العبادة عنصر جيني

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في مجموعة من المحاور:

المحور الأول: فطرية العبادة.

هناك بعض الأقلام - أقلام الماديين - كتبت أنَّ العبادة ليست حالة طبيعية لدى الإنسان، وإنما هي حالة طارئة وحالة متكلّفة من قبل الإنسان، فالإنسان لو خُلِّي وطبعه وفطرته لا ينجذب نحو العبادة، والميل للعبادة وممارسة العبادة أمر يتكلّفه الإنسان من أجل تحصيل الشعور بالأمن أمام مخاوف الطبيعة وكوارث الكون، هل هذا الكلام صحيح أم لا؟ نحن نقول: ليس لهذا الكلام صحّة، العبادة حالة منسجمة مع طبيعة الإنسان، وحالة ملائمة لفطرة الإنسان، من خلال عدّة معلومات أطرحها عليك.

المعلومة الأولى: انسجام الشعور العبادي مع طبيعة الإنسان.

حالة الشعور بالسكينة والاطمئنان نتيجة ممارسة العبادة هل هي مقتضى الطبع الإدراكي للإنسان أم لا؟ نأتي هنا إلى الدكتور «نيوبيرك» أستاذ الأشعة التخصصية والأبحاث الروحية في جامعة «بلسلفانيا»، وهو المهتم بدراسة الأسس البيولوجية والعصبية للمشاعر الروحية، هذا الدكتور قام بتجربة على العبّاد، مجموعة من العباد وفي أوقات مختلفة، قام بتجربة على العبّاد عبر التصوير الإشعاعي للمخ ليرى أنّ هذه الحالة الإدراكية للمخ - حالة العبادة - هي حالة شاذة أم حالة طبيعية، فرأى أنّ الشعور بالاتصال بعالم علوي غيبي، كما يشعر به الإنسان العابد، أنه يتصل بعالم آخر، أنّ الاتصال بعالم علوي غيبي، هذا الشعور هو وظيفة مخيّة سويّة، يعني وظيفة طبيعية يشعر بها الإنسان، ليست متكلفة ولا مخترعة، وأنّ الذهن يستخدم نفس النواقل، أي نفس النواقل التي يستخدمها الذهن لإدراك الأشياء الأخرى، أدرك أبي، أدرك أمي، أدرك حبي، أدرك بغضي، نفس النواقل يدرك بها هذه الحالة، وهي الاتصال بعالم علوي غيبي، إذن الشعور العبادي ليس شعورًا مخترعًا، وليس شعورًا مفروضًا على الإنسان، إنه منسجم تمامًا مع الميل الطبيعي للإنسان، منسجم تمامًا مع كيان الإنسان، وليس شيئًا شاذًا ومتكلفًا بالنسبة إليه.

المعلومة الثانية: فطرية ميل الإنسان لتجسيد أفكاره ومشاعره.

هذه يذكرها مجموعة من علماء النفس، وهي أنَّ ميل الإنسان إلى تجسيد الأفكار والمشاعر أمر طبيعي فطري في الإنسان، يعني مثلًا تلاحظ الموسيقيين، هو يعزف سينفونا معينة فترى بدنه يتناغم معها بما ينسجم تمامًا مع الفكرة التي يريد أن يجسّدها، أو حتى قارئ القرآن المتفاعل مع القرآن، أو حتى هذا الرادود الذي يقرأ اللطمية وهو متفاعل معها، عندما يتفاعل الإنسان مع فكرة معينة في رأسه يميل ميلًا فطريًا طبيعيًا - من غير أن يوجهه أحد - لتجسيد الفكرة في بدنه، لذلك بدنه يتحرك على ضوء الفكرة التي في ذهنه وهو متناغم معها، الميل لتجسيد الفكرة تجسيدًا بدنيًا، هذا ميل طبيعي في الإنسان.

نفس هذا الميل ينطبق على العبادة تمامًا، الإنسان عندما يمارس طقسًا عباديًا، صلاة، ركوع، سجود، أو يجلس بينه وبين ربه وهو يقرأ ذكرًا معينًا، اللهم صل على محمد وآل محمد اللهم صل على محمد وآل محمد... وهكذا، هذا التتابع ليس مجرّد تتابع لسان، بل هو تتابع لساني وتتابع نفس وتتابع قلب، التتابع الطقوسي عدة تتابعات من اللسان، من النفس، من الذهن، من القلب، يعيش الإنسان مجموعة من التتابعات، هذا التتابع الطقوسي للإنسان يجعل البدن متناغمًا تمامًا مع الطقس الذي يمارسه، ثلاث قوى في الإنسان تتحرك: الجهاز الحوفي المسؤول عن الانفعالات، الجهاز العصبي اللاإرادي المسؤول عن الوظائف اللاإرادية، القشرة المخية المسؤولة عن الوعي والإدراك، ثلاث قوى تتفاعل مع هذه الفكرة التي أنت تريد تجسيدها تجسيدًا بدنيًا.

إذن، العبادة هي تجسيد، أنت عندك فكرة تريد أن تجسّدها، أنت في ذهنك فكرة الصلاة، الصلاة ما هي؟ الصلاة عبارة عن اتصال قلبي بالله عز وجل، أنا أعيش هذه الفكرة في ذهني، وهي فكرة الصلاة، فكرة الاتصال القلبي بالله، لأنني أعيش هذه الفكرة في ذهني أميل ميلًا طبيعيًا لتجسيد الفكرة على بدني وعلى حركات بدني، فالميل نحو العبادة وممارسة العبادة ميل طبيعي فطري.

المعلومة الثالثة: علاقة منطقة تربيط التشكيل بزوال الشعور بالاثنينية.

وهذه معلومة مهمة جدًا، عندنا في مخ الإنسان منطقة هي منطقة تربيط التشكيل OOA، منطقة تربيط التشكيل تقع في الجزء الخلفي للفص الجداري للدماغ، هذه المنطقة لها طرفان يمين ويسار، كل طرف يؤدّي وظيفة معينة، كيف؟ مثلًا: أنت أغمض عينك وفكّر في نفسك، ماذا ترى؟ المنطقة اليسرى من منطقة تربيط التشكيل تصنع لك صورة ثلاثية الأبعاد لجسمك، تشعر أنّ جسمك في مكان معين، جسمك يملأ فراغًا معينًا، تصنع لك صورة ثلاثية الأبعاد لجسمك، المنطقة اليمنى تقوم بمقارنة بين جسمك وبين المحيط الذي أنت فيه، يعني بعد أن تصوّرت جسمك في صورة ثلاثية الأبعاد يأتي الذهن ويصوّرك في المكان، أنت على اليمين أم على اليسار، أنت تملأ نص المكان أم تملأ ربعًا منه، وهكذا، فمنطقة تربيط التشكيل وظيفتها أن تصنع لك صورة ثلاثية الأبعاد، وأن تقوم بمقارنة بينك وبين المحيط الذي أنت فيه، لتكون هناك نسبة بينك وبين المحيط. هذه ما ربطها بكلامنا؟

هذه المنطقة ما دامت واعية ويقظة تشعر أنك بالاثنينية، أنت شيء والمحيط الذي أنت فيه شيء آخر، تشعر أن هناك اثنين: أنا وهذه الحسينية، أنا وهذا المحيط، ما دامت منطقة التربيط واعية أنت تشعر بالاثنينية، بالغيرية، أنا شيء والمحيط شيء آخر، لذلك حتى في الأفكار، مثلًا: أنا عندما أفكر في عملية رياضية، أتصوّر نفسي وأتصوّر المسألة، ولكن أتصوّر أني شيء والمسألة شيء آخر، أو أتذكر أمي مثلًا، أو أتذكر صديقي الذي أحبه، نفس الكلام، أتصور نفسي، وأتصور صديقي، وأشعر أني شيء وهو شيء آخر، ما دامت منطقة التربيط واعية أنت تتصور اثنين.

ولكن إذا قمت بتتابع طقوسي نحو شيء معين، أنت الآن في ركعة الوتر في صلاة الليل، سبعين مرة تقول في الصلاة: أستغفر الله ربي وأتوب إليه، أنا أقول هذا الذكر وأنا متوجه إلى الله، هذا التتابع الطقسي ما هو أثره؟ يسكّن منطقة التربيط ويهدّئها فتقلّ المدخلات النشطة، لا تدخل إليها مدخلات نشطة، تقلّ المدخلات النشطة التي توقظها، فإذا قلّت المدخلات النشطة شيئًا فشيئًا ينعدم الشعور بالاثنينية، لا تشعر باثنين، بل تشعر بشيء واحد.

أنت جرّب هذه التجربة مع نفسك، مثلًا تصوّر أمك التي تحبّها، تصوّر أمك وكرّر لفظًا معينًا نحو صورة أمك، أنتِ أمي، أنتِ أمي، أنتِ جزءٌ مني، أنتِ كذا... إلخ، هذا التتابع يجعل منطقة التربيط تسكين، تقل المدخلات النشطة، إلى أن ينعدم الشعور بالاثنينية، فلا تشعر إلا بذوبانك في أمك، وفنائك في أمك، وأنه لا يوجد شيئان أنت وأمك، بل لا يوجد فيك إلا شيء واحد وهو أمك، وهذا ما يعبَّر عنه بالفناء، وما يعبَّر عنه بالتسامي، الشعور بالتسامي يعني تشعر أنك ارتفعت عن عالم المادة، لأنك لو كنت قابعًا في عالم المادة لظللت تشعر باثنين، ولكنك تحررت وتساميت عن عالم المادة، فلم تشعر إلا بفنائك وذوبانك في الشيء الذي تفكّر فيه.

هكذا هي العبادة، عندما أقف بين يدي الله عز وجل، وأتوجه إليه تبارك وتعالى، وأتابع الطقس العبادي، من خلال عمل، من خلال ذكر، من خلال لفظ معين، إلى أن تهدأ منطقة تربيط الشكل، ينعدم الشعور بالاثنينية، لا أشعر بشيئين، لا أشعر إلا بشيء واحد، وهو الله، يذوب كيانك فيه، يفنى كيانك فيه، فلا تشعر إلا به، وهذا ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، وكان إذا صلّى تنفذ السهام إلى جسده فلا يشعر بها، شعور بالفناء، شعور بالذوبان في الله تبارك وتعالى.

إذن، العبادة ما هي؟ العبادة اتصال قلبي بالله، وقلنا أنّ هذا الاتصال منسجم مع طبيعة الإنسان، كما نقلنا عن الدكتور «نيوبيرك». العبادة هي تجسيدٌ للفكر على البدن، تجسّد فكرة الصلاة على بدنك، وهذا التجسيد ميل فطري كما يذكر علماء النفس، العبادة هي تسامٍ بالروح، وتحرر من عالم المادة بشكل الفناء والذوبان، وهذا أيضًا فطري طبيعي يحصل للإنسان عند تتابع الطقس العبادي الذي يقوم به، فالعبادة ليست أمرًا شاذًا مخترعًا بعيدًا عن حياة الإنسان وطبيعة الإنسان.

المحور الثاني: ما هي حقيقة العبادة؟

نتحدث عن العبادة بالمنظور الفقهي والعبادة بالمنظور العرفاني.

المنظور الأول: المنظور الفقهي.

العبادة هي إضافة العمل إلى الله إضافة تذللية، هذه تسمّى عبادة، لأنك قد تضيف العمل إلى الله لكن ليست إضافة تذللية، نحن أحيانًا نضيف أعمالنا إلى شيء لكن لا إضافة تذللية، مثلًا: أنا أعمل عملًا لأستاذي، لكن لا حبًا له، بل لأني مجبور، هذه ليست عبادة، أعمل عملًا لك لا حبًا وإنما إكراهًا، او أعمل عملًا لك لا حبًا بل حياءً منك، أو أعمل عملًا لك لا حبًا ولا رغبةً وإنما بملل وسأم، كل هذا ليس عبادة، العبادة أن تضيف العمل إلى الله إضافة تذللية، يعني خالية من الإكراه، خالية من البغض، خالية من السأم والملل، أنا أصلي لك لا لشيء آخر، لا لإكراه من أحد ولا بغض لك ولا سأم ولا ملل، وإنما أضيف صلاتي إليك بذلة وانكسار، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، العبادة إضافة تذللية، إضافة العمل إلى الله إضافة تذللية، هذا التعريف الفقهي للعبادة.

المنظور الثاني: المنظور العرفاني.

العبادة بالمنظور العرفاني هي إبراز المملوكية للمالك الأتم، كيف؟ نحن عندنا الملكية على ثلاثة أنواع: ملكية اعتبارية، وملكية حقيقية، وملكية حقة، الملكية الاعتبارية هي الملكية القانونية، أنا أملك سيارة، يعني عندي ورقة قانونية تسوغ لي أن أتصرف في هذه السيارة تصرفًا حسيًا أو معامليًا، وعندنا قسم آخر من الملكية، ملكية حقيقية، أنا أملك أفكاري، أملك مشاعري، يعني أنني واجد لها وجدانًا حضوريًا، هي حاضرة بنفسها، أفكاري ومشاعري حاضرة عندي، فأنا أجدها وجدانًا شهوديًا حضوريًا، هذه ملكية حقيقية، وعندنا ملكية أعلى من ذلك، ملكية حقيقية حقة، وهي ملكية الإيجاد والإعدام، ملكية الله لما سواه ملكية لا تحتاج إلى اعتراف القانون، وليست مجرد وجدان حضوري، بل هي ملكية الإيجاد والإعدام والقبض والبسط والقيمومة، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.

عندما يدرك الإنسان أنه مملوك لله ملكية حقيقية حقة، وجودي منه، عدمي منه، قبضي وبسطي بيده، ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، أنا كلي له، كلي ملكٌ له، إذا أدرك الإنسان المملوكية الصرفة لله وأبرزها عبر ركوع أو سجود كان هذا هو العبادة، العبادة إبراز المملوكية لله تبارك وتعالى.

المحور الثالث: هدفية الله من العبادة.

الآية التي قرأناها تقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، الهدف هو العبادة، لماذا قدّم الجن على الإنس؟ لأن الجن خُلِق قبل الإنس، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، الجن خُلِق قبل الإنسان، هنا سؤال يطرَح في علم الكلام يحتاج إلى إجابة، الله خلقنا، هل خلقنا سفهًا أم خلقنا لغرض؟ إذا قلنا بأنّ الله خلقنا لا لغرض، وإنما خلقنا سفهًا، فالسفه يتنافى مع الحكمة، الحكيم المطلق لا يصدر منه السفه، وإذا قلنا بأنّ الله خلقنا لغرض إذن هو محتاج لنا، إذا كان عنده غرض إذن هو محتاج إلى تغطية هذا الغرض، ولأجل حاجته إلى تغطية الغرض خلقنا، إذن هو محتاج، وهذا يتنافى مع الغنى المطلق، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، فكيف نجيب عن هذا السؤال؟ إما بلا غرض فهذا يعني السفه، وإذا كان هناك غرض فهذا يعني الحاجة، فالأمر دائر بين السفه والحاجة، فما هو الجواب؟

الجواب عن هذا السؤال:

هنا قاعدة فلسفية: «الفاعل الناقص مستكمل بغايته، والفاعل الكامل غايته ذاته»، ما هو معنى هذه القاعدة الفلسفية؟ أشرحها لك بالمثال، مثلًا: أنا بخيل، أنا أدرك أنني بخيل، لا أبذل، لا أعطي من نفسي طواعية، أدرك أنني بخيل، أنا أعيش نقصًا من هذه الجهة، أريد أن أكمل هذا النقص، أغطي هذا النقص، فأقوم بكرم بعض الأوقات، أبذل مالًا، أبذل جاهًا، أبذل شيئًا من عندي في سبيل أن أعوّض هذا النقص، فأنا فاعل ناقص، أشعر بالنقص، غايتي هي أن أكمّل نقصي، الفاعل الناقص مستكمل بغايته، يعني بالغاية يكمل ذاته ويعوّض نقصه.

تأتي إلى شخص آخر، هو بطبعه كريم، وُلِد وهو كريم، لا يفكّر في شيء، الذي عنده يبذله للآخرين، هذا الكريم عندما يقوم بالكرم تقول له: أنت ما هو غرضك؟ ما هي غايتك من هذا الكرم؟ لماذا أنت تبذل؟ لماذا أنت تكرم؟ يقول لك: أنا ليس عندي غرض من ذلك، طبعي هو الكرم، طبعي هو الذي يدعوني للكرم، ليس عندي غاية من وراء ذلك. إذن، الناقص - وهو الذي يشعر بالبخل - يستكمل بغايته، يعني غايته من خارج ذاته، يأتي بها إلى ذاته، أما الكامل غايته في نفس ذاته، لا يأتي بها من الخارج، الفاعل الكامل غايته ذاته، يعني الغاية لا يسترفدها من الخارج، الغاية تعيش في داخل ذاته، غايتي من كرمي أنني كريم، يعني طبعي هو كذلك، فليس عندي غاية من خارج ذاتي، غايتي ذاتي وهي أنّ طبعي يدعوني إلى الكرم.

نأتي ونطبّق هذه القاعدة على الباري تبارك وتعالى، الله خلقنا، هل خلقنا سفهًا؟ لا، طبعًا لغاية، هذه الغاية هل تعود له؟ لا، تعود لنا وليست له، إذن لماذا خلقنا؟ هو الكمال جل وعلا، محض الكمال، عين الكمال، لا يحتاج إلى أن يكمل ذاته بشيء وبغرض، بما أنه محض الكمال وعين الكمال إذن غايته ليست شيئًا خارج ذاته يأتي بها ليكمل ذاته، غايته من ذاته، ما هي غايته؟ بما أنه كمال فمقتضى الكمال أن يجود بخلقنا لأن الجود صورة من صور الكمال، الجود كمال أم نقص؟ كمال، فإذا كان تبارك وتعالى هو عين الكمال ومحض الكمال إذن لا يحتاج إلى غاية من خارج ذاته، بل غايته من ذاته، هو الكمال، ومن صور الكمال الجود والتفضّل، لذلك خلقنا تفضلًا منه وجودًا منه، لا لحاجة منه إلى وجودنا ولا إلى عبادتنا، جاد علينا بالخلق من أجلنا لا من أجله، من أجل أن نصل نحن إلى الكمال من خلال معرفتنا به ومعرفتنا بجماله وجلاله تبارك وتعالى. لذلك ورد في تفسير هذه الآية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني إلا ليعرفون، وورد عن الإمام الحسين : ”ما خلق الخلق إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه“، معرفة الله كمال للمخلوق وليست كمالًا للخالق.

المحور الرابع: درجات العبادة.

ورد عن الإمام الصادق كما في الكافي: ”إنّ قومًا عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا الله خوفًا فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله حبًا فتلك عبادة الأحرار“، بينما نرى رواية أخرى عن الإمام علي يبدّل كلمة حب بكلمة شكر، ”إنّ الله قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار“، وورد عن الإمام علي نفسه أنه قال: ”ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك“، ما هو الفرق بين هذه الأحاديث؟

العبادة هي وجود مشكّك، وجود نوري يشتد ويضعف، طبعًا أغلبنا من القسم الأول أو من القسم الثاني، إما أن نعبد الله طمعًا في ثوابه فعبادتنا عبادة تجّار، أو نعبد الله خوفًا من عقابه فعبادتنا عبادة العبيد، أغلبنا - إن لم يكن كلنا - على هذا النحو. القسم الثالث - وهو عبادة الأحرار - على درجات:

الدرجة الأولى: درجة الشكر.

الدرجة الأولى من عبادة الأحرار الشكر، أن تتصوّر أنّ الله منعم، فإذا تصوّرت أنّ الله منعم غمرنا بالنعم، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وقال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، أنعم عليّ بالوجود، أنعم عليّ بالرزق، أنعم عليّ بالعقل، أنعم عليّ بالإيمان، أنعم عليّ بالذرية، أنعم، أنعم، أنعم... إلخ، إذا تصوّرت أنّ الله منعم فعقلي يقول: شكر المنعم حسن، بما أنّك أدركت أنّ الله منعم فللمنعم حقّ الشكر، والعبادة شكر، إذن عليك أن تعبد الله شكرًا لنعمته، لا خوفًا من النار ولا طمعًا في الجنة، بل لأجل أنّ عقلك يأمرك بعبادته لأنه منعم يستحقّ الشكر. إذن، أنا تحررت من ذاتي، من عبد الله شكرًا تحرر من ذاته، تحرر من دافع الخوف، تحرر من دافع الطمع، صار الدافع له هو حكم العقل بأن المنعم يستحق الشكر، لذلك عبادته عبادة الأحرار.

الدرجة الثانية: درجة الحب.

وهي أن تتحول العملية من عملية عقلية إلى عملية قلبية وجدانية، كيف؟ عندما أتأمّل في علاقة الله بي، أجد أنّ الله أرحم عليّ من أبي وأمّي، وأرحم عليّ من كلّ أحد، أذنب فيغفر لي، وأسيء فيعفو عني، وأتجاوز وأتجرأ فيغضّ عني، نقابله بالإساءة ويقابلنا بالإحسان، شرّنا إليه صاعد وخيره إلينا نازل، عندما نتأمّل في هذه المعاني، في هذه المفردات، ومدى عنايته وصلته بنا، ينقدح في قلبنا حبّه، إذا لم نتأمّل في حنانه وعطفه ورأفته علينا لن نحبه، لكن إذا تأمّلنا في حبّه لنا، في عطفه علينا، في رأفته بنا، تنقدح في قلوبنا محبّته، فتتحوّل عملية العبادة من عملية عقلية إلى عملية قلبية يملؤها الحب، يملؤها الشوق، يملؤها الرغبة، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. إذن، هذه التي عبّر عنها الإمام الصادق بالحب، وهي الدرجة الثانية من عبادة الأحرار.

الدرجة الثالثة: درجة إدراك الكمال.

وهي ألا ترى إلا الله، هذه أعلى من الحب، أعلى من الشكر، هناك من أدرك الذات القدسية، نحن نتيجة لانغمارنا في عالم المادة، نتيجة لأننا منغمرون في عالم المعاصي، في غبار الذنوب، في غبار الرذائل، لا نرى الله كما يراه الأولياء، أما الأولياء يرون ذاته القدسية بكل كمالاتها، بجمالها، بجلالها، بكل ما لها من كمال، إذا وصل الإنسان إلى رؤية الله بكل ما له من كمال وصل إلى درجة أن يقول عن نفسه: ”ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك“، أنا لا خوفًا ولا طمعًا، وليس مجرد شكر، وليس مجرد حب، بل أدركت ذاتك بكل كمالاتها فرأيتك أهلًا للعبادة فعبدتك، كما قال الإمام أمير المؤمنين علي .

وهذه العبادة هي التي تجسّدت في الأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين»، الحسين بن علي الذي يقول: ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك، عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من ودّك نصيبًا“، ملأ قلبَ الحسين حبُّ الله، ملأ قلبَ الحسين شوقُ الله، ملأ قلبَ الحسين رؤيةُ الله، فبذل كلّ شيء لله.