الشخصية المحمدية، إرداة وطهارة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدّث عمّا وهبه الله لنبيه ، وهنا تساءل المفسّرون: ما هو العلم الذي تميّز على الكتاب والحكمة؟ حيث إنّ القرآن ذكر أنَّ النبي أعطي الكتاب وأعطي الحكمة وأعطي علمًا لم يكن يعلمه زيادة على الكتاب والحكمة، فما هو هذا النوع الثالث الذي عبّر عنه القرآن بأنّه علّمه ما لم يعلم؟ هنا تفسيران:

التفسير الأول: أنّ المقصود بهذا العلم هو علم الغيب، كما أطلعه على الكتاب، كما أعطاه الحكمة، أطلعه على علم الغيب، كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا.

التفسير الآخر: أنّ المراد بهذا النوع من العلم هو العصمة، فإنّ العصمة مبدؤها نوعٌ من العلم، وهذا النوع من العلم أنت تتميّز به عن بقية البشر، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ يعني العلم الذي هو مبدأ العصمة.

من هنا، نتحدّث عن خصائص العصمة، العصمة يعرّفها علماء الكلام بأنّها اللطف الخفي، لكن ما معنى اللطف الخفي؟ ما هي خصائصه؟ ما هي ملامحه حتى يستطيع الإنسان أن يقوم بتصوّره وتصديقه؟ ما هو هذا اللطف الخفي؟ أذكر لك عدّة خصائص للعصمة، للطف الخفي.

الخصوصية الأولى: الصرف الدائمي.

إنّ العلم الذي تشير إليه الآية علمٌ صارفٌ عن المعصية صرفًا دائميًا، ما معنى هذا الكلام؟ يعني هناك علم يصرف لكن صرفًا غالبيًا، هناك علم يصرف لكن صرفًا دائميًا، كيف؟ هناك ثلاث درجات من العلم: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، القرآن ذكر هذه الدرجات الثلاث، قال في سورة التكاثر: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، كانت درجة علم اليقين ثم تصبح عندكم درجة أعلى وهي درجة عين اليقين، وقال عن الدرجة الثالثة في آخر سورة الواقعة: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، ما هو الفرق بين هذه الأقسام؟

علم اليقين هو دليل إنّي، العلم بالمؤثر عن طريق أثره، عين اليقين علم حسّي، حقّ اليقين علم وجداني. مثلًا: أنت إذا رأيت دخانًا من بعيد، يصبح عندك يقين بوجود نار، لا يمكن أن يوجد دخان بلا نار، فأنت علمت بالنار عن طريق أثرها، علمت بالأثر فعلمت بالمؤثر، هذا يسمّى دليلًا إنيًا، هذا يسمّى علم اليقين، صار عندك علم بالنار، ثم ذهبت إلى موقع النار، رأيتها أمامك بعينيك، صار عندك درجة أعلى الآن من العلم، كنت تعلم بها علم يقين وصرت تعلم بها علم عين اليقين، يعني صار لك علم حسّي بالنار، ليس فقط عن طريق الأثر، الآن أنت تعلم بها حسًّا، لو أنّ الإنسان وقع في النار، قال أنا لا أصدّق أنّ هذه نار حتى أقع فيها! وقع في النار إلى أن تفحّم منها وأصبح قطعة من النار، كل جزء من جسمه يشتعل نارًا، انصهر بالنار، أصبح له درجة أعلى من درجات العلم، ألا وهي درجة حقّ اليقين، ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وصل إلى درجة حق اليقين.

الإنسان إذا وصل إلى درجة عين اليقين - يعني الدرجة الثانية - هي كافية في أن يصرفه العلم صرفًا دائميًا، مثلًا: التدخين، هذا الذي يتناول الدخان يعلم بخطره، لكن يعلم علم اليقين، وهي الدرجة الأولى، هو يعلم بأنّ في التدخين خطرًا، يعلم بأنّ في التدخين ضررًا، لكن علمه بهذا الخطر والضرر لا يصرفه عن التدخين أبدًا، مع أنه يعلم بخطره، مع ذلك يتناول التدخين، علمه بخطره لا يصرفه عن التدخين صرفًا دائميًا، يمكن أن ينصرف أحيانًا وأحيانًا يرجع وهكذا، أما لو فعلًا أصيب بالخطر، صار علمه بالخطر بدرجة عين اليقين، صار يشعر بالخطر شعورًا وجدانيًا، ونتيجة شعوره بالخطر شعورًا وجدانيًا صرفه هذا العلم عن التدخين، كانت له درجة من العلم لم تصرفه صرفًا دائميًا، وهي درجة علم اليقين، أصبحت له درجة من العلم بعد أن أصيب بالخطر تصرفه عن التدخين صرفًا دائميًا، وهذه الدرجة تسمّى درجة عين اليقين.

إذن، الدرجة الثانية تصرفك عن الشيء الذي علمت بخطره صرفًا دائميًا. هكذا علم العصمة، ما هو الفرق بين علمي أنا بخطر المعصية وعلم المعصوم؟ أنا أعلم بخطر المعصية، أعلم بأنّ في الكذب، في الغيبة، في عقوق الوالدين، في قطيعة الرحم، أعلم بأنّ فيها خطرًا أخرويًا كبيرًا، لكن علمي بدرجة علم اليقين، أما المعصوم فقد بلغ علمه بخطر المعصية درجة حقّ اليقين، بمعنى أنّ المعصوم يشعر بلذة الطاعة وبألم المعصية شعورًا وجدانيًا، لأنه يشعر بلذة الطاعة وبألم المعصية شعورًا وجدانيًا فقد وصل إلى درجة من العلم هي درجة حقّ اليقين، فصار علمه صارفًا له عن المعصية صرفًا دائميًا.

لا يتناول الكذب، لا يتناول الغيبة، لا يتناول عقوق الوالدين، لماذا؟ يقول لأنني أشعر بخطرها، لست أعلم فقط بخطرها، بل أشعر، أنا الإنسان العادي أقول: أنا أعلم بخطرها، أنا لماذا تركت الكذب، الغيبة، عقوق الوالدين؟ لأنني أعلم بخطرها، المعصوم يقول: لست أعلم بخطرها فقط، بل أشعر بخطرها، وصلت إلى درجة حقّ اليقين، وهذه الدرجة صرفتني عن المعصية صرفًا دائميًا. إذن، الخصوصية الأولى من خصائص العصمة أنّ العصمة تستند إلى علم صارفٍ عن المعصية صرفًا دائميًا.

الخصوصية الثانية: الاختيار.

هل هذه الدرجة من العلم تسلب المعصوم إرادته واختياره؟ هل يصبح المعصوم كأنه جهاز لا بد من أن يفعل الطاعة ويبتعد عن المعصية، بطريقة ميكانيكية لا يفعل المعصية ويفعل الطاعة؟ هل سلبت العصمة إرادته واختياره، بحيث لا تصبح عنده إرادة ولا اختيار؟

لا، العصمة لا تسلب الإرادة والاختيار، المعصوم معصوم لكن لا زالت عنده إرادة ولا زال عنده اختيار، صحيح هو لا يفعل المعصية لكن لا زال يتمكّن من فعل المعصية، يقتدر على فعل المعصية، كيف؟ هذا يعبّرون عنه بالفرق بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي، أشرح لك هذا المصطلح بالمثال: تأتي أنت أيها الإنسان ضيفًا عند إنسان ويقدّم لك في كأس مادة سائلة، تفضّلوا، إكرامًا لكم، أنت ترفع الكأس فتجده مليئًا بالبول! هذا يريد أن يختبرك فقدّم لك كأس بول! هل تشربه؟! لا، هل أنت مجبور على تركه؟ لا، عندك إرادة على الشرب، لو قال قائل: دعني عبثًا أن أشرب بولًا! يستطيع فعل ذلك.

هذا الإنسان مع أنه قادر على شرب البول، ولم يجبره أحد على تركه، وهو يمتلك الإرادة أن يشرب وألا يشرب، مع ذلك يمتنع منه شرب البول لعلمه بضرره علمًا صارفًا، فليس كل من ملك العلم الصارف فقد الإرادة، أنت تملك العلم بضرر البول علمًا صارفًا لك عن شرب البول لكن لا زالت عندك إرادة الشرب، ما زلت متمكنًا من شربه، ولذلك يقال: شرب البول، تناول القذارة من الإنسان ممكن ذاتًا، لكن تناول القذارة من الإنسان العاقل الملتفت ممتنعٌ، فشرب البول ممكنٌ ذاتًا ممتنعٌ وقوعًا، ممكنٌ ذاتًا بما هو بشر، ممتنعٌ بما هو عاقلٌ ملتفتٌ للخطر، فعندنا إمكان ذاتي لكن ليس عندنا إمكان وقوعي، بل عندنا امتناع وقوعي.

نأتي للمعصوم ، المعصوم إذا نظرنا إليه، عندنا نظارتان، عندنا جهازان، إذا نظرنا إليه بما هو بشر نقول: يمكن صدور المعصية منه، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ، أما إذا نظرنا إليه لا بما هو بشر، بل بما هو واجد للعلم، بما هو واجد للعصمة، بما هو مطلع على خطر المعصية، نقول: يمتنع صدور المعصية منه، إذن صدور المعصية ممكنٌ ذاتًا بما هو بشر، ممتنعٌ وقوعًا بما هو واجدٌ للعلم والمعرفة.

الآن مثلًا ترى زعيمًا دينيًا مقدّسًا، هذا الزعيم الديني المقدّس هل يمكن أن يجري في الشارع بين الناس بشورت؟ ذاتًا يمكن، لكن ممتنع وقوعًا، نقول: هذا الزعيم الديني المقدّس بما هو بشرٌ، بما هو إنسانٌ، يمكنه أن يركض في الشارع بالشورت أمام الناس، لكن بما هو ملتفت إلى زعامته، بما هو ملتفت إلى قداسته، لا يصدر منه ذلك، فعلٌ ممكنٌ بلحاظ ممتنعٌ بلحاظ آخر، ممكنٌ بنظر ممتنعٌ بنظر آخر. إذن، العصمة لا تسلب المعصوم اختياره وإرادته، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في حقّ الأنبياء: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يعني بما هم بشر يمكنهم أن يشركوا، وقال مخاطبًا لنبيه محمد : ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وقال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ.

الخصوصية الثالثة: الامتناع عن الخطأ والنسيان.

نحن صوّرنا العصمة بحيث يمتنع الإنسان المعصوم عن المعصية، لكن هل يمكن للإنسان أن يكون معصومًا حتى من الخطأ؟ هل هذا شيء ممكن أم لا؟ هو بشر لكن لا يخطئ ولا ينسى؟ هل يمكن للإنسان أن يصل إلى درجة ألا يخطئ ولا ينسى؟ هل هذا أمر ممكن أم لا؟

أمر ممكن، كيف؟ أنا الآن أشرح لك من خلال علماء النفس. الإنسان يمتلك قوتين: عقلًا وذاكرة، الذاكرة مخزن يخزّن فيه المعلومات، والعقل هو الواعي الذي يدخل المعلومات إلى الذاكرة، الذاكرة تستقبل والعقل هو المرسل، أنت عندك قوتان: عقل وذاكرة، اسأل نفسك: هل يمكن أن يسيطر عقلك على ذاكرتك بحيث لا تخطئ ذاكرتك ولا تنسى أم لا يمكن؟ نعم يمكن.

مثلًا: أنت عندك امتحان في الجامعة، عندك مثلًا مادة هندسة كهربائية، عندك امتحان في هذه المادة، أنت قبل الامتحان بأسبوع تجلس وتعكف على الكتاب، تلخّص، تنقّط المعلومات، تبوّبها، تتذكّرها بين فترة وأخرى إلى أن تعبئ ذاكرتك بمعلومات هذه المادة المعيّنة، تأتي إلى الامتحان، تدخل قاعة الامتحان، أمامك ثلاث ساعات، تجيب عن الأسئلة، هل تستطيع خلال الساعات الثلاث أن تسيطر بعقلك على ذاكرتك، بحيث لا تخطئ ولا تنسى؟ ثلاث ساعات الذاكرة حاضرة دائمًا، أي معلومة حاضرة، لا أخطئ فيها ولا أنسى، هل يمكن أم لا؟ يمكن، كثير من الأذكياء يستطيعون فعل ذلك، ويأخذ في الاختبار 100%، ثلاث ساعات يسيطر على ذاكرته، يجعل عقله مسيطرًا على ذاكرته بحيث لا يخطئ ولا ينسى، نحن نسمّيه «دافور»! الدافور من يسيطر عقله على ذاكرته بحيث لا تشذ عن هذه الذاكرة معلومة أبدًا، خلال ثلاث ساعات الذاكرة حاضرة لا يخطئ ولا ينسى، هذا ممكن.

هناك بعض الناس تأتيهم فواصل بين العقل والذاكرة، هذا يحبّ الموسيقى، يتذكّر نوعًا من الموسيقى فتغيب عنه المعلومة بسبب ذهاب ذهنه مع الموسيقى بضع ثوانٍ، أو إنسان أصابته حوادث، الحادثة تأتي على ذهنه فيشرد، فيغيب عن الذاكرة شيئًا ما، لكن هناك أناس من فرط ذكائهم يسيطر عقلهم على ذاكرتهم بحيث لا يفصل بينهما فاصل، فلا يخطئ ولا ينسى. هذا إذا كان ممكنًا في الإنسان العادي، ثلاث ساعات لا يخطئ ولا ينسى، إذا أمكن في ثلاث ساعات أمكن في عشر ساعات، إذا كان الشيء ممكنًا فلا فرق بين طول الوقت وقصره، يمكن في عشر ساعات إذن يمكنه خلال أربع وعشرين ساعة أن يسيطر عقله على ذاكرته فلا يخطئ ولا ينسى، أمر ممكن.

أشرح لك أكثر: علمًا أنت في كل ثانية كم معلومة تمرّ عليك؟ إذا كنت واعيًا لا نائمًا ولا تعبان فكم معلومة تمرّ عليك في الثانية الواحدة؟ 400 مليار معلومة، من أين تدخل هذه المعلومات؟ عندك حواس خمس، أنا الآن بعيني أنت معلومة وأنت معلومة وأنت معلومة، بعيني عدة معلومات، غير رؤية المكان، غير رؤية الجهاز، وهكذا، كل حاسة من الحواس الخمس تستقبل آلافًا من المعلومات، كما لديك حواس خمس لديك قوى باطنية، عقل، وذاكرة، ووهم، وحس مشترك، وحدس، عندك خمس قوى في الداخل وخمس قوى في الخارج، نتيجة هذه القوى الداخلية والخارجية تمرّ عليك في كل ثانية 400 مليار معلومة، لكن الإنسان المتوسط لا يستطيع أن يأخذ من هذه ال400 مليار إلا ألفي معلومة، لا يستطيع في الثانية الواحدة أن يأخذ أكثر من 2000 معلومة.

ولكن لو فرضنا أنّ هذا الإنسان يمتلك درجة من العبقرية والذكاء، يستطيع أن يلتقط ذهنه في كلّ آن وفي كلّ ثانية عشرات الآلاف من المعلومات، في كل ثانية، كلما سيطر عقله على ذاكرته وكان عبقريًا استطاع بسيطرة عقله المفرط في الذكاء على ذاكرته أن يستقبل في كل آن عشرات الآلاف من المعلومات، ونتيجة هذه القدرة الفريدة على استقبال المعلومات لا يخطئ ولا ينسى، فإذا كانت المسألة ممكنة فلماذا نحن نستبعدها عن المعصوم؟! محمد وآل محمد أعطوا درجة من العقل الوسيع، من الذكاء، من العبقرية، من شدّة الذهن وحدّته، ما يستطيع من خلاله أن يسيطر عقله على ذاكرته، وتكون معلوماته بيده، فيسترفد في الثانية عشرات الآلاف من المعلومات التي من خلالها لا يخطئ ولا ينسى، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى.

القرآن عندما يتحدّث عن الأنبياء يقول: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ يعني عندهم أيدٍ وأبصار؟! كل الناس عندهم أيدٍ وأبصار، فما معنى أولي الأيدي والأبصار؟ اليد كناية عن الجود والعطاء، البصر كناية عن البصيرة ونفوذ البصيرة، أولي الأيدي والأبصار يعني أصحاب بذل وعطاء وأصحاب بصيرة، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ما هي هذه الخالصة؟ ﴿ذِكْرَى الدَّارِ، ذاكرة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ، يعني الدار الآخرة حاضرة في ذاكرتهم لا تغيب، نحن ننسى الدار الآخرة، لكن هؤلاء الأنبياء تعيش الدار الآخرة في ذاكرتهم، لا تمر عليهم لحظة إلا وفي ذاكرتهم الدار الآخرة، ﴿أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، نتيجة ذكرى الدار لا يعصون ولا ينحرفون ولا يزلّون.

ذكرنا أنّ العصمة هي طهارة، هي نزاهة قلبية ناشئة عن العلم، وهذا العلم خصوصيته الأولى أنه يصرف عن المعصية صرفًا دائميًا، وخصوصيته الثانية أنه لا يسلب الإرادة والاختيار، وخصوصيته الثالثة أنه يتسع بحدٍّ يمنع حتى الخطأ والنسيان، نأتي إلى الخصوصية الرابعة.

الخصوصية الرابعة: هل المعصوم له فضلٌ علينا؟

قد يقول قائل: لا فضل له علينا! إذا كان معصومًا فهو أوتوماتيكيًا يطيع الله ويترك المعصية، بينما نحن نحارب أنفسنا، نحارب شهواتنا، نحارب غرائزنا، ونصل إلى الطاعة عبر مهارة، عبر جدارة، عبر انتصار لإرادتنا على شهواتنا، كما ورد عن النبي محمد : ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“، أنا الإنسان العادي أحارب نفسي، أحارب غريزتي، أحارب شهواتي، إلى أن أنتصر عليها بإرادة وجدارة، فأصل إلى الكمال، وأما إذا كان المعصوم واصلًا بطريقة أوتوماتيكية فأيّ فضل له عليّ؟!

الجواب: ذكرنا في بيان الخصوصية الثانية أنّ العصمة لا تسلب الإرادة، إرادته باقية، يعني يتمكّن من المعصية، المعصوم يتمكّن من المعصية، ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، بما أنّه متمكّنٌ من المعصية إذن فعله للطاعة وبعده عن المعصية ناشئ عن حكومة إرادته وحكومة عقله، كما ورد عن أمير المؤمنين علي : ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، هذا أولًا.

ثانيًا: دع هذه النقطة في ذهنك، ما يعيشه المعصوم من محفّزات نحو المعصية أكثر ممّا يعيشه الإنسان العادي، هو يقاوم أكثر ممّا يقاومه الإنسان العادي، كيف؟ الإنسان العادي منّا إذا أصبح دكتورًا، عنده شهادة دكتوراه، أو بروفيسور، خلاص لا تسلّم عليه، لا تكلّمه! إذا حصل على هذه الدرجة من العلم رأى نفسه شيئًا متميّزًا على الآخرين، ويرى لنفسه مقامًا ليس للآخرين، إذن العلم محفّزٌ نحو الغرور، طبيعة العلم هكذا، العلم محفّزٌ نحو الغرور، محفّزٌ نحو رؤية النفس، محفّزٌ نحو تميّز النفس على الآخرين، العلم فيه هذه الخاصية.

إذا هذا صار دكتورًا فصار عنده محفّزٌ نحو الغرور، فمن عنده علم الكون كله، من عنده علم الكتاب، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، إذا كان لديه علم الكتاب إذن وجود محفّز نحو الغرور والانسياق وراء الغرور موجود عند المعصوم بدرجة أعلى تبعًا لتفاوت درجات العلم، هذا علم بالهندسة الكهربائية، صار لا يكلَّم، ذاك وصل إلى درجة بروفيسور وصار لا يكلَّم، فكيف بمن يمتلك أعلى درجات العلم المحفِّز نحو الغرور، المحفِّز نحو الاسترسال، صحيح هو ما تصدر منه معصية، لكن توجد محفزات عنده نحو الغرور، محفزات عنده ليرى نفسه متميزًا على الآخرين. المعصوم بإرادته واختياره كما يحارب المعاصي والشهوات يحارب محفّزات الغرور التي هي عنده أقوى من غيره، وبذلك يكون لتميّزه رجحانٌ وفضلٌ على الآخرين، فإنه بقوّة إرادته يحدّى حتى هذه المحفزات والمغريات والإثارات.

ثالثًا: المعصوم يتميّز علينا بقوّة الصبر، سؤال واحد يطرحه: لماذا اختار الله هؤلاء أئمة ولم يختر غيرهم؟ لماذا اختار الله الإمام عليًا أن يكون إمامًا ولم يختر أخاه جعفر؟ جعفر أيضًا كان مؤمنًا، لماذا لم يختر جعفر الطيّار للإمامة؟ لماذا اختار علي بن أبي طالب للإمامة؟ ما هو السبب؟ ما هو المرجّح؟ علمه بأنّ هذا الإنسان أقوى صبرًا من غيره جعله مؤهلًا للإمامة، يعني الله من الأول يعلم أنّ هذا الإنسان يمتلك من الصبر ما ليس عند غيره، علمه بأنّ هذا الإنسان أقوى صبرًا من غيره جعله مؤهلًا للإمامة، بحيث افترض أنّ الله لم يعطه إمامة ولا علمًا ولا عصمة، مع ذلك سيكون أقوى من غيره صبرًا، علي حتى لو لم يعط علمًا ولا عصمة سيكون أقوى صبرًا من غيره، لما علم الله منذ الأزل أنّ عليًا أقوى صبرًا من غيره حتى لو لم يعط أيّ شيء وهبه الإمامة والعلم والعصمة.

اقرأ زيارة الزهراء : ”يا ممتحنة امتحنكِ الله قبل أن يخلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة“، ولذلك القرآن الكريم عندما يتحدّث عن الأئمة من بني إسرائيل يقول: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، المقياس الصبر، درجة الصبر، طاقة الصبر، ”يا ممتحنة امتحنكِ الله قبل أن يخلقكِ“ عرض عليها كل تاريخها ”فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة“، لما وجدها تحمل طاقة هائلة من الصبر - بحيث حتى لو لم يعطها العصمة ستكون صابرة على كل حال - وهبها العصمة. إذن، هذا هو سرّ الاختيار، وهذا هو سرّ التفضيل، كيف يكون عليٌّ أفضل من البشر؟ كيف يكون عليٌّ متميّزًا على البشر، مع أنه معصومٌ؟ تميّز علي بقوّة صبره، بمقدار ما أعطاه من النعم أعطاه نوائب، هذا بهذا، كأنّ الله تبارك وتعالى خاطب عليًا منذ الأزل، قال له: هذا بهذا، تعطى إمامة، تعطى علمًا، تعطى عصمة، لكن بإزاء آلاف من المصائب والنوائب تحلّ عليك، هذا بهذا، يقول الشاعر الأزري:

قد حباه بكل فضلٍ عظيم   وبمقدار  ما حباه iiابتلاه

بمقدار ما أعطاه من نعم أعطاه مصائب ومحنًا، فتميّز علي في صبره، في تحمّله، في مواجهته لهذه المحن والنوائب، تميّز أهل البيت في صبرهم، في جلدهم، في تحمّلهم لما لاقوه من المصائب والمحن، وفي طليعتهم السيّدة الزهراء، ”فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة“، هذه المرأة العظيمة خرجت بدمائها، خرجت بجراحها، خرجت بآلامها تدافع عن إمام زمانها، تدافع عن منصب الإمامة، تدافع عن هذا المنصب العظيم، ”أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبن بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين“، كل ذلك بذلته في سبيل الدفاع عن منصب الإمامة.