الغيب والشهادة في الفيزياء والفلسفة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محاور ثلاثة:

  • موارد الآيات الباطنة لله تعالى.
  • أقسام الغيب.
  • التوفيق بين النصوص بالنسبة لعلم المعصومين بالغيب.
المحور الأول: موارد الآيات الباطنة.

إذا قرأنا قوله عز وجل: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فما هو معنى هو الظاهر والباطن؟ هو الأول والآخر واضح، لا أول إلا وهو أول له، ولا آخر إلا وهو آخر له، لكن ما هو معنى هو الظاهر والباطن؟ الله تبارك وتعالى تتجلى عظمته في آياته، وتتجلى قدرته في آياته، وآياته قسمٌ منها ظاهرة وقسمٌ منها باطنة، قال تبارك وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فآياته على قسمين: آيات ظاهرة، وآيات باطنة، لذلك لأن آياته نوعان ظاهرة وباطنة اتّصف سبحانه وتعالى بأنه ظاهر وباطن، يعني تجلت عظمته في آياته الظاهرة، وهذا التجلي ظاهر، وتجلت عظمته في الآيات الباطنة، لكن هذا التجلي باطن، يعني يحتاج إلى تأمّل، يحتاج إلى دراسة، يحتاج إلى تدقيق، ظهور آياته في الآيات الظاهرة لا يحتاج إلى تأمل، لكن ظهور عظمته في الآيات الباطنة يحتاج إلى تأمل، لذلك اتصف تعالى بأنه الظاهر وأنه الباطن. ما هي موارد آياته الباطنة؟ عندما ندقّق في آياته الباطنة، أين موارد آياته الباطنة؟ هنالك موارد ثلاثة: البطون في عالم المادة، والبطون في عالم العقل، والبطون في عالم الإمامة والحجّية.

المورد الأول: البطون في عالم المادة.

هل يوجد في عالم المادة ظاهر وباطن حتى نقول: لله آيات ظاهرة في عالم المادة ولله آيات باطنة في عالم المادة؟ أساسًا هل في عالم المادة أمور باطنة أم لا؟ نعم، في عالم المادة توجد أمور باطنة، كيف نعرفها؟ نرجع إلى تقسيم الفيزياء، عندنا ثلاثة أنواع من الفيزياء: الفيزياء التقليدية، فيزياء الكوانتوم، فيزياء الفراغ، كل نوع من الفيزياء يعدّ باطنًا لما قبله لأنه تفسيرٌ لما قبله، كيف؟

الفيزياء التقليدية - فيزياء نيوتن - تتكفّل تفسير الظواهر المحسوسة، الزلازل، الرعد، البرق، الكهرباء، الحرارة، الظواهر المحسوسة التي ينالها الحس تتكفل الفيزياء التقليدية بتفسيرها وتحديدها، لذلك قوانين الفيزياء التقليدية هي تفسيرٌ للعلاقة بين الأجسام وتفسيرٌ للكهرباء وللحرارة، تفسير للأشياء المحسوسة، قانون الجاذبية، قانون الحركة، قانون الجذب والدفع، كل هذه القوانين تفسّر لنا هذا العالم الذي نعيش فيه، العالم المحسوس، هذه تسمّى الفيزياء التقليدية.

ولكن هنالك باطنًا لهذا العالم، هذا العالم ظاهر، وهذا الظاهر له باطن، باطن هذا العالم المادي لا يمكن تفسيره بالفيزياء التقليدية، نحتاج إلى نوع آخر من الفيزياء يتكفل تفسير باطن هذا العالم، ما هو هذا العالم؟ الجسميات تحت الذرية، الإلكترونات، النيترونات، البروتونات، الكواركات، الجسيمات تحت الذرية التي لا ينالها الحس تعتبر باطنًا لعالمنا المحسوس، هذا الباطن لا يمكن إخضاعه للقوانين الفيزيائية التقليدية، لأن القوانين الفيزيائية التقليدية قوانين ثابتة، قوانين حتمية، لا تتخلف، قانون الجاذبية قانون ثابت حتمي لا يتخلف، قوانين الحركة قوانين ثابتة لا تتخلف، إذن لا نستطيع أن نفسّر الجسميات تحت الذرية بالقوانين الفيزيائية التقليدية، لأن الجسيمات تحت الذرية حالتها حالة اللاحتمية، لا يوجد فيها شيء حتمي، حالتها حالة الاحتمال والارتياب واللاحتمية، لأن حالتها تعني اللاحتمية إذن لا يمكن إخضاعها للقوانين الفيزيائية التقليدية لأنها قوانين حتمية وثابتة، لذلك احتجنا إلى نوع آخر من الفيزياء يتولّى تفسير باطن هذا العالم، يتولّى تفسير عالم الجسيمات تحت الذرية، وهو فيزياء الكم، فيزياء الكوانتوم، الذي اُكْتُشِف في الربع الأول من القرن العشرين.

أيضًا لا زال هنالك باطن آخر، كما أنَّ علم الفيزياء التقليدي لم يكتشف باطنًا واكتشفه فيزياء الكم، هنالك باطن لم يكتشفه فيزياء الكم فاحتجنا إلى نوع ثالث من الفيزياء، ألا وهو فيزياء الفراغ، ما هو؟ يقولون: الآن بحسب الحسابات الافتراضية نفترض نقطة مفرّغة من الطاقة والمادة، ما هو القانون الذي يحكمها؟ عالم المادة المحسوس تحكمه قوانين الفيزياء التقليدية، عالم الجسيمات تحت الذرية تحكمه قوانين فيزياء الكم، لكن إذا افترضنا بحسب الحسابات الرياضية نقطة مفرغة من الطاقة والمادة فما هي القوانين التي تحكمها؟ إذن لعالمنا باطن، ولذلك الباطن أيضًا باطن نحتاج أن نعرفه، طبعًا مسألة الفراغ بحسب المصطلح الفيزيائي ليست العدم، عندما يقولون نقطة مفرغة لا يقصدون عدمًا، العدم لا شيء، الفراغ شيء لا أنه لا شيء، لكن هذا الفراغ مفرَّغ من كثافة الطاقة والمادة يعبِّرون عنه بصفر الطاقة المتوسط، صفر الطاقة المتوسط - هذه النقطة المفرّغة من كثافة الطاقة والمادة - نحتاج في تفسيرها إلى نوع ثالث من الفيزياء نسميه فيزياء الفراغ.

إذن اتضح لدينا أنّ عالمنا المحسوس له باطن تولّى تفسيره فيزياء الكم، ولهذا الباطن باطن تولّى تفسيره فيزياء الفراغ، فكما أنّ في عالمنا المادي ظاهرًا فكذلك في عالمنا المادي باطن، وللباطن باطن، وكما أنَّ عظمة الله تعالى تجلّت في الظواهر المادية تجلّت أيضًا في البواطن، وتجلّي عظمته في الظواهر عبّر عنه بأنه ظاهر، وتجلّي عظمته في البواطن عبّر عنه بأنه الباطن، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.

المورد الثاني: العقل الواعي والعقل الباطن.

علماء النفس ينصّون على هذا، وهذا شيء يراه الإنسان بالوجدان، كل إنسان يمتلك عقلين، يمتلك قوتين، عقل واع وعقل باطن، العقل الواعي وظيفته التحليل والتعمق عن وعي والتفات، أما العقل الباطن فهو يختزن الميول، ويختزن الرغبات التي لا تظهر على الإنسان، كيف؟ مثلًا: ترى إنسانًا مهندسًا، أو ترى أستاذ رياضيات، لكن هذا الإنسان عنده ميول نحو الفن، لو تجعله في الفن يخرج فنانًا، لكنه لا يمارس هذه الميول، الميول نحو الفن موجودة عنده لكن مختزنة في عقله الباطن، تظهر إذا أثارها مثير، إذا حصل مثير يثيرها تظهر عليه، لكن ما لم يحصل مثير فهي مختزنة ومستودعة في العقل الباطن، إذن الإنسان عنده عقلان: عقل ظاهر وعقل باطن يختزن ميوله.

لاحظ هذين العقلين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، ما هو الذي أخفى من السر؟ السر خاطرة يضمرها الإنسان بينه وبين نفسه، لكن هو ملتفت لها، عندي أسرار يعني عندي خواطر مضمرة أنا ملتفت إليها، لكن وراء هذا السر يوجد عقل باطن يختزن الميول من دون أن ألتفت إليه، ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، إذن هناك عقل ظاهر وعقل باطن. العقل الظاهر مجلى للعظمة الظاهرة لله، والعقل الباطن أيضًا مجلى للعظمة الإلهية الباطنة، فهو تعالى ظاهرٌ في العقل الظاهر وباطنٌ في العقل الباطن.

المورد الثالث: مستوى الإمامة.

عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، طبعًا التفسير المعروف هو أنَّ النعم الظاهرة هي الرزق والمال والزوجة والأولاد... إلخ، والنعم الباطنة هي التوفيقات التي يحفّ الله بها الإنسان من دون أن يشعر بها، كثير من التوفيقات تحصل لك من دون أن تشعر بها، من دون أن تطلبها، هناك نعم باطنة. لكن ورد في بعض الروايات الشريفة: نعمه الظاهرة الإمام الظاهر ونعمته الباطنة الإمام الغائب، إذن على مستوى الإمامة أيضًا هنالك آيتان: آية ظاهرة، وهي الإمام الظاهر، وآية باطنة، وهي الإمام الغائب، وكلاهما مجلى لعظمته جلّ وعلا.

المحور الثاني: أقسام الغيب.

الآية التي افتتحنا بها قوله عز وجل: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، العالم يقسّمه القرآن إلى غيب وشهادة، قال تبارك وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، كل ما يناله الحس فهو شهادة، كل شيء نشعر به بإحدى الحواس الخمس فهو شهادة، وكل ما لا يناله الحس فهو غيب. حتى نفهم هذا التقسيم نذكر أمرين:

الأمر الأول: هذا التقسيم بالنسبة إلى من؟ بالنسبة إلى الله أم بالنسبة إلينا؟ بالنسبة إلينا، لأن الله لا يوجد غيب بالنسبة إليه، كل مخلوقاته بالنسبة إليه شهادة وليست غيبًا، هذا التقسيم تقسيمٌ بلحاظ الإنسان، الإنسان تخفى عليه أمور فتكون غيبًا وتتضح له أمور فتكون شهادة، أما الله لا يخفى عليه شيء حتى يكون العالم بالنسبة إليه غيبًا وشهادة، فالتقسيم لغيب وشهادة تقسيمٌ بلحاظ الإنسان، بالنسبة للإنسان، لا بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى.

الأمر الثاني: عندنا عالم غيب، عندنا عالم شهادة، عالم الغيب أيضًا ينقسم إلى قسمين: غيب نسبي وغيب مطلق، الغيب النسبي مثل ماذا؟ القرآن الكريم عندما يتحدث عن التاريخ يعتبره من الغيب، مع أنّ التاريخ من عالم المادة لكنه يعتبره من الغيب، هذا غيب نسبي، القرآن الكريم يقول: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، اعتبر قصة مريم غيبًا، مع أنها ليست غيبًا، لكن هذه التسمية تسمية نسبية، عالم التاريخ الماضي غيب لكنه غيب نسبي، من يطلع عليه فليس بغيب بالنسبة إليه، من لم يطلع عليه يعتبر غيبًا بالنسبة إليه.

نأتي إلى الغيب المطلق: الغيب المطلق هو عالم الملكوت، كيف؟ ذكرنا أنَّ العالم ينقسم إلى قسمين: عالم الملك، وهو عالم المادة الذي نعيش فيه، الذي قال عنه القرآن: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عالم الملك مقيَّد بقيدين: زمان ومكان، عالم الزمكان يسمّى عالم الملك، عالم المادة، هنالك عالم آخر متحرّر من الزمكان، لا يحدّه زمن ولا يحدّه مكان، متحرّر من الزمكان، ذلك العالم يسمّى عالم الملكوت، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ذلك العالم - عالم الملكوت، عالم الغيب المطلق - ما هي خصائصه؟

عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، هذه هي خصوصية عالم الملكوت، عالم الغيب المطلق، أنه عالم الخزانة، أنت كل في خزانة، ثم نزلت إلى عالم المادة، كل شيء هكذا، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ في عالم المادة ﴿إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، كل شيء، كل واحد منا كان موجودًا في عالم الملكوت، لكن وجودًا مبهمًا، يعني وجود لا يحدّه زمن ولا يحدّه مكان، متحرر من الزمان والمكان، ثم نزلنا إلى عالم المادة عبر نطف آبائنا، نزلنا محدودين بحدّين: زمن ومكان، ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، عالم الخزائن - عالم الملكوت - يقول عنه القرآن الكريم: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ، عالم الخزائن لا يسيطر عليه إلا الله تبارك وتعالى. هذا العالم - عالم الخزائن، عالم الملكوت - الذي يعبِّر عنه القرآن بقوله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، مفاتح جمع مفتَح وليست جمع مفتاح، مفتاح جمعها مفاتيح، مفاتح جمع مفتَح، مفتح يعني خزانة، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ يعني خزائن الغيب ﴿لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، هذا نسمّيه عالم الغيب المطلق، عالم الملكوت، وعالم الغيب النسبي فسّرناه، هو التاريخ الذي يخفى علينا، هذا نسمّيه الغيب النسبي.

المحور الثالث: تحليل النصوص القرآنية والحديثية التي تتكلم عن الغيب.

عندنا ثلاث آيات وقع الإشكال في فهم معناها.

الآية الأولى:

قوله عز وجل: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، هذه الآية كيف نجمع بينها وبين قوله عز وجل في آية أخرى عن عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ يعني أنا أعلم الغيب، كيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله عز وجل في الآية التي افتتحنا بها المحاضرة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، إذا ارتضى الرسول أظهره، ولذلك ورد عن الإمام الصادق في بعض الروايات: ”ومحمد هو المرتضى ونحن ورثته“، إذن كيف نجمع بين الآيتين؟

الجمع بين الآيتين بالفرق بين الأصالة والتبعية، بين الاستقلال والإذن، كيف؟ هاتان الآيتان تشبههما آيتان، وهما قوله عز وجل: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، يعني التوفي بيد الله، بينما يقول في آية أخرى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، كيف نجمع بينهما؟ التوفي من الله، والتوفي من قبل ملك الموت، الجمع بينهما بالاستقلال والتبعية، الذي يتوفى العباد بالاستقلال والأصالة هو الله، وأما الذي يتوفى العباد بالإذن وبالإقدار من الله عز وجل فهو ملك الموت، ملك الموت يتوفى العباد لكن يتوفى بإذن من الله، بإقدار من الله، لا بالأصالة والاستقلال.

هنا أيضًا الجمع بين الآيتين، عندما يقول: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ يعني لا يعلم بالأصالة والاستقلال الغيب إلا الله، ولكن الرسول كعيسى والنبي يعلمون الغيب، ليس بالأصالة والاستقلال، وإنما بالتعليم والإذن والإقدار من الله تبارك وتعالى، فهذا هو الجمع بين الآيتين.

الآية الثانية:

قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، يعني هناك خمسة أشياء خاصة بالله، بل وردت عندنا روايات عن أبي أسامة عن الإمام الصادق : ”خمسة لم يطلع الله عليها أحدًا من خلقه، قلت: ما هي سيدي؟ قال: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ“، كيف نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد مستفيضًا من أنَّ محمدًا وآل محمد يعلمون بمناياهم وبلاياهم، يعلمون بما يجري عليهم من المنايا والبلايا، يعلمون بذلك، بينما هذه الآية تقول: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، كيف نوفّق بين الأمرين؟

نأتي إلى هذه الفقرة: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، الآن الطب يستطيع أن يعلم ما في الأرحام، يستطيع أن يعرف هل هذا ذكر أم أنثى، وهنالك فرضيات طبية ستتحقق في المستقبل بواسطة الاكتشافات أنه يمكن من الأسبوع الأول يعيَّن لون الشعر، طول القامة، صفات الجسد، كلها يمكن تحديدها من الأسبوع الأول، إذن الطب توصّل إلى فهم ما في الأرحام، إلى علم ما في الأرحام، فكيف تقول الآية: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ يعني غيره لا يعلم؟

الجواب: هناك فرق بين العلم المحدود والعلم اللامحدود، الطبيب عندما يصل إلى درجة يعلم أن هذا... لنفترض أنه من أول يوم، من الدقيقة الأولى، لنفترض أنّ الطبيب وصل إلى هذه الدرجة، من الثانية الأولى لانعقاد النطفة في رحم المرأة الطب يستطيع أن يحدد، ذكر أم أنثى، لون البشرة، طول القامة، وظائف الأعضاء، يمكن أن يحدّد ذلك كله من أول ثانية، مع ذلك يبقى هذا العلم علمًا محدودًا، لأنه علم بالمادة، علم بالخصائص المادية فقط، لكن لا يستطيع هذا الطبيب أن يكتشف أنّ من في الأرحام سعيد أم شقي، صالح أم فاسد، يكتشف فقط الخصائص المادية، ولذلك سئل الإمام الكاظم : ما معنى قول النبي : ”السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه“؟ قال: ”السعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه يعمل عمل السعداء، والشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه يعمل عمل الأشقياء“، إذن تحديد السعادة والشقاوة لا يمكن أن يكتشفها الإنسان. بالنتيجة: علم الطب ما في الأرحام علم محدود، وعلم الله بما في الأرحام علم لامحدود، لأنه علم بكل الخصائص المادية والروحية والعلل والمعاليل واللوازم.

نفس الكلام في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، علم المعصوم بالمنايا والبلايا بالنتيجة هو علم محدود، لأن المعصوم ممكن الوجود، وكل ممكن الوجود فهو محدود، بالنتيجة هناك فرق بين واجب الوجود وممكن الوجود، واجب الوجود الواحد الأحد جل وعلا وجود لامحدود، فعلمه علم لامحدود، بينما ما سواه ممكن الوجود، وممكن الوجود لا محالة محدود، إذن العلم علم محدود، علم المنايا، علم البلايا، علم ما كان، علم ما يكون، بالنتيجة هو علم محدود، فإذا علم بما يكسب غدًا أو علم في أي تموت أو علم بمناياه وبلاياه بالنتيجة هو علم محدود، وأما العلم بهذه الأمور على نحو العلم المطلق واللامحدود فهو من مختصاته تبارك وتعالى.

الآية الثالثة:

قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ثم قال: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، هذه الفقرة معناها أنَّ النبي لا يعلم، هو يقول: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، لكن أنا لا أعلم، فكيف نوفق بين هذه الآية وبين النصوص التي تقول: إنَّ المعصوم يعلم الغيب؟ هنا تفسيران:

التفسير الأول: أنَّ المقصود من ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ الغيب المعهود في الآية الأولى، الآية الأولى تحدثت عن علم الساعة، يعني عن نوع معين من علم الغيب، حصة معينة من علم الغيب، ألا وهي علم الساعة، فبما أنَّ الآية الأولى دلّت على علم معيّن الآية الثانية ناظرة للآية الأولى، ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني أعلم هذا الغيب الذي تحدّثنا عنه في الآية الأولى، وهو العلم بوقت الساعة ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ، إذن عدم علمه بوقت الساعة لا يعني عدم علمه بغيره من أنواع وألوان الغيوب، هذا لا ينفي علم الغيب أصلًا عن النبي .

التفسير الثاني: أنَّ هذا الجواب جواب إقناعي وليس جوابًا حقيقيًا، يعني لأجل سدّ باب الهرج والمرج، وإلا فهو ليس جوابًا حقيقيًا، يعني لو أنَّ النبي قال: أنا أعلم الغيب، لانفتح باب الدعاوى، صار كل واحد يقول: أنا أيضًا أعلم الغيب! ما هو الفرق؟! هو بشر وأنا بشر، إذا هو يعلم الغيب فأنا أيضًا أعلم الغيب! فمن أجل سدّ باب هذه الدعاوى، حتى لا ينفتح باب هذه الدعاوى أمره الله أن يقول للناس: ﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، يعني قل لهم هذا الجواب، لا أنك لا تعلم الغيب، إنما ينبغي لك أن تقول هذا الجواب إذا سألك أحد لئلا ينفتح باب الهرج والمرج، وتكثر دعاوى علم الغيب لدى الإنسان.

هذه الآية حينئذ يكون مضمونها شبيهًا بما ورد عن الإمام الصادق ، سدير أصحاب الإمام الصادق، يقول: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزّاز وداود بن كثير عند مولانا الصادق ، فخرج علينا مغضبًا، فلمّا أخذ مجلسه قال: عجبًا لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله، إني هممت أن أضرب جاريتي فهربت مني، وما علمت في أيّ بيوت الدار هي. إذن، هذه الرواية إذا أخذنا بهذه القطعة منها تدلّ على أنَّ الإمام لا يعلم الغيب، يقول عن نفسه: أنا لا أعلم الغيب، وحتى الجارية لا أعلم إلى أين ذهبت.

لكن فلنقرأ بقية الرواية، يقول سدير: فلما خرج من المجلس خرجت معه أنا وأبو بصير وقلنا: يا أبا عبد الله، كيف قلت أنك لا تعلم الغيب ونحن نعلم أنك تعلم علمًا كثيرًا، ولا ننسبك إلى علم الغيب؟ فقال: يا سدير، هل قرأت القرآن؟ قلت: بلى، قال: هل وجدت فيما قرأت قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ؟ قال: نعم قرأتها، قال: ما معنى أنّ عنده علمًا من الكتاب؟ قلت: لا أدري، قال: قطرة من البحر الأخضر، يا سدير هل وجدت فيما قرأت قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ؟ قلت: بلى، قال: فأيهما أكثر فهمًا من عنده علم من الكتاب أم من عنده علم الكتاب كله؟ قلت: سيدي بل من عنده علم الكتاب كله أكثر فهمًا، قال: يا سدير، إنّ علم الكتاب كله عندنا، وأشار إلى صدره.

إذن الجواب الذي ذكره الإمام في مجلسه غير الجواب الذي أبرزه للعارفين، طرح جوابًا لسدّ باب الهرج والمرج، حتى لا يدّعي كل شخص أنه يعلم الغيب، لكن هذا لا ينفي حقيقة أنّ لدى الإمام علمًا لدنيًا، علمًا بالكتاب كله، كما قال الإمام الصادق في معتبرة أبي بصير: ”إنَّ لله علمين: علمًا استأثر به عنده لم يطلع عليه أحدًا من خلقه، وعلمًا أنفذه إلى ملائكته ورسله، فما أنفذه إلى ملائكته ورسلته فقد انتهى إلينا“، ومن أوضح الروايات التي تدلّ على علمهم بمناياهم وبلاياهم إخبارهم بما يجري عليهم، ومنها ما ورد عن الحسين عندما وقف على الصفا وقال: ”خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلا، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفى وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت“.