درس الأصول | 105

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في تحليل وجوب التعلم المستفاد من اخبار التعلم، وذكرنا ان في هذه الاخبار عدة محتملات:

المحتمل الاول: ان وجوب التعلم إرشادي، بمعنى: ان مفاد هذه الأخبار مجرد ارشاد إلى حكم العقل لا اكثر من ذلك.

وتوجيه هذا المطلب وهو ان مفاد أخبار التعلم مجرد الارشاد لا الحكم المولوي، لقرائن ثلاث: القرينة الاولى: ما تعرض لها سيدنا الخوئي «قده»: من أنه بعد حكم العقل بأن ترك الواقع لترك التعلم موجب لاستحقاق العقوبة، فبيان ذلك من قبل الشارع لغو، فبما أن هناك حكما عقلياً في رتبة سابقة إما لوجود العلم الاجمالي المنجز أو لأن الاحتمال قبل الفحص منجز، بعد وجود المنجز للواقع فلا معنى لتنجيزه شرعا بالامر بالتعلم، فإن وجوب التعلم إنما يتصور بداعي تنجيز الواقع، أي ان من يدعي ان التعلم واجب مولوي لا يدعي انه واجب نفسي، أي ان ترك التعلم مبغوض في نفسه. وإنما يدعي ان وجوب التعلم لا لمحبوبية في نفسه، ولا لمبغوضية في تركه، وإنما مطلوبية التعلم بداعي تنجيز الواقع، بغرض ان تكون ذمة المكلف مخاطبة ومدانة بالواقع. فإذا افترضنا ان الوجوب المولوي للتعلم إنما هو بداعي تنجيز الواقع، فإذا كان الواقع منجزا في رتبة سابقة، إما للعلم الإجمالي بوجود الاحكام الشرعية وعدم انحلاله، أو لأن عدم احتمال الحكم قبل الفحص منجز. فمع وجود المنجز لا معنى لتأسيس وجوب مولولي للتعلم بغرض تنجيز الواقع وهو منجز، فإن انشاء الوجوب المولوي بغرض تنجيز ما هو منجز في رتبة سابقة لغو.

فهذه القرينة العقلية وهي قرينة اللغوية اقتضت حمل اخبار التعلم على مجرد الارشاد إلى حكم العقل، أي انه لما فرغ عن وجود منجز وهو العلم الإجمالي أو الاحتمال قبل الفحص حكم العقل بلزوم رعاية ذلك المنجز، فليس مفاد اخبار التعلم ازيد من الارشاد إلى حكم العقل.

ولكن، ذكرنا في الدرس السابق انه تعارف لدى الشارع تأسيس حكم مولوي في مورد وجود حكم عقلي، فمثلاً حكم العقل بلزوم العدل وحكم الشارع بوجوب العدل وجوب مولويا، وحكم العقل بقبح الظلم، وحكم الشارع بحرمة الظلم حرمة مولوية. وحكم العقل بالبراءة عند الشك في التكليف وحكم الشارع بالبراءة الشرعية. وحكم العقل بوجوب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي، وحكم الشارع بوجوب الاحتياط وجوبا مولوليا. فتأسيس حكم شرعي في مورد حكم عقلي ليس عزيزا في الخطابات الشرعية، والوجه في ذلك: أن تأسيس حكم شرعي بداعي تحريك من لا يحركه الحكم العقلي هذا امر عرفي وأمر واضح، ان الشارع قد يرى ان الحكم العقلي قد لا يكفي للمحركية ولو بالنسبة للبعض فيأسس حكما مولوياً لتحريك لمن لا يحركه العقل. أو بداعي ملاك طولي، فإنه في طول امر الشارع بشيء، سوف يترتب على موافقة الامر ثواب، وعلى مخالفته عقاب، فهذا الملاك الطولي ليس ملاكا في رتبة سابقة على الامر، وانما هو ملاك في طول الامر، أي في طول امر من قبل الشارع يترتب هذا الملاك وهو استحقاق المثوبة للموافقة واستحقاق العقوبة للمخالفة، في ان يكون ما صدر من الشارع خطابا مولويا، اما بداعي تحريك من لا يحركه العقل أو بداعي ملاك طولي، وبما ان هذا امر محتمل عرفا، لذلك العرف إذا تلقى خطابا من قبل الشارع في مورد حكم عقلي، فإنه لا يتلاقاه على انه مجرد إرشاد، بمعنى ان الخطاب لا ظهور له في المولوية لاقترانه بحكم عقلي، وانما العرف بعد ان احتمل احتمالا عرفيا صدور الخطاب المولوي من الشارع فيتحفظ على ظهوره في الانشاء والتاسيس لا في مجرد الإخبار والإرشاد.

القرينة الثانية: ما ذكره سيد المنتقى «قده» في «ج5، 353». ومحصل ما افاده مقدمتان:

المقدمة الاولى: إن ظاهر اخبار التعلم الاخبار، حيث قال: «أما عملت؟ فيقول: ما علمت، فيقال: هلا تعلمت حتى تعمل». فظاهرها الاخبار. فحمل ما هو ظاهره الاخبار على الانشاء يحتاج إلى قرينة واضحة وليس هناك قرينة توجب رفع اليد عن اخبار التعلم في الإخبار عن ترتب العقوبة على مخالفة الواقع، عند ترك التعلم، المؤدي لمخالفة الواقع.

المقدمة الثانية: الاخبار عن ترتب العقوبة بالمدلول المطابقي دال بالمدلول الالتزامي على وجود منجز، اذ لا معنى لترتب العقوبة مع عدم المنجز، فالإخبار بالمطابقة على وجود عقوبة يعني الاخبار بالإلزام على وجود منجز. فغاية ما يستفاد من هذه الأخبار ان هناك منجز في رتبة سابقة ولذلك ترتبت العقوبة على مخالفة الواقع. لا ان المنجز نفس اخبار التعلم، بل هي دالة على وجود منجز في رتبة سابقة عليها، لا ان المنجز نفس اخبار التعلم. وبالتالي عندما تكون دالة بالمطابقة على ترتب العقوبة، ودالة بالالتزام على وجود منجز في رتبة سابقة، فليس مفادها الا الارشاد، في انه متى ما وجد منجز ترتبت العقوبة على مخالفة الواقع، لا انها في مقام الإنشاء وإعمال المولوية ليتحقق التنجيز بنفس هذه الأخبار.

ولكن، يلاحظ على هذه القرينة: أن قوله «هلا تعلمت» ظاهر في الإنشاء وليس ظاهرا في الاخبار، فهو ظاهر في التوبيخ والتنديم على ترك التعلم. ومن الواضح ان التوبيخ والتنديم على ترك التعلم إنشاء وليس إخباراً. فظاهرها الإنشاء وليس ظاهرها الاخبار حتى يقال بانها تدل بالدلالة الالتزامية على وجود منجز في رتبة سابقة.

القرينة الثالثة: ما ذكره المحقق العراقي «قده» في نهاية الافكار في «ج3، ص477» حيث اختار اان مفاد هذه الاخبار الارشاد إلى حكم العقل. قال: لا شك ان العقل حاكم بأن احتمال التكليف قبل الفحص منجز، لعدم شمول البراءة العقلية لاحتمال التكليف قبل الفحص، لأن موضوع البراءة العقلية اللا بيان، فما دمنا نحتمل وجود طريق لفحصنا لعثرنا عليه، فلم نحرز اللا بيان، فإذا لم نحز اللا بيان لم يتنقح موضوع البراءة العقلية. إذن البراءة العقلية لا تشمل مورد كلامنا وهو احتمال التكليف قبل الفحص. كما ان ادلة الاصول العملية الترخصية كأصالة الطهارة والبراءة واصالة الحل منصرفة عن احتمال التكليف قبل الفحص. إذن إذا لم يشمل المورد لا البراءة العقلية ولا البراءة الشرعية، كان حكم العقل بدفع الضرر المحتمل.

فإذن بالنتيجة يقال: بعد ان لم تشمل البراءة العقلية ولا البراءة الشرعية محل الكلام وهو احتمال التكليف قبل الفحص إذن العقل حاكم بأن الاحتمال منجز من باب دفع الضرر المحتمل. ومفاد هذه الأخبار الإرشاد إلى هذا الحكم العقلي، والقرينة على ذلك: هي قرينة لفظية من نفس الحديث حيث ان العبد لم يعتذر إلى ربه باني لا اعلم بوجوب الفحص، وإنما اعتذر إلى ربه بأنني ما علمت. «يوقف العبد يوم القيامة فيقال له ما عملت؟ فيقول ما علمت، فيقال: هلا تعلمت؟». فعدم جواب العبد بأنني لا ادري ان التعلم واجب ظاهر في ان وجوب التعلم ظاهر في ان وجوب التعلم مفروغ عنه، وإلا لاعتذر العبد امام ربه بأنني لا اعلم ان التعلم واجب.

فعدم اعتذار العبد بأني لا اعلم بوجوب الفحص وتعقيب ذلك بقوله: «ولله الحجة البالغة» أي ان العبد خصم بهذا البيان بقوله «هلا تعلمت حتى تعمل» فهذا ظاهر في أن العقل حاكم في رتبة سابقة بوجوب التعلم والفحص، إذ لولا حكم العقل في رتبة سابقة أن الفحص والتعلم واجب، لاعتذر العبد بانني لا اعلم بوجوب التعلم، ولما قامت عليه الحجة البالغة، فهذه قرينة على ان مساق اخبار التعلم ليس الا مجرد الارشاد إلى ما يحكم به العقل بوجوب الفحص. ولكن حمل قوله «افلا تعلمت حتى تعمل» إلى مجرد الارشاد إلى ما يحكم به العقل في رتبة سابقة غير عرفي، بل ظاهره التوبيخ، والتوبيخ هو من السنة التنجيز والإنشاء عرفا، فلأجل ذلك ظاهر هذه الأخبار هو المولوية لا مجرد الإرشاد.

المحتمل الثاني: ما أصرّ ابتداء سيد المنتقى «قده» من ان مفاد اخبار التعلم الوجوب الغيري، لا الوجوب الطريقي ولا الوجوب النفسي، بل الوجوب الغيري أي ان التعلم واجب وجوبا مقدمياً لأجل العمل. فهو سلم بأن ظاهر الخبر التوبيخ. والتوبيخ لسان عرفي للوجوب، فإن التوبيخ على شيء ظاهر في لزوم الاتيان به ولزوم العمل به، إذن التوبيخ على ترك التعلم ظاهر في ان التعلم واجب، غاية ما في الباب لا يحتمل ان يكون التعلم واجبا نفسياً، يعني بما هو هو، ولكن بما ان تركه ترك للواجب لذلك وجب وجوبا مقدمياً. أو فقل: يجب من باب وجوب المقدمة المفوتة، باعتبار ان في ترك التعلم معرضية توفيت الواقع، فهو واجب من باب وجوب المقدمة المفوتة، ولم يذكر شيئا اكثر من ذلك.

ولكن، يلاحظ على ذلك: إن التعلم ليس مقدمة وجودية للعمل. نعم قد يلزم من ترك التعلم احيانا عدم القدرة على الاتيان بالعمل، كأهل البوادي الذين لا يعلمون ولديهم غفلة تامة عن الأحكام الشرعية، فنتيجة هذه الغفلة لا يقدرون على الاتيان بالعمل الواجب، ولكن مع ذلك، انما يترشح الوجوب الغير من ذا المقدمة إلى المقدمة إذا كانت المقدمة وجودية، بمعنى انها واقعة في سلسلة علل ذي المقدمة، وليس بين التعلم والعمل علية، فإن المكلف قد يترك التعلم بالمرة، فيصادف ان يأتي بالعمل تماما. فبما ان التعلم ليس واقعا في سلسلة ذي المقدمة، فدعوى وجوبه وجوبا غيريا غير تام.

وأما كونه مقدمة مفوتة في بعض الاحيان فهذا لا يقتضي ايجابه ايجابا غيريا بنحو مطلق.

والحمد لله رب العالمين.