة بيني وبينك، هذه تسمى هداية أمرية، هذه تختلف عن الهداية الخلقية، هذا من أين استفدناه؟ من نفس القرآن، القرآن يفرِّق بين الخلق والأمر، يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، الخلق يحتاج إلى مدّة ومادة، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، الخلق يحتاج إلى مدّة ومادة، بينما الأمر لا يحتاج، اقرأ الآيات التي تتعلق بالأمر: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، الأمر لحظي بدون مادة ولا مدّة، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُنُ. ولذلك عندنا موجودات أمرية وعندنا موجودات خلقية، الجسد يسمّى وجودًا خلقيًا، لأن الجسد وُجد عبر مادة ومدة، وأما وجود العقول والأرواح فهو وجود أمري، لأنّ العقول حين خلقها لم تخضع لمادة ولا مدّة، ”أوّل ما خلق الله العقل فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، قال: بك أثيب وبك أعاقب“، العقل وجود أمري، لا مادة ولا مدة.

بعد أن نفهم هذا، أيضًا الهداية تارة عبر جسد، عبر لغة، فنسميها هداية خلقية، لأنها تستخدم المدة والمادة، وتارة الهداية تتجاوز الحواجز والفواصل المادية، الهداية عبارة عن شعاع ينتقل من قلبي إلى قلبك، من قلب الهادي إلى قلب المهتدي من دون فواصل وحواجز مادية، هذه الهداية تسمى هداية أمرية، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ما هي ميزتهم على غيرهم إذا كانوا يهدون؟! الكل يهدي! لا، ميزتهم أنهم يهدون بأمرنا، لهم هداية أمرية، يختلفون عن غيرهم.

الهداية الأمرية تصرف في الكون، الإمام يتصرف في قلبك، علي بن أبي طالب هدى كميل بن زياد ورشيد الهجري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر، زرع في قلوبهم النور، هذه الهداية تصرف في عالم التكوين، هذا التصرف في عالم التكوين الإمام عنده قدرة عليه. يأتي شخص ويقول لك: هذا الشيء غير معقول، بشر يتصرف في قلبك وأنت لا تدري؟! آتي لك بشيء من القرآن، ماذا تقول في قوله عز وجل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، أليس الشيطان له قدرة على الوسوسة في قلبك؟! من دون لغة، الشيطان لا يتكلم معك، الشيطان بنصّ القرآن يستطيع أن يبثّ وسوسته في قلبك، من دون وسائط جسدية، يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، إذا كان القرآن عنده قدرة على الوسوسة الأمرية أليس للإمام قدرة على العمل المقابل، وهو الهداية الأمرية؟! إذا كنت تتعقلها في الشيطان فلماذا لا تتعقلها في الإمام؟! الشيطان هل القدرة على الوسوسة الأمرية، الإمام أعطاه الله القدرة على العمل المقابل، ذاك عنده وسوسة أمرية والإمام عنده هداية أمرية، فالإمام له قدرة على التصرّف في أمور الكون.

والقرآن زاخر بهذه الأحاديث، ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، فللأئمة ولاية على الكون كما لعيسى بن مريم ولاية على الخلق، لكن الولاية ليست ولاية استقلالية وإنما هي ولاية إذنية، ولاية الله على التصرف استقلالية، ولاية المعصوم على التصرف إذنية بمقدار الإذن. ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، آصف بن برخيا لم يكن نبيًا، ومع ذلك آصف له ولاية أمرية بواسطة علم معيّن، فإذا صحّ لعيسى وصحّ لآصف الذي هو ليس بنبي ألا يصح لمحمد ؟! والقرآن يقول في حقه: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، الله يغني والرسول يغني، القرآن يقول الرسول يغني، لكن إغناء الله استقلالي وإغناء الرسول إذني. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، بنو إسرائيل كانوا أوصياء، جعلهم أئمة يمتلكون الهداية الأمرية.

لذلك، مسألة التفويض الإذني والتصرف والولاية الأمرية عليها أحاديث كثيرة، منها زيارة الجماعة الشريفة: ”بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه“ إلى آخر الزيارة. ومن جملة الولاية الأمرية ومظاهرها أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام.

بعد شهادة الإمام موسى بن جعفر الواقفة أنكروا، قالوا: الإمام موسى بن جعفر ما مات، وما زال حيًا، ونحن واقفون على إمامته، ولا نقول بإمامة أحد بعده، وقفوا على الإمام الكاظم، الإمام الرضا دخل معهم في حوار، احتجوا عليه، قالوا له: لقد روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام، فلو كان أبوك قد مات فمن ولي أمره وأنت في المدينة وهو في بغداد؟ أجابهم، قال لهم: أما كان الحسين إمامًا؟ قالوا: بلى، الحسين إمام، قال: فمن ولي أمره وابنه زين العابدين مقيَّد بالكوفة؟! قالوا له: الله مكّنه وفكّ قيده وجاء به من الكوفة إلى كربلاء وولي أمر أبيه، قال: إنّ الذي مكّن زين العابدين وهو مقيَّد أن يأتي من الكوفة إلى كربلاء فيلي أمر أبيه مكّني وأنا حرٌّ بدون قيد أن آتي من المدينة إلى بغداد فألي أمر أبي.