درس الأصول | 104

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق المطلب الثاني: في الفارق بين الوجوب الطريقي والوجوب النفسي، وهو فرق بحسب الملاك؟ أم هو فرق بحسب الإرادة؟ أم هو فرق بحسب الداعي؟

فقد يقال بأن الفرق بين الوجوب الطريقي والوجوب النفسي بلحاظ الملاك، أي ان الوجوب النفسي ما كان ملاكه في متعلقه، فاذا قال: يحرم قتل النفس المحترمة، فإن في نفس القتل ملاكا يقتضي الحرمة، بينما إذا قال: خذ بخبر الثقة، فإنه لا يوجد ملاك في نفس الاخذ، وانما الملاك في الواقع الذي يحفظ من خلال اتباعه خبر الثقة.

فلذلك قلنا: بأن وجوب حفظ النفس نفسي لأن الملاك في متعلقه، بينما وجوب الأخذ بخبر الثقة طريقي، لأن الملاك ليس في متعلقه وانما الملاك في الواقع.

لكن هذا الفرق غير تام، بلحاظ أن كل وجوب مولوي سواء كان نفسيا أو طريقياً، يوجد ملاك في متعلقه، فكما أن وجوب حفظ النفس من الهلكة يوجد ملاك في متعلقه وهو خلو النفس من التلف، كذلك الوجوب الطريقي يوجد ملاك في متعلقه وهو طريقيته وحافظيته، مثلا: المولى عندما يأمر بالاحتياط أمراً طريقياً فالملاك في نفس الاحتياط، حيث إن الاحتياط فيه الحافظية وفيه الطريقية لحفظ الواقع، وهذه الطريقية والحافظية ملاك يقتضي الامر به، فلا فرق في هذه الجهة بين الوجوب الطريقي والوجوب النفسي، فكل منهما يتبع ملاكا في متعلقه.

وأما أنه قد يقال بأن الملاك قد يكون مقدمة لملاك في شيء آخر، وقد لا يكون، أي ان الاحكام الطريقية كوجوب الاحتياط، ووجوب الاخذ بخبر الثقة، وان كان في متعلقها ملاك وهو الطريقية والحافظية للواقع، الا ان هذا ملاك مقدمي، لأنه ملاك لتحصيل ملاك آخر في شيء آخر، فهذا يختلف عن ملاك الوجوب النفسي، فإن ملاك الوجوب النفسي ليس ملاكاً مقدمياً لتحصيل ملاك آخر، وانما هو في نفس المتعلق وليس في شيء آخر.

ولكن، اجيب عن ذلك في كلمات الاعلام: بأنه لا يوجد واجب نفسي ذو ملاك نفسي محض غير وجوب معرفة الله عز وجل، حيث إن في المعرفة ملاكا، والا ما سوى وجوب معرفة الله جميع الوجوبات النفسية ملاكها مقدمة لتحصيل ملاك آخر، مثلا: وجوب الصلاة لا لملاك نفسي محض في الصلاة، وإنما لأن في الصلاة اعدادا للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، أو وجوب الصوم، لأن في الصوم اعدادا للتقوى، حيث قال: لعلكم تتقون. فلا تكاد تجد واجبا نفسيا تابعا لملاك نفسي محض، وانما منشأه ملاك في متعلقه غاية الامر ان الملاك في متعلقه مقدمة لملاك آخر، فهنا نقول: الوجوب الطريقي تابع لملاك، وجوب الاحتياط تابع لملاك، اما هذا الملاك في نفس الاحتياط وهو طريقية الاحتياط وحافظيته للواقع، صحيح ان هذا الملاك ليس ملاكا نفسيا محضاً الا ان هذا كسائر الواجبات النفسية التي لها ملاك لكن ليس ملاكا نفسياً محضاً.

فالتفريق بين الوجوب الطريقي ولوجوب النفسي بلحاظ الملاك ليس فارقاً جوهرياً ما دام الوجوب النفسي قد ينشأ هو مقدمة لتحصيل ملاك آخر.

المسلك الثاني: إن الفارق بين الوجوب الطريقي والوجوب النفسي بحسب الارادة لا بحسب الملاك، وهذا ما يرجع إلى مطلب المحقق العراقي الذي يرى ان الحكم التكليفي المولوي قوامه بالإرادة.

فهو إما ارادة مبرزة أو كراهة مبرزة. وليس الحكم مجرد اعتبار كما هو مسلك المحقق النائيني ومن تبع مدرسته، ليس الحكم التلكيفي المولوي من مقولة الاعتبار، وانما من مقولة الامر النفساني، فإن المولى عندما يأمر فلا تخلو نفسه من ارادة وهي عدم الرضا بالمخالفة، نعم، هذه الارادة يبرزها بمبرز من لفظ أو ارتكاز، وإلا فحقيقة الحكم هي الارادة، ولو اطلع العبد على ارادة المولى للزمه التطبيق وان لم يقم المولى بعملية الاعتبار فإن عملية الاعتبار لا دخل لها في وجوب الطاعة، بل ما له الدخل في وجوب الطاعة هو ارادة المولى، بحيث لو اطلع العبد على ارادة المولى ولو بعلم الغيب لزمه تطبيقها، فالاعتبار لا دخل له في مسألة حق الطاعة ووجوب طاعة المولى، لذلك ذهب العراقي إلى ان حقيقة الحكم هي الارادة. إذن على مبنى العراقي «قده»: الفرق بين الحكم الطريقي والحكم النفسي يرجع إلى الفرق في سنخ الإرادة، فهناك فرق بين ان يقول: صل، أو يقول: خذ بخبر الثقة. فإنه إذا قال: صل. فهو لا يرضى بترك نفس الصلاة، أي ان مصب ارادته الصلاة. وان كان الملاك لهذه الارادة هو اعداد الصلاة بشيء آخر، لكن مصب ارادته هو الصلاة، فهو لا يرضى بترك الصلاة في نفسها.

وأما إذا قال: احتط لدينك، أو قال: خذ بخبر الثقة، فهناك إرادة، لكن ليس مصب الارادة الاحتياط، وليس مصب الارادة الأخذ بخبر الثقة، بل مصب الإرادة عدم الرضا بمخالفة الواقع. فهو عندما يقول: احتط، لأنه لا يرضى بمخالفة الواقع قال: احتط، وعندما يقال خذ بخبر الثقة لأنه لا يرضى بمخالفة الواقع الذي قد يكون ترك الأخذ بخبر الثقة تركاً له. فبما ان مصب الإرادة في هذه الاحكام هو الواقع وليس مصب الارادة هو متعلق الامر لذلك قلنا ان هذا الامر امر طريقي.

المسلك الثالث: مسلك الاعتبار، أي بناء على مدرسة المحقق النائيني: من ان الحكم التكليفي كالحكم الوضعي كلاهما من مقولة الاعتبار، فلا محالة يكون الفرق بين الأمر الطريقي والامر النفسي يكون راجعا إلى الاعتبار، هل الداعي للاعتبار تنجيز الواقع؟ هل الداعي للاعتبار كما ذكر السيد الصدر: ابراز الاهتمام بالواقع؟ أم لا؟ فإن كان الداعي للاعتبار كما إذا قال المولى: اقم الصلاة، فإن المحقق النائيني يقول: اقم الصلاة، مرجعها إلى عملية اعتبارية، لكن الداعي لهذا الاعتبار هو المحركية والباعثية نحو الصلاة، إذن هذا امر نفسي، وأما إذا قال المولى: اخوك دينك فاحتط لدينك، فهو ايضا اعتبار لكن الداعي لهذا الاعتبار هو تنجيز الواقع، أي جعل المكلف مدان بالواقع. أو ابراز الاهتمام بالواقع، فيكون الحكم حينئذٍ طريقياً لا نفسياً. فهذا بيان اختلاف المسالك في الفرق بين الحكم الطريقي والحكم النفسي، وحيث إن المسلك المختار في حقيقة الحكم التكليفي هو ما ذهب اليه العراقي، لذلك نقول: بأنّ الفارق بين الحكم الطريقي والحكم النفسي يرجع إلى اختلاف في نسخ الارادة. هذا تمام الكلام في المطلب الثاني.

المطلب الثالث: هل ان وجوب التعلم المستفاد من الأدلة وجوب نفسي؟ أم طريقي أم مجرد إرشاد إلى حكم العقل؟

فهنا أنظار: النظر الاول: ما ذهب اليه السيد الخوئي «قده» في أوائل بحث الاجتهاد والتقليد وعدل عنه في نفس بحث الاجتهاد والتقليد في أواخره، كما لم يقل به في أصوله. وقال به السيد الأستاذ «دام ظله»: وهو أن مفاد اخبار التعلم مجرد الارشاد إلى حكم العقل. ففي معتبرة مسعدة بن زياد: «أفلا تعلمت حتى تعمل، ولله الحجة البالغة». مفاده: قضية شرطية، وهي ان لم تتعلم فاستلزم عدم تعلمك ترك الواقع، عوقبت على مخالفتك ترك الواقع. وهذا مما يحكم به العقل بلا حاجة إلى بيان الشارع، فإن العقل حاكم على ان المكلف إذا لم يتعلم الحكم الشرعي فتسبب ترك تعلمه في مخالفة الواقع كان مستحقا للعقوبة، فما افادته اخبار التعلم من القضية الشرطية هو بنفسه مصب لحكم العقل، اذن ليس مفاد اخبار التعلم الا ارشاد إلى حكم العقل. بل ذكر سيدنا الخوئي «قده»: ان بيان ذلك بالأمر المولوي لغو، إذ بعد حكم العقل بأن ترك التعلم المؤدي لمخالفة الواقع مصب للعقوبة، بعد حكم العقل بذلك يكون حكم الشارع بما هو شارع بعد ذلك لغواً.

ولكن يلاحظ على ما ذكره «قده»، ونفس هذه النكتة كررها في وجوب مقدمة الواجب، انه بعد وجوب المقدمة عقلا يكون تصدي الشارع لجعل الوجوب للمقدمة شرعاً لغواً.

فقد ذكرنا في محله: انه كما لا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع لا ملازمة في النفي أيضاً، ليس كلما حكم العقل بشيء حكم الشرع به بما هو شارع، إذ قد يكفي حكم العقل في المحركية نحوه، فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي.

لكن مع ذلك ليس كل ما حكم به العقل امتنع ان يحكم الشارع بما هو شارع على طبقه، فلا ملازمة من طرف الاثبات ولا ملازمة من طرف النفي، لأنه قد يحكم العقل بشيء الا ان الشارع يحكم على طبق حكم العقل، لا تأكيداً بل تأسيساً، لتحريك لمن لا يحركه حكم العقل، ولان في حكم الشارع ملاكا طوليا وهو استحقاق المثوبة على فعله والعقوبة على تركه. إذن بالنتيجة من أوضح الأمور حكم العقل بحسن العدل مع ذلك حكم الشارع بقبح الظلم حكومة شرعية مولويا، وحكم العقل بقبح الظلم، ومع ذلك حكم الشارع بحرمة الظلم حرمة شرعية مولوية. وحكم العقل بالبراءة على مبنى القوم وجاءت الأدلة الشرعية بينت البراءة الشرعية مضافا للبراءة العقلية، وحكم العقل بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي، أو الشبهة قبل الفحص، مع ذلك جاءت الادلة لتبين وجوب الاحتياط وجوباً شرعيا مولويا، إذن الحكم الشرعي على طبق الحكم العقلي تأسيساً بداعي تحريك لمن لا يحركه العقل، أو بداعي استحقاق المثوبة على الفعل أو العقوبة على الترك ليس لغوا، واذا كان كذلك فمتى التفت العرف إلى ان للشارع ملاكات في تصديه للأحكام لم يكن الخطاب المولوي كأمر الشارع بالاحتياط والتعلم ارشادا إلى حكم العقل.

والحمد لله رب العالمين.