تاريخية النص القرآني في الميزان

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

صدق العلي العظيم

الآية الكريمة تتحدث عن عذاب دنيوي استحقَّته أمة النبي محمد ، ولكن الله جل جلاله لم ينزل عليها العذاب لوجود النبي محمد بين ظهرانيها، فلقد قال الله تبارك وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، لكن استحقاق العذاب لم يرتفع عنهم وإنما أُخِرَ لما بعد وفاة النبي .

والآية تتحدث عن موعد ذلك العذاب الدنيوي الذي استحقَّته أمة النبي محمد ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، ثم من هي الأمة المعدودة التي أُخِرَ العذاب إلى وقتها؟ من هنا جاءت الروايات التي تتحدث عن تحديد الأمة المعدودة التي أُخِرَ عن يومها العذاب، فقد وردت عدة روايات في الكافي وفي إكمال الدين للشيخ الصدوق، وفي كتاب الغَيْبة للطوسي، وغيبة النعماني وغيرها عن الإمام الباقر ”الأمة المعدودة قائم آل محمد وأصحابه“ فموعد حلول العذاب المستحق هو يوم ظهور القائم المهدي، وربما ذلك ينسجم مع ما تحدثت به الروايات الشريفة من أن هناك من العلامات الحتميَّة لخروجه عجل الله تعالى فرجه الشريف حصول صيحة في السماء يفزع منها أهل الأرض، والخسف بين مكة والمدينة.

إذن إن الروايات تتحدث عن أن المراد بالأمة المعدودة هم أصحاب المهدي «عج» وأنصاره وأوتاد دولته، وأعضاد دولته المباركة، هنا قد يُثار سؤال وهو أنه لماذا لا نجد ذكرًا للمرأة في أنصار المهدي «عج» أو في أصحابه أو في حركته المهدويَّة؟ ربما ينطلق ويتوسع هذا السؤال ليُقال بأننا لا نجد للمرأة حيوية واضحة وذكرًا واضحًا في حركة التاريخ الإسلامي بل في التراث الإسلامي لا نجد موقعًا مميزًا للمرأة فما هو سر ذلك؟

من هنا نتحدث في محورين:

المحور الأول: الموقعية المفقودة للمرأة في التاريخ الإسلامي.

كيف نتعامل مع التراث الإسلامي الذي لم يذكر موقعًا مميزًا للمرأة في حركة التاريخ الإسلامي؟ مثلًا إذا رجعنا للنصوص القرآنية ونظرنا إلى قوله جل جلاله ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، أو قوله تبارك وتعالى ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ، نجد أن التراث الإسلامي ميَّز الرجل على المرأة، واعتبره متميِّزًا حيث قال ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فكيف نتعامل مع هذا التراث؟ وفي ذلك هناك اتجاهان:

الاتجاه الأول: الاتجاه الحداثي.

كيف يتعامل هذا الاتجاه مع هذا التراث الذي يتحدث عن تميز الرجل عن المرأة؟ هذا الاتجاه يرتكز على ركيزتين:

الركيزة الأولى: الفرق بين الدين والتراث الفقهي.

هناك فرقٌ بين الدين وبين التراث الفقهي: فالفقه شيء، والدين شيء آخر، الدين هو الوحي الذي نزل من السماء على النبي محمد ، وأما التراث الفقهي الموجود في الرسائل العمليَّة، وفي الكتب الفقهيَّة، هي أفكار اصطنعها الفقهاء كلٌ بحسب مقدرته وطاقته، فما صنعه الفقهاء وملؤوا به الكتب الفقهية هذا تراث فقهي قد يصح وقد يُخْطِئ، وليس هو الدين، الدين هو الوحي الذي نزل من السماء وأما ما فهمه الفقهاء هو مجموعة أفكار صنعتها عقولهم بمقدار طاقتهم وجهودهم وهذا ليس هو الدين، والشاهد على أن هناك فرقٌ بين الدين والتراث الفقهي هو تعدد القراءات، أي أن العلماء يختلفون في قراءتهم للنص، فهل كل قراءاتهم هي الدين؟ إذن اختلاف الفقهاء في قراءة النص دليل واضح على أن الدين يختلف عن التراث الفقهي، فمثلًا التراث الفقهي مبنيٌ على حرمة الشطرنج، ولكن الإمام الخميني قدس سره خالف هذا التراث الفقهي وأفتى بأن الشطرنج إذا تحوَّل من أداة قمار إلى أداة رياضية بحتة فلا يحرم التعامل به من دون قمار، وهذا الأمر يخالف التراث الفقهي، مثال آخر، التراث الفقهي يرى أن القرض بشرط يعتبر رِبا، أي أنني إن أقرضتُك مائة دينار شرط أن تعيدها لي مائة وخمسة دنانير يعد ربا، كل قرضٍ جرَّ نفعًا هو ربا، السيد محمد باقر الصدر قدس سره خالف هذا التراث الفقهي إذ قال: إذا كان الشرط شرطًا لتدارُك الخسارة لا لجلب المنفعة فهو ليس ربا، أي أنك إذا كنتَ خبيرًا بالسوق مثلًا وتعلم أن الدولار بعد عام ستقل قيمته، فلو قلت للمقترض من الآن أقرضك مائة ألف دولار ولكن بعد عام تُعيدها مائة ألف وخمس مائة دولار، وهذه الخمس مائة عوضًا عن النقص الذي سيحصل، فأنا من الآن آخذ زيادة عوضًا عن النقص، فهذا ليس ربا، الربا ما كان جلبًا لنفع وليس سدَّا لنقص، وهذا يخالف التراث الفقهي، مثال ثالث أن التراث الفقهي يرى أن المناط في ثبوت الشهر الشرعي رؤية الهلال بالعين المجرَّدة، ولكن لدينا مجموعة من الفقهاء تقول أن الأهم في الثبوت تحقق الرؤية سواء بالعين المجرَّدة أو بالعين المسلَّحة أو بالعين المجهرية. إذن تعدد القراءات الفقهية للنصوص هو بنفسه شاهد على أن الدين شيء والتراث الفقهي شيء آخر، فما يخالف التراث الفقهي لا يعد مخالفًا للدين، لأنه خالف فتاوى، ومجموعة أفكار صنعها عقلٌ بشري، ألا وهو عقل الفقيه.

الركيزة الثانية: تاريخية النص.

إن الاتجاه الحداثي يركِّز على هذه النقطة، ما معنى تاريخية النص؟ نأخذ الوحي الذي نزل على النبي محمد مثلًا، الوحي هو شيء مقدَّس، هو مجموعة من التجليات التي نزلت على قلب النبي محمد ، والوحي مطلقٌ لا محدود، ولكن بعد أن ترجمه النبي ، فبعد أن ترجم النبي لغة الوحي إلى كلام عربي خرج الوحي من حالة القداسة إلى حالة الظاهرة البشرية، وكيف ذلك؟ أي أن هذا الكلام الذي صدر من فم النبي محمد كلام عربي، صدر من فم بشري، بلغة بشرية أصبح ظاهرة بشريَّة، إذن الوحي تغيَّر من كونه كلامًا إلهيًّا مقدَّسًا إلى كونه ظاهرة بشريَّة، وبعد أن يتحول إلى ظاهرة بشرية - وهو كسائر الظواهر، كما يقول علماء علم الاجتماع - لا يمكن قراءة الظاهرة منفصلة عن ظروفها، فهذه الظاهرة لا يمكن فصلها عن ظروفها، ومثال ذلك صلح الحديبية لا تستطيع أن تعتبره قانونًا لكل زمان؛ لأن صلح الحديبية كان ظاهرة بشريَّة في يومٍ معيَّن لا يمكن قراءتها منفصلة عن الظروف التي أحاطت بها، كذلك هزيمة المسلمين يوم أُحد، كانت ظاهرة بشرية لا يمكن قراءتها منفصلة عن ظروفها.

إذن هذا القرآن الذي بين أيدينا ظاهرة بشرية، لأنه كلام بشري صادر من فم بشري، بلغة بشرية، فبما أنه ظاهرة فهو مثله، مثل صلح الحديبية، ومثل هزيمة المسلمين يوم أحد، لا يمكن أن يُقرأ منفصلًا عن الظروف، لأجل ذلك عندما نأتي مثلًا لهذه الآية ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ، فنقول أن هذا النص ظاهرة بشرية، ولا تقرأ إلا بقراءة ظروفها، إذن هذا النص صدر في ظروف معيَّنة فإذن هو مُؤطَّر بإطار تلك الظروف التي صدر فيها، إذن فُضِّل الرجل على المرأة عندما كانت المرأة فلاحة، أو ربة منزل، أُميَّة، أما الآن لا يُعقل تفضيل رجل يعمل فلاحًا أو كنَّاسًا على امرأة، أصبحت وزيرًا، أو أستاذًا في الجامعة، أو أصبحت عالمًا من العلماء، فهو تفضيل غير ممكن، إذن هذه النصوص القرآنية منوطة بظروفها التي صدرت فيها وهذا ما يُسمَّى بتاريخيَّة النص. إذن الاتجاه الحداثي تعامل مع النصوص الواردة في المرأة بل في جميع الأحكام بنظرة تاريخية النص.

الرد على هذا الاتجاه:

المناقشة الأولى: القرآن صياغة إلهية.

إذا كانت هذه الصياغة العربية للقرآن الكريم صادرة من النبي محمد نفسه أي أن الوحي نزل على النبي مجموعة أفكار وهو الذي قام بصياغتها بلسانه العربي، صحيح أن الوحي خرج وتحول إلى ظاهرة بشرية كان وحيًا بعدما صاغه النبي أصبح ظاهرة بشرية؛ لأنه كلام بشري يخرج عن القداسة، ويخرج عن الإطلاق ويصبح محدودًا، أما إذا كانت هذه الصياغة اللفظية نزلت من السماء، أي أن القرآن نزل معنىً ولفظًا إذن هذه الصياغة ليست صياغة بشريَّة، ليس كلامًا بشريًّا صدر من فم بشري، بل لا دور للنبي محمد في صياغة أو ترجمة، فالمسألة ليست مسألة ترجمة أو صياغة فقد كان دوره التَّلقِّي فقط، هو شخصٌ يتلقَّى الوحي معنىً ولفظًا ويبلغه كما تلقَّاه، فأنت عندما تأتي إلى الآيات الكريمة سواء كنت تعتبرها من كلام النبي أو من قرآن الكريم نفسه، فالنبي محمد عند الحداثيين وغيرهم أنه صادقٌ أمين، لا يقول كذبًا، هذه الآيات القرآنية تتحدَّث وتقول ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ هو نزل هكذا، بلغته العربية، فالنبي لم يقم بترجمة أو صياغة وقال تبارك وتعالى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ إذن الصياغة صياغة إلهية وليست صياغة بشريَّة، وقال جل جلاله ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، بل حتى عند الشعراء تجدهم أحيانًا يُلْهَمون اللفظ وليس فقط المعنى، وهذا التصور نتصوره في الشعراء ونعطِّله عند الأنبياء؟!، إذن بالنتيجة لو كان هذا القرآن صياغة بشرية سيكون ما تقدَّم صحيحًا، وأما إذا كانت الصياغة إلهية لم يخرج الكلام عن كونه وحيًا إلهيًا، متسمًا بصفة القداسة والإطلاق واللامحدوديَّة.

المناقشة الثانية: مرجعية أهل اللغة في فهم النصوص.

لو افترضنا أن هذا القرآن كلام بشري، ما هو المرجع في فهم نصوص القرآن؟ نرجع إلى العقلاء، والعقلاء إذا عرضت عليهم أي نص، فما المرجع في فهمه؟ فلو صدر نصًا قانونيًا من البرلمان لمن يرجع العقلاء في فهم النص؟ المرجع عند العقلاء في فهم أي نص إلى أهل اللغة في ذلك النص، مثال ذلك إذا وجدت قصيدة في الأدب الفرنسي، يرجع إلى أهل اللغة الفرنسية في فهمها، وإن كانت القصيدة قبل ألف عام، وكذلك الأمر إن كانت القصيدة في الأدب الفارسي يرجع إلى أهل اللغة الفارسية في فهمها، إذن المرجع عند العقلاء في فهم النص هم أهل اللغة، لغة ذلك النص، من هنا جاء القرآن بنصٍ عربي، والمرجع في فهمه هم أهل اللغة العربية، وليس المرجع في فهم النخبة من المثقفين، أو العلماء، أو الأدباء، المرجع في فهم النص القرآني إلى أهل اللغة الذين نزل بلغتهم النص، خصوصًا أن القرآن لم ينزل على النخبة بل نزل القرآن لعموم المسلمين.

أنت تُرُبِّيتْ على اللغة العربية، فلذلك لا تشعر بالقواعد التي تمر بها للفهم، اللغة العربية ليست لغة استرساليَّة أو تلقائيَّة، اللغة العربية مبنيَّة على قواعد ومرتكزات، وهذه القواعد منها قواعد عامة ومنها قواعد خاصة، فالقواعد العامة هي ما بحثه علماء الأصول، في عمل الأصول، في بحث الأصول اللفظيَّة، أحكام المطلق والمقيَّد، أحكام الخاص والعام، أحاكم الناسخ والمنسوخ، هذه القواعد العامة قواعدٌ منتزعةٌ من اللغة العربية؛ لفهم أي نص. وهناك قواعد خاصة مذكورة في علم اللغة والأدب، اللغة العربية لا يمكن فهمها بشكلٍ تلقائي واسترسالي، بل هناك قواعد عامة وخاصة إذا لاسلكها الإنسان فهم النص العربي كما يفهمه أهل اللغة، من هنا جاءت الحاجة إلى الرجوع للفقهاء، نحن لا نقول أن الفقيه له قدسية خاصة، ولا نقول أن التراث الفقهي هو الدين، بل نقول لا يمكنك فهم هذا النص الوارد في القرآن إلا عبر القواعد المستفادة من اللغة العربية، والخبير بتلك القواعد هو الفقيه، فالرجوع إلى الفقيه لأنه خبير بتلك القواعد، تمامًا مثل أي علم آخر، فمثلًا هل تستطيع أن تحكِّم رأيك في قصيدة للمتنبي أو لأبي العلاء المعرِّي؟ لا تستطيع ذلك، فتقول أن هذا علم بُنِيَ على قواعد معينة فالمرجع في نقد النص إلى تلك القواعد وخبرائها، كذلك اللغة، وفهمها وفهم نصها يبتني على قواعد، والمرجع في فهم النص إلى تلك القواعد، إذن المرجع إلى الخبير بتلك القواعد، والخبير بقواعد فهم النصوص الواردة في القرآن والسنُّة هو الفقيه ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

المناقشة الثالثة: دور السياق في فهم النص.

كل نص له سياق معيَّن، علم اللغة والأدب يقولون: السياق من أقوى القرائن على فهم الخطاب والنص، كل نص له سياق، لابد أن نقرأ سياق النص، إذا كان سياق النص خطابًا تدبيريًّا اختصَّ بظروفه، وإذا كان سياق النص خطابًا قانونيًا صار عامًا لكل زمن، ولكل جيل، ولكل موقع، فكيف يكون ذلك؟ مثال على ذلك:

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً هذا خطاب تدبيري وليس قانونيًا، لأن هذا الخطاب صدر لمعالجة مشكلة معينة، لقد كان العرب عندما يتحدثون مع النبي كانوا يتحدثون بجرأة وجسارة على مقام النبي محمد فمن أجل علاج هذه المشكلة، لذلك جاء هذا الخطاب لينظم كيفية الحديث مع النبي عن طريق تقديم الصدقة، فهذا خطاب تدبيري، ظاهر السياق أنه جاء لمعالجة مشكلة معيَّنة، فيختص بظرفه وليس خطابًا عامًا. ومثله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ هذا خطاب تعبوي، ولكنه خاص بظروفه، وليس لكل زمان، هذا خطاب يُفهم من سياقه أنه خطاب تدبيري يعالج ظرفًا معينًا، يعالج حالة معيَّنة، فيختص بذلك الظرف.

حتى في الروايات لدينا خطابات تدبيريَّة ومثال ذلك مُعْتَبَرة محمد بن مسلم، فقد جاء إلى الإمام الصادق سائلًا عن لحوم الأضاحي: أتخرج من منى؟ فقال الصادق : كنَّا ننهى عن ذلك لحاجة الناس إليها وأما اليوم فقد كثُر الناس فلا بأس من إخراجها" أي أن النهي عن إخراج لحوم الأضاحي من منى كان نهيًا تدبيريًا ولم يكن نهيًا قانونيًّا، لأنه كان يعالج مشكلة معينة، وعندما عُولجت المشكلة انتهى وقت هذا النهي بانتهاء ملاكه وعالجته للمشكلة المعيَّنة، فهذا نهي تدبيري.

مثلًا ما ورد في الخضاب، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يكن يخضب شيبته، في حين أن النبي كان يخضب شيبته، فسُئِل الإمام عن ذلك: ”لم لا تخضِّب شيبتك؟ قال: كان ذلك والإسلام قُل، أما وقد ضرب الأرض بجرانه فامرؤ وما اختار“ يعني الخطاب الذي صدر من النبي بخضاب الشيب كان خطابًا تدبيريًّا، ولم يكن خطابًا قانونيًّا، لذلك انتهى أمده بانتهاء وقته، هذه كلها خطابات تدبيرية تختص بظروفها.

لكن إذا فهمنا من السياق أن الخطاب قانون، وأن الله جل جلاله يشرِّع قانونًا فلا معنى لحصر هذا القانون بزمن دون زمن، أو مكانٍ دون مكان، أو مجتمع دون مجتمع، بعدما فُهِمَ من خلال السياق أنه خطاب قانوني، وليس خطابًا تدبيريًّا نحو قوله جل جلاله ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، هذه كلها خطابات قانونيَّة، نتمسك بإطلاقها، ولا يختص مفادها بزمن دون زمن، ولا بفرض دون فرض، ولا بظرف دون ظرف، لماذا؟، لأن سياقها سياق الخطاب القانوني، وليس سياق الخطاب التدبيري.

حتى على مستوى القضاء والحكم بين الناس فإذا رأيت ورقة وقفيَّة، وقد مضى على تاريخ هذه الورقة ألف عام وهذه الورقة تقول: وُقِفت الدار الفلانيَّة - مازالت موجودة - على العائلة الفلانية، أو المسجد الفلاني أو على المأتم الفلاني، وعلى ذلك فلا يتوَّقف أحد أمام هذه الورقة إلا بالتنفيذ المباشر، فالقضاء يحكم حكمه ليأخذ بظاهر الوقفية، وهي أن الدار وقف على المسجد في كل زمان ومكان، يعمل بها وتسلَّم للمسجد.

العقلاء لا يتوقَّفون في النصوص إذا كان سياقها سياق قانونيًا عامًا بل يعملون على طبقها، ولا يحصرون مفادها على زمن معيَّن، أو جيل معيَّن، لذلك تجد أن الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، استدلوا بالآيات القرآنيَّة العامة، ورد في الرواية المعتبرة عن الإمام الباقر : ”لو أن الآية نزلت في قومٍ فمات أؤلئك القوم، وماتت الآية لم يبق من القرآن شيء، إن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ما دامت السماوات والأرض“ وقال في رواية أخرى ”إن الله أنزل على نبيِّه شريعته ومنهاجه فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة“ وهذا أيضًا ظاهر الآيات القرآنية مثلًا قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ فهو ليس لزمن دون زمن، وقوله تبارك وتعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فلا لعالم دون عالم ولا لجماعة دون جماعة، إذن الاتجاه الحداثي في التعامل مع النصوص بالرؤية التاريخية غير تام.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الفقهي.

يرتكز الاتجاه الفقهي على ثلاثة ركائز:

الركيزة الأولى: الاشتراك بين الرجل والمرأة.

القاعدة الأصلية هي الاشتراك بين الرجل والمرأة، فليس لدينا تمييز بينهما، فالمرأة تشارك الرجل في جميع الخطابات، وفي جميع الأحكام إلا ما ورد فيه الاستثناء، قال تعالى ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ القاعدة الأصلية هي الاشتراك، وما ورد في الشهادة، وما ورد في الميراث هذا يسمَّى استثناء وليس هو القاعدة بل القاعدة الأصلية هي الاشتراك.

الركيزة الثانية: وراء الأحكام مصالح.

الأحكام الشرعية جاءت لرعاية مصالح ولم تأتِ عبثًا وجزافًا، بما أن الأحكام الشرعية جاءت لرعاية مصالح، وهذه المصالح إما أن تكون تكوينية وإما أن تكون مصالح اعتباريَّة، مثال ذلك: لماذا حُرِّمَ الخمر؟ حُرِّم لأنه مفسدة تكوينيَّة، قال الرسول الأعظم ”إن الله عزَّ وجل لم يحرِّم الخمر لاسمها، فما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر“ فهذه الحرمة لمفسدة تكوينيَّة، وأحيانًا الحرمة لا تكون لأمر تكويني بل لأمر اعتباري، مثال ذلك: إذا قذف إنسانٌ امرأة، قذفها بالزنا، وليس لديه بيِّنة على ذلك، فيكون عقابه أن يُجلد ثمانين جلدة، فلماذا يُجلد ثمانين جلدة إذا كانت المرأة راضية بما قيل فيها؟ يجب أن يُجلد من أجل درء مفسدة اجتماعية وليس لمفسدة تكوينيَّة، الإسلام يحافظ على حرمة الإنسان حتى وإن لم يحافظ هو عليها، نعم الإسلام يحافظ على حرمة الإنسان حتى لو أصرَّ الإنسان على هتك وتضييع حرمته فالإسلام يراعي حرمته ويحافظ عليها، فيُجلد القاذف ثمانين جلدة، ولو كان المقذوف راضيًا بالقذف، هذا درءٌ لمفسدة اجتماعيَّة وليست مفسدة تكوينيَّة، مثال آخر: المطلَّقة تعتُّد بثلاث حيضات، بمجرد أن تطرقها الحيضة الثالثة تخرج من العدة، بينما إذا توفي زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذا الأمر لمصلحة اجتماعية، وليس لمصلحة تكوينيَّة، الإسلام يريد أن يبيَّن أهمية ميثاق الزواج، فعقد الزواج ميثاق غليظ وشديد، احترامًا لهذا الميثاق، ميثاق عقد الزواج، وإظهارًا لأهميَّة هذا الميثاق المرأة تكون في حداد على زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، إذن هذه مصالح اجتماعية وإن لم تكن مصالح تكوينيَّة.

الركيزة الثالثة: التمييز بين الرجل والمرأة تمييز قانوني.

عندما يميز الإسلام الرجل على المرأة في بعض الأحكام فهل هذا تمييز واقعي أم هو تمييز قانوني؟ بالطبع هو تمييز قانوني، التمييز في القانون لا يكشف عن التمييز في الواقع، والتفضيل القانوني لا يكشف عن التفضيل الواقعي، مثال ذلك: إذا قُتِل الإنسان في سبيل الله فحكمه ألا يُغسَّل ويكفَّن بثيابه ويُصلَّى عليه ويُدفن، أما الإنسان المؤمن الذي لم يُقتل في سبيل الله فحكمه يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلى عليه، فهل هذا يدل على أن الأول أفضل من الثاني؟ ليس شرطًا، فلو قارنَّا بين الحمزة عم النبي والنبي محمد ، الحمزة قُتِلَ في المعركة وحكمه ألا يُغسَّل، أما النبي قد توفي على فراشه وحكمه أن يُغسَّل، فهل يعني ذلك أن الحمزة أفضل من النبي ؟ لا ليس كذلك، إنما هذا تفضيل قانوني، وليس تفضيلًا واقعيَّا، التفضيل القانوني لا يعني التفضيل الواقعي، قانونًا الذي يُقتل في سبيل الله لا يُغسَّل فقط، فهذا تفضيل قانوني لا يكشف عن تفضيل واقعي.

مثال آخر: إذا الإنسان قتل وقامت بيِّنة شاهدان عادلان على أن فلان قتل، فحكمه القتل، ولكن إذا زنى وجاء الشهود وقالوا: نشهد على فلان أنه زنى، وعندما حضروا في المحكمة أمام القاضي شهد ثلاثة منهم والرابع تراجع عن الشهادة، بمجرَّد أن يتراجع الرابع يُجلد الثلاثة، فلماذا في القتل يُكتفى بشاهدين ولو تراجع أحدهما لا يُجلد الآخر، بينما في الزنا لا يُكتفى إلا بأربعة شهود، وإذا تراجع أحد الأربعة جُلِدَ الثلاثة، هل لأن الزنا أعظم مفسدة من القتل؟ ليس الأمر كذلك، إذن هذا تفضيل قانوني، وليس تفضيلًا واقعيًّا.

فالقاعدة تقول التفضيل الشريعي الفقهي لا يكثف عن التفضيل الواقعي، التفضيل الواقعي هو مقام الإنسان عند ربِّه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ، إذن تفضيل شهادة الرجل على شهادة المرأة، وإعطاء الرجل سهمًا كاملًا من الميراث دون المرأة، لا يعني التفضيل الواقعي وأن الرجل أفضل من المرأة، لا، ليس كذلك، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ.

المحور الثاني: هل للمرأة دور في حركة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ نعم، لها دور ويستفاد ذلك الدور بطرق ثلاثة:

الطريق الأول: الروايات، فلا تظن أنك الرجل ستختص بها دونها، وفي ذلك رواية المفضَّل بن عمر قال ”يجتمع أنصار المهدي «عج» بمكة وفيهم ثلاثة عشر امرأة“ هذه رواية، وهناك رواية أصح منها سندًا رواية جابر الجعفي عن الإمام الباقر ”يجتمع له بمكة ثلاث مائة وبضعة عشر وفيهم خمسون امرأة“ خمسون امرأة من خواص الأنصار، لأن دولة الإمام المهدي تقوم على 313 شخصًا، كعدِّة أصحاب بدر، وهؤلاء الثلاث مائة وثلاثة عشر سخصًا هم وزراء دولته، هم أقطاب دولته وحكومته، منهم خمسون امرأة، إذن المرأة لها دور بارز وواضح في دولة المهدي عجل الله تعالى فرجه وحركته.

الطريق الثاني: النصوص العامة، النصوص العامة لم تخصص الرجل دون المرأة، قال تعالى ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إذا كان الرجل وليٌ على المرأة، فالمرأة كذلك ولية على الرجل، ولية عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الزوج إذا وجد منكرًا من زوجته نهاها وأنَّبها لو قصَّرت في حجابها، وظيفته أن ينهاها. والزوجة أيضًا إذا رأت منكرًا من زوجها تنهاه وتُؤنبه عن المنكر الذي يقوم به، للرجل ولاية على الامرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللمرأة أيضًا ولاية على الرجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن النصوص العامة ما ورد عن النبي محمد ”أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج“ وهذا يشمل المرأة ويشمل الرجل، فلا يخص بأحد دون الآخر.

الطريق الثالث: الرموز العامة للنساء على مدى التاريخ الإسلامي، السيدة خديجة بنت خويلد ، هل استطاع رجل أن يقوم مقامها؟ أبدًا، والسيد فاطمة الزهراء ، وهي أول شهيد في سبيل الدفاع عن مبدأ ومنصب الإمامة، فهل استطاع أحد أن يقوم مقامها أو يقوم بدورها؟ أبدًا، السيدة زينب بنت علي عليهما السلام، حكيمة بنت الإمام الجواد، أم كلثوم، سكينة بنت الحسين وأمثالهن، هذه الأدوار التي قامت بها النساء ليست أدوارًا استثنائيَّة، وليست أدوارًا اضطراريَّة، بل هي أدوار تأسيسيَّة، أن نساء أهل البيت قمنَّ بهذه الأدوار ليُشرِّعنّ قانونًا عامًا وهو أن المرأة قادرة على أن تصنع التاريخ الإسلامي، وقادرة على أن تصنع من البطولات ما لا يقدر الرجل على صنعه، وقادرة على أن تخَّط في خط الفداء، بل أروع صور الفداء والتضحية، أم البنين، الأم العظيمة التي بذلت أولادها الأربعة في سبيل فاطمة الزهراء، في سبيل الدين وفي سبيل المبدأ، هذه المرأة الطاهرة التي ضحَّت بما عندها في سبيل الزهراء وأبناء الزهراء ، هنيئًا لها لمَّا بشَّرها الإمام علي قائلًا ”يُقتل ولدكِ هذا أبو الفضل مقطوع الكفين، مفضوخ الظهر، بين يدي أخيه أبي عبدالله“ سجدت على الأرض شكرًا لله وقالت ”الحمد لله الذي جعل ولدي فداءً لولد فاطمة الزهراء، وكلنا فداءٌ لفاطمة ولأولاد فاطمة“ فقد كانت تنتظر ذلك اليوم، تنتظر بلهفة لأن تسمع أن أولادها شهداء في سبيل دين فاطمة الزهراء، وخط فاطمة الزهراء.