فلسفة الدعاء في رحاب الصحيفة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محورين:

  • في تحليل مبدأ السببية.
  • وفي بيان فلسفة الدعاء.
المحور الأول: تحليل مبدأ السببية.

قانون السببية الذي يقرّر أنّه ما من حادث إلا وله سبب، هذا القانون لا يشمل الله تبارك وتعالى، حيث إنّ بعض الماديين يقول: إذا كان لكل موجود سبب إذن فلله سبب، إذا كان الله أوجد الكون فمن أوجد الله؟ هذا التعبير أو هذا السؤال هو خطأ في حدّ ذاته، لأنّ السببية إما أن يراد بها السببية التكوينية الخارجية، فالسببية الخارجية الله خالقها، والصانع لا يخضع لما صنعه، هو الذي صنع السببية الخارجية، فكيف يكون مشمولًا لما صنعه؟! وكيف يكون خاضعًا لما صنعه؟! وأما السببية العقلية، أي قانون السببية، فما يحكم به العقل ليس كل موجود له سبب، هذا خطأ في التعبير، ما يحكم به العقل: كل حادث له سبب، العقل لا يقول: كل موجود له سبب، العقل يقول: كل حادث له سبب، والله ليس بحادث كي يكون له سبب، بل هو واجب الوجود.

إذن، قانون السببية لا يشمل الله تبارك وتعالى، وبالتالي فقانون السببية في الكون كله هو عبارة عن سببية تفويضية وليس سببية مستقلة، بمعنى أنّه لا يوجد في الكون سبب مستقل، لا يوجد في الكون سبب مطلق، كل ما في الكون من الأسباب فسببيته مستقاة ومعطاة من قبل الله تبارك وتعالى، فلا توجد سببية استقلالية أو سببية مطلقة، السببية الاستقلالية والمطلقة لله تبارك وتعالى، ما سواه سببيات تفويضية، أي أن الله فوّض إليها وأعطاها بإذن سببية، سواء كانت سببية تكوينية أو سببية غيبية.

مثلًا: إذا بلغت درجة حرارة الماء مئة فإنه يغلي في الظروف الطبيعية، سببية بلوغ الحرارة مئة للغليان سببية تكوينية، إلا أنها ليست سببية استقلالية، سببية ناقصة، سببية تفتقر لإرادته تعالى ولإذنه وليست سببية استقلالية، وكذلك السببية الغيبية، مثلًا: سببية الخشوع في الصلاة للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، الخشوع في الصلاة سبب غيبي لأمر غيبي، ألا وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، هذه السببية أيضًا ليست سببية استقلالية، بالنتيجة هي سببية معطاة من قبل الله تبارك وتعالى، فكل سببية في الوجود ترجع لإرادته تعالى، ترجع لإذنه تعالى، وإلا فليس لسبب أن يعمل أو يؤثر دون إذنه أو إرادته، وهذا مقتضى قيوميته على كل موجود في هذا العالم.

قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وقال تبارك وتعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ليس المقصود بالشفاعة الشفاعة يوم القيامة، المقصود بها الشفاعة التكوينية، بمعنى السببية، لا يوجد شفعٌ وتأثيرٌ وسببيةٌ إلا بإذنه، وقال في آية أخرى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.

علاقة المعجزة بقانون السببية:

من هنا يطرَح سؤالٌ حول مبدأ السببية، وهذا السؤال يتعلّق بالمعجزات التي ظهرت على يد الأنبياء والأئمة «صلوات الله عليهم أجمعين»، هل المعجزة خارجة عن قانون السببية؟ هل المعجزة تحدث بلا سبب أم لا؟ مثلًا: القرآن الكريم يتحدّث عن عيسى بن مريم : ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، صنع عيسى للطير من الطين معجزة، هل هذه المعجزة تحدث بلا سبب؟ هل هي خرق لقانون السببية، أم لا؟ لا، لا بدّ من سبب، أذكر لك أمرين يوضحان علاقة المعجزة بقانون السببية:

الأمر الأول: المعجزة أمر حادث، ولكل حادث سبب، فالمعجزة لا تخرج عن قانون السببية. بعبارة أخرى: المعجزة لا تقع في المستحيل، الشيء المستحيل لا يحدث حتى بالإعجاز، المستحيل مستحيل، لا يتحقق لا بالإعجاز ولا بالاعتياد، لا يتحقق بالطريقة الإعجازية ولا بالطريقة الاعتيادية، فمثلًا: اجتماع النقيضين مستحيل، لا يحدث حتى بالإعجاز، أنا موجود وأنا غير موجود في آن واحد! لا يمكن، كلامي صح وكلامي خطأ في آن واحد! لا يمكن، اجتماع النقيضين لا يتحقق ولو بالإعجاز، الإعجاز لا يتعلّق بالأمور المستحيلة، الواحد لا يمكن أن يصبح نصف الثلاثة، هذا مستحيل ولو بالإعجاز. إذن، كما أنّ اجتماع النقيضين محال فلا يتعلّق به الإعجاز حدوث الحادث بلا سبب محال فلا يتعلّق به الإعجاز، لا يمكن أن يحدث شيء بدون سبب، هذا محال، وبالتالي المعجزة لا تعني خروج المعجزة عن قانون السببية.

الأمر الثاني: بما أنّ المعجزة لها سبب فما هو سببها؟ مثلًا: وجود طير من الطين أمر ممكن أم مستحيل؟ ليس بمستحيل، ممكن، يعني عندنا طير حي، نُقِلَت خلية الحياة من الطير الحي إلى هذا الطين، يصبح طيرًا، ليس شيئًا مستحيلًا، من الممكن أن يصبح الطين طيرًا إذا انتقلت له خلية الحياة من طير يعيش الحياة، هذا ليس أمرًا مستحيلًا، بل هو أمر ممكن، الكلام ما هو السبب وراء حدوث المعجزة؟ هل هو سبب مادي أم هو سبب غيبي؟ هنا اتجاهان في علم الكلام، في كتب علم الكلام تعرّضوا لهذه النقطة.

الاتجاه الأول: سبب المعجزة مادي.

عيسى لم يوجد طيرًا من الطين بسبب غيبي، بل بأسباب مادية، أي أنّ عيسى نقل خلية الحياة من طير حي إلى هذا الطين فأصبح طيرًا، سبب مادي وراء ذلك، كيف يعني سبب مادي؟ أشرح لك هذه النقطة. هذا الاتجاه يرى أنّ الله عز وجل أطلع عيسى على الأسباب المادية التي من خلالها يمكن أن يصبح الطين طيرًا، أطلع عيسى على الأسباب المادية التي من خلالها إبراء الأكمه والأبرص، أطلع عيسى على الأسباب المادية التي من خلالها يمكن طي الأرض، وهكذا من المعاجز، المسألة مسألة علمية لا أكثر، يعني عيسى تعلّم الأسباب المادية التي من خلالها يمكن أن يولد الطير من الطين، فمسألة الإعجاز ترجع إلى قضية علمية، وليست ترجع إلى قضية غيبية، أطلعه الله على ما لم يطلع عليه غيره، كيف نفهم هذا؟

هذا نفهمه من قضية آصف بن برخيا، القرآن يخبر عن قصة سليمان مع وزيره آصف، ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين، ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك المسألة مسألة علم، ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك، طبعًا المقصود بالكتاب الكتاب التكويني، لأنّ عندنا كتابًا تشريعيًا، وهو القرآن، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وعندنا كتاب تكويني، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ يعني عنده معرفة بأسرار الحياة، عنده معرفة بأسرار الوجود، آصف بن برخيا يمتلك ثقافة بأسرار الوجود وأسرار الحياة، استخدم هذه الأسرار، استخدم هذه الأسباب المادية، وأتى بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين، كما أطلع الله آصف على الأسباب المادية للنقل أطلع الله عيسى على الأسباب المادية لإيجاد الطير من الطين، المسألة مسألة علمية مادية.

ربّما يستدلَّ على هذا الاتجاه بالعقل والنقل، أما بالعقل: المعجزة أمر مادي، وجود طير من الطين قضية مادية، ولكل مسبَّب سببٌ من سنخه، بما أنّ المسبَّب مادي إذن السبب مادي، إذن يحتاج إلى سبب مادي. وأما من ناحية النقل: ظاهر مجموعة من الآيات أنّ كل شيء مادي له قدر معيّن لا يخرج عنه، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، يعني جعل له حدودًا مادية لا يتعدّاها، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، إذن كل شيء له حدود، ومن حدوده المادية أنّ سببه مادي، فبما أنّ المعجزة شيء مادي إذن سببها مادي، إذن ما تميّز به عيسى عن غيره أنه اطّلع على أسرار المادة وكيفية استخدام الأسباب إلى أن وصل إلى النتيجة، وغيره لم يطلع على ذلك.

فإن قلت: إذا كان الأمر هكذا، فمن الممكن أن يتقدّم العلم غدًا ويستطيع أن ينقل خلية الحياة من طير حي إلى طير طيني، وتصبح معجزة عيسى شيئًا عاديًا، لأن العلم توصّل إليها، أو ما قام به آصف بن برخيا، نقل عرش من منطقة إلى منطقة بعيدة، افترض أنّ بينهما 3000 كيلو، نقل هذا العرش من الذهب والفضة من هذه المنطقة إلى تلك المنطقة خلال ثانية واحدة، يمكن أن يصل العلم في المستقبل إلى هذه القدرة، إذن سوف يصبح الإعجاز أمرًا نسبيًا، يعني ما صنعه عيسى كان معجزة بالنسبة إلى زمانه، لكن إذا تمكّن العلم من ذلك تخرج المعجزة عن كونها معجزة.

الفرق بين الطريق العلمي والطريق الإعجازي أنّ الطريق العلمي... حتى لو توصّل العلم، افترض أنّ العلم توصّل في المستقبل إلى أن يولد من الطين طير، وكما يقولون: الآن هناك فرضية علمية يعملون عليها، أن يولد الإنسان من دون أب، يولد من خلية أنثوية، من خلية من جسد أمه، ممكن، هذه فرضية علمية يبحَث في تحققها، بحيث لا تصبح قضية عيسى بن مريم قضية إعجازية ونادرة، يمكن أن يولد الإنسان من غير أب من دون الحويمن المنوي، لو توصّل العلم مستقبلًا إلى أنه يمكنه بطريق علمي أن يوجد من الطين طيرًا، هذا ممكن، مع ذلك يبقى فرق، الطريق العلمي طريق تدريجي قد يصيب وقد يخطئ، أمّا الطريق الإعجازي وإن كان طريقًا ماديًا طريق دفعي صائب لا يخطئ، فيبقى الفرق بين الطريق العلمي والطريق الإعجازي ثابتًا حتى لو توصّل العلم إلى الأسباب المادية التي من خلالها يولد الطير من الطين.

الاتجاه الثاني: سبب المعجزة غيبي.

وهذا هو المعروف بين علماء الكلام، الإعجاز لا ينشأ عن سبب مادي، بل ينشأ عن سبب غيبي، وإن كانت المعجزة أمرًا ماديًا، بمعنى أنّ النفس النبوية القدسية هي العلة والسبب في ولادة المعجزة، هذه النفس القدسية لعيسى بن مريم، هذه النفس القدسية لمحمد ، هذه النفس القدسية باتصالها بالله عز وجل هي سبب في ولادة المعجزة، فهو سبب غيبي وليس سببًا ماديًا، لماذا؟

ذكرت في محاضرة سابقة أنه ما من موجود إلا وله عنصران: عنصر مادي يسمّى بالعنصر الملكي، وعنصر تجريدي يسمّى بالعنصر الملكوتي، حتى الموجودات المادية التي نراها، ما من مادي إلا وله عنصر ملكوتي هو الرابط بينه وبين ربّه، وبالتالي فهذا المسبّب الذي أنت تعتبره ماديًا ليس ماديًا محضًا، ولادة الطير من الطين ليس أمرًا ماديًا محضًا، بل له عنصر ملكوتي، ولأنه متضمنٌ لعنصر ملكوتي يمكن أن يؤثر فيه سبب غيبي وليس سببًا ماديًا، وذلك السبب الغيبي اتصال النفس القدسية للنبي أو الإمام بالله تبارك وتعالى.

وهذا من أين نستظهره من القرآن الكريم؟ لاحظ التعبير بالإذن، ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، يعني أنا عندي قدرة على ذلك، فقط تحتاج إلى إذنه تعالى، التعبير بإذن الله يعني المقتضي تام، لم يبق إلا الإذن والمشيئة، أي أنّ نفس النبي مقتضٍ لحصول الأمر، فقط تحتاج إلى الإذن والمشيئة، وهناك آية أخرى أوضح من ذلك، قوله عز وجل: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، كيف ينصر رسله؟ إنما تتحقق غلبة الرسل إذا ملكوا شيئًا لا يمكن أن يملكه غيرهم، وإلا ما ميزة هذا الرسول على غيره؟ ما ميزة هذا النبي على غيره؟ ميزة الرسول على غيره بحيث تتحقق له الغلبة أنّ لنفسه القدسية تأثيرًا في الأشياء لا يتيسر لغيره من الناس، لا يتيسر لغيره من المخلوقين.

المحور الثاني: فلسفة الدعاء.

الدعاء حقيقته تجسيد المملوكية، نحن ملك لله عز وجل، نحن واجدون لمملوكية تكوينية لله عز وجل، الدعاء هو أن نبرز تلك المملوكية، هو أن نجسّد تلك المملوكية في أبداننا، في أيدينا، الصلاة تجسيد للمملوكية، الدعاء تجسيد للمملوكية، ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، ولذلك هناك رواية جميلة جدًا عن الإمام الباقر : ”ما بسط عبدٌ يديه وهو يدعو إلا استحيا الله أن يردّهما صفرًا حتى يجعل فيهما شيئًا من فضله ورحمته، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتى يمسح بها رأسه ووجهه“، بسط اليد تجسيدٌ للمملوكية، وكان رسول الله محمد إذا دعا مدّ يديه كما يستطعم المسكين. الدعاء تجسيد للمملوكية، ولذل المملوكية، ولكن هنا أسئلة ثلاثة تتعلق بالدعاء وبفلسفة الدعاء.

السؤال الأول: كيف نوفق بين فائدة الدعاء وحتمية القضاء؟

ربّما يقول الإنسان: ما هي فائدة الدعاء؟! إذا كان الشيء مقدّرًا فسوف يتحقق دعوت أو لم تدع، وإذا كان غير مقدّر فلن يتحقق دعوت أو لم تدع، مثلًا: أنا مريض، فأدعو: اللهم ارزقني الشفاء، إذا كان شفائي من مرضي مقدرًا عند الله فسوف يحصل دعوت أم لم أدع، هو واجب الحصول، لأن ما قدّره الله لا يمكن أن يتخلّف، وإذا لم يكن مقدّرًا إذن هو ممتنع الحصول، إذ يستحيل وجود شيء لم يقدّره الله، فأين هو دعائي؟! إما واجب الحصول وإما ممتنع الحصول، فدعائي لا أثر له، ما هو أثر الدعاء حينئذ؟!

التفت إلى هذه النقطة، الجواب: أنت تدعو بالشفاء، تقول: اللهم ارزقني الشفاء، الشفاء مقدر، لكن ما هو المقدر؟ هل مقدر على نحو القضية التنجيزية أم على نحو القضية التعليقية؟ يعني هل قدّر الله لك الشفاء، أم قدّر الشفاء معلقًا على سبب معين؟ ما قدّر الشفاء مطلقًا، وإنّما قدّر الشفاء معلقًا، لأن الشفاء مسبّب فيحتاج إلى سبب، قدّر الشفاء معلّقًا على حصول سببه، والسبب قد يكون سببًا ماديًا كشرب الدواء، وقد يكون سببًا تجريديًا كالدعاء، لعلّ من أسباب شفائك التي عُلِّق في القدر عليها هو دعاؤك، فإذن أنت تقول: الشفاء مقدّر أم غير مقدّر؟! مقدّر، أما ما قدّره الله الشفاء معلقًا على دعائك، الشفاء معلقًا على شربك للدواء، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

هذا نظير أعمالك الاختيارية، شخص يقول: أنا لماذا أبادر للصلاة؟! نفس السؤال، لماذا أنا أبادر للصلاة؟! إن كان الله قدّر أن أصلي سوف أصلي أردت أم لم أرد، وإن كان الله قد قدّر ألا أصلي فيستحيل أن أصلي أردت أم لم أرد! نقول: لا، الله قدّر لك الصلاة معلقة على إرادتك، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، معلّق عليك أنت، صلاتك معلقة على إرادتك، معصيتك معلقة على إرادتك، كذلك شفاؤك، رزقك، كلّ ما يتعلّق بك معلّق على صدور عمل اختياري منك، لا تقل مقدّر أم غير مقدّر؟! مقدّر لكن معلقًا على صدور فعل اختياري منك، ولذلك قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

الدعاء ليس إلغاء للسببية، وإنما هو هدمٌ للسببية الاستقلالية، ما هو معنى هذا المصطلح؟ أنت تريد أن يرزقك الله زوجة صالحة، أنت شاب مؤمن وتريد أن تتزوج، ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أنت تدعو، ارزقني زوجة صالحة، ارزقني ولدًا صالحًا، يعني يرزقك بدون سعي؟! بدون سبب مادي؟! ينزل عليك من السماء؟! إذن بالنتيجة الدعاء ليس إلغاء للسببية، الدعاء اعتراف بأنّ هناك أسبابًا مادية عليك أن تسعى نحو تحقيقها، أنت تطلب زوجة صالحة، اسع لأسباب ذلك، تطلب ولدًا صالحًا، اسع لأسباب ذلك، الدعاء ليس فيه إلغاء للسببية وإنما هدمٌ للسببية الاستقلالية.

شرب البندول سببٌ لتسكين الألم، هل تعتقد أنّ شرب البندول سبب مطلق لتسكين الألم، سبب تام لتسكين الألم، سبب مستقل لتسكين الألم؟ إذا اعتقدت بذلك فهذا شرك، معناه أنّ هناك سببًا في عالم الوجود غير الله تبارك وتعالى، ولكن الدعاء يعني أنّ شرب البندول وإن كان سببًا لتسكين الألم إلا أنه سبب ناقص، تحتاج سببيته إلى إرادته تعالى، فبما أنّني أقر بأنّ الأسباب ناقصة إذن أنا أدعو الله كي يجعل السبب الناقص سببًا تامًا، فالدعاء ليس إلغاء للسببية، بل هو اعتراف بالسببية، لكنه هدمٌ للسببية الاستقلالية، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”لا يرد القضاء إلا الدعاء“، وورد في الحديث الشريف: ”إنّ الدعاء يدفع البلاء وقد أبرم إبرامًا“، قد تجتمع الأسباب المادية، تجتمع الأسباب المادية نحو مرضك، نحو موتك، شخص يعبر الشارع، بحسب الأسباب المادية تصيبه السيارة وتقضي على حياته، ولكن الدعاء منع تأثير الأسباب المادية في مسبَّبها، ”لا يرد القضاء إلا الدعاء“، ”الدعاء مخ العبادة“.

السؤال الثاني: ما الفرق بين من يؤمن بالدعاء وغيره؟

كثير من الماديين يطرح هذا السؤال، عندي صديق التقيت به في بريطانيا قال لي: أنا لا أفهم أين الدعاء، أين أثره؟! أنا طبيب جرّاح وعندي زميل ملحد جرّاح أيضًا، وكلانا يدخل المستشفى ويقوم بعمليات جراحية، ونحن نتنافس، كل يوم بعملتين أو ثلاث أو عملية واحدة، حسب المطلوب، هو لا يؤمن بالدعاء ولا بالغيب ولا بالله وينجح، وأنا أؤمن بالدعاء وأنجح، ونتنافس على النجاح، يومًا هو ينجح أكثر ويومًا أنا أنجح أكثر، وهكذا، أين أثر الدعاء إذن؟ أين أثر الإيمان بالغيب إذن؟ وبعبارة أخرى: نأتي إلى حبة البندول وتسكين الألم، هذه الحبّة جربّناها على مئة مليون مريض، 80% من هؤلاء المرضى شفوا وسكن الألم منهم بحبّة البندول بدون دعاء، و20% شربوا ولم يسكن الألم لكن لم يسكن الألم لا لأنهم لم يدعوا، بل لوجود مانع صحي، أو لخلل جسدي منع من تأثير حبّة البندول، إذن أين جدوى الدعاء؟ البدن السليم إذا شرب هذه الحبّة سكن الألم وإن لم يدع، والبدن المريض إذا شرب الحبة لم يسكن الألم وإن دعا، إذن فأين أثر الدعاء؟!

الجواب: أولًا: هذا التحليل خطأ، القضايا الغيبية لا يمكن الوصول إليها بالمقياس المادي، أصلًا لا تستطيع، أنت كيف تعرف أنّ الدعاء أثّر أم لم يؤثّر؟ الدعاء أمر غيبي، وتأثيره تأثير غيبي، بما أنّ التأثير ملكوتي غيبي فلا يخضع للمقاييس المادية، فكيف يمكن نفيه أو إثباته عبر المقاييس المادية؟! أصلًا هذا الكلام خطأ في حدّ ذاته، أنا أقول: لا أثر للدعاء لأننا قمنا بتجربة مادية ولم نجد أثرًا له! المفروض أنّ أثر الدعاء تأثير ملكوتي غيبي، والتأثير الملكوتي الغيبي لا يمكن استكشافه نفيًا ولا إثباتًا من خلال المقاييس المادية، هذا أولًا.

ثانيًا: تعرّضت أنا إلى محاضرة ضمن العشرة الأولى من المحرّم حول الإيمان بالغيب، جدوى الإيمان بالغيب، الإيمان بالغيب الذي يتجلّى من خلال الدعاء، الدعاء عبارة عن الإيمان بالغيب، الإيمان بالغيب الذي يتجلّى من خلال الدعاء لا ينحصر أثره باستجابة الدعاء، إما أن تؤثر حبّة البندول وإما لا يوجد إيمان بغيب! لا ينحصر أثر الإيمان بالغيب باستجابة الدعاء، وإنما الإيمان بالغيب له آثار تربوية جمّة على شخصية الإنسان.

الأثر الأول: أنّ الإيمان بالغيب علاجٌ للقلق، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ربّما هذا الطبيب الذي ينجح في جراحته يعيش مشاكل قلقية، يعيش مشاكل توجب له قلقًا وتأرجحًا وتذبذبًا لا علاج لها إلا التوكّل على الله، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.

الأثر الثاني: أنّ الإيمان بالغيب رادعٌ عن الرذيلة، قلت له: ما هو الفرق بينك أنت وبين هذا الجرّاح؟ أنت إذا تعرّضت إلى إغراء أو إثارة لا ترتكب المعصية لأنك تؤمن بالغيب، وهو إذا تعرّض لإغراء جنسي أو إثارة معينة ينساق نحوها لأنه لا يؤمن بغيب يردعه عن الاستجابة للمغريات والإثارات، الإيمان بالغيب الذي يتجلّى في الدعاء رادعٌ عن الرذيلة، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

الإيمان بالغيب الذي يتجلّى في الدعاء يغرس فيك قوّة الإرادة، ما الذي ميّز محمّدًا وعليًا وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من الأئمة؟ ميّزهم الإيمان بالغيب، الإيمان بالغيب خلق فيهم قوة الإرادة، الإيمان بالغيب خلق فيهم أبطالًا في مجال الصبر وقوة الإرادة، حتى ورد عن النبي : ”ما أوذي نبيٌّ كما أوذيت“.

السؤال الثالث: لماذا ندعو فلا يستجاب لنا؟

كثير من الناس يقولون: نحن تعبنا، ندعو، ندعو، ندعو، لا نرى نتيجة، لا نرى أثرًا للدعاء، لا نرى استجابة للدعاء، فكيف نصدّق قوله عز وجل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، وكيف نصدّق قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ؟ أنا سأنقل لك روايات، أنت من خلال الروايات تأمّل. استجابة الدعاء تحتاج إلى عناصر:

العنصر الأول: الحضور، حضور قلبك أثناء الدعاء، أن يخرج الدعاء من قلبك عن خشوع وذلّة وانكسار، ورد عن الإمام الصادق : ”لا يقبَل الدعاء من ظهر قلب لاهٍ“، يقرأ الدعاء وهو لاهٍ ساهٍ، الحضور شرط في الإجابة.

العنصر الثاني: الوسيلة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، من هم الوسيلة؟ عن الصادق : ”لا يزال الدعاء محجوبًا حتى يصلى على محمد وآل محمد“.

العنصر الثالث: الغيرية، لا تدخل في الدعاء بأنانية، ارزقني واشفني وعافني وأعطني وأعطني وأعطني، عش غيرية، عش إحساسًا بالآخرين، عش رعاية للآخرين في دعائك، ورد عن الإمام الصادق : ”من قدّم أربعين مؤمنًا ثم دعا استجيب له“، تدعو لغيرك لم تدعو لنفسك، عش نوعًا من الغيرية.

العنصر الرابع: الأدب، الدعاء يحتاج إلى أدب مع الله، كيف هو الأدب؟ نقرأ هذه الرواية: قال رجلٌ للإمام الصادق : إنّ في القرآن آيتين أقرؤهما ولا أجدهما، قال: ما هما؟ قال: أولاهما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، ونحن ننفق ولا يخلف الله علينا! قال: أفترى الله قد أخلف وعده؟! قال: لا، قال: إذن، قال: أنت قل لي، قال: من أخذ المال من حلّه وأنفق في حقّه فما أنفق درهمًا إلا وقد أخلفه الله عليه، قال: ثانيهما قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ونحن ندعو ولا يستجاب لنا، فقال: أفترى الله أخلف وعده؟ قال: لا، قال: إذن؟ الإمام يبيّن له، قال: من أطاع الله فيما أمر... إلخ، ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أما أنا بوسخ الذنوب، وسخ المعاصي، تملؤني الأوساخ من قرني إلى قدمي، وأفرض على الله: إما أن تستجيب دعائي وإما كلامك ليس له مصداقية ولا معنى!

من أطاع الله فيما أمر ودعا الله من جهة الدعاء استجيب له، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: تذكر الله وتمجّده «الحليم الكريم العظيم العليم»، ثم تذكر نعمه عليك وتشكره، ثم تصلّي على محمد وآل محمد، ثم تذكر ذنوبك وتقرّ بها، ثم تستغفر منها، ثم تدعو، وذلك هو جهة الدعاء.

إذن، الدعاء له عناصر، له شروط، فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ يعني إذا صدر منه الدعاء الحقيقي الجامع لشرائطه، ﴿إِذَا دَعَانِ. وهذا زين العابدين، وهذه صحيفته السجادية، وهذه مناجاته، وهذه الثروة العظيمة التي صدرت من الإمام زين العابدين علي في مجال الدعاء، زين العابدين يعلّمنا كيف نستمطر الرحمة، زين العابدين يعلّمنا في صحيفته كيف نرقّق أرواحنا، يعلّمنا في صحيفته كيف نضع النقاط على الحروف، نفوسنا تحتاج إلى أن نخبرها، نفوسنا تحتاج إلى أن نجلوها، نفوسنا تحتاج إلى أن نقرأها قراءة المحاسبة والمعاتبة.

الإمام زين العابدين كما يروي عنه من رآه متعلقًا بأستار الكعبة وهو يدعو، وبكاؤه يسمعه من مرّ عليه، ”إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك“، يتحدث عنّا، يتحدث عن أنفسنا، يتحدث عن واقعنا، ”ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بأمرك مستخف، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني عليه شقوتي، وغرّني بذلك سترك المرخى عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عنّي، فواسوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفين أجوز، أم مع المثقلين أحط، ويحي! كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربي“.