درس الأصول | 106

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام الى: أن وجوب التعلم هل هو وجوب طريقي أم لا؟ وقد ذهب المحقق العراقي الى نفي الوجوب الطريقي. ومحصل ما افاده:

أنه يعتبر في الوجوب الطريقي ان يكون بحسب اللب مصب الارادة الطريقية مصب الارادة الواقعية، بحيث لو أن الطريق وافق الواقع لكان العلم بالطريق عملا بالواقع، فحينئذ يتصور الوجوب الطريقي، مثلا: إذا قال الشارع: خذ بخبر الثقة، فإن الأمر بالأخذ بخبر الثقة أمر طريقي، والسر في ذلك: انه لو صادف خبر الثقة الواقع لكان العمل بخبر الثقة عملاً بالواقع، فإذا افترضنا ان خبر الثقة اخبر بوجوب صلاة الجمعة، وقد أمر الشارع بالأخذ بهذا الخبر أمراً طريقياً، فمعنى ذلك: انه لو صادف خبر الثقة الواقع لكان العمل به وهو صلاة الجمعة عملا بالواقع، فهنا يكون الأمر طريقياً، وكذلك في الاصول المثبتة كالأمر بالعمل بالاستصحاب، فإن الأمر به أمر طريقي، لأن الاستصحاب لو صادف الواقع لكان المستصحب نفس الواقع وليس شيئاً آخر. فمن هنا نعتبر الأمر طريقياً.

ومن هذا القبيل، الأمر الأمر بالاحتياط، كما في قوله: «اخوك دينك فاحتط لدينك». فإن العمل بالاحتياط لا محالة عمل بالواقع، إذ الاحتياط هو ما اصاب الواقع، إذن بالنتيجة: الأمر الطريقي ما كان مصبه على فرض الموافقة هو نفس مصب الواقع، وليس شيئا آخر، وهذا الميزان لا ينطبق على الأمر بالتعلم، فإن العبد لو امتثل الأمر بالتعلم وتعلم، لم يتوافق المأمور به مع الواقع، لنفرض ان الواقع هو وجوب صلاة الجمعة، والعبد تعلم الوجوب، فتعلم الوجوب شيء، والاتيان بصلاة الجمعة شيء آخر. إذن لم يصبح مصب الإرادة الطريقية نفس الواقع، كي يكون الأمر بالتعلم أمراً طريقياً، فأنه قد يتعلم الحكم ولا يعمل به، وقد يتعلم الحكم ويعتقد خلافه، فتعلم الأمر امتثالا للأمر ولكن ليس امتثالا للواقع، فلا يصلح الأمر بالتعلم ان يكون أمراً طريقياً يكي يقال بأن وجوب التعلم وجوب طريقي. نعم، لو جعل التعلم كناية عن الاحتياط، فالشارع عندما يقول: «افلا تعلمت». يعني افلا احتطت، فيكون الأمر بالتعلم أمراً بالاحتياط، والتعلم كناية عن الاحتياط. أي انك اذا لم تصل الى الواقع تعلم، أي تثبت. فحينئذ: يكون الأمر أمراً طريقياً، لأن الاحتياط يصيب الواقع، والعمل به عملا بالواقع، لكن حتى لو جعلنا التعلم كناية عن الاحتياط، لا ينتج الوجوب الطريقي، لأنه إذا قلنا بأن الاحتمال قبل الفحص منجز، اما لمنجزيةا لعلم الاجمالي أو ان البراءة العقلية والشرعية لا تشملان ما قبل الفحص، فاحتمال التكليف قبل الفحص منجز، اذن بالنتيجة التنجز سابق على اخبار التعلم، فلا يكون مفاد اخبار التعلم الا الارشاد فقط لذلك التنجز، حتى لو حلمنا اخبار التعلم انه كناية عن الاحتياط لم ينتج لنا وجوبا طريقياً، إذ لا معنى لجعل الوجوب الطريقي مع تنجز الواقع في رتبة سابقة، والوجوب الطريقي لا معنى له الا كونه منجزا للواقع، فاذا تنجز الواقع في رتبة سابقة تعين كونه أمراً ارشادياً.

نعم، لو قلنا بأن الاحتمال قبل الفحص غير منجز اما لأن العلم الاجمالي منحل، ولأن البراءة العقلية والبراءة الشرعية تشملان احتمال التكليف قبل الفحص، فلا يوجد منجز، فاذا لم يوجد منجز لا محالة يكون الأمر بالتعلم كناية عن الأمر بالاحتياط أمراً طريقياً منجزاً، الا ان الأمر ليس كذلك، اذ المفروض ان احتمال التكليف متنجز في رتبة سابقة.

فتحصّل: ان الأمر بالتعلم ليس أمراً طريقياً، ولا أمراً نفسيا، فواضح، لأن العقاب على ترك التعلم كي يكون التعلم واجبا نفسياً، ولا أمراً شرطياً بان يدعي شخص بأن قوله «افلا تعلمت حتى تعمل» مفاده الوجوب الشرطي، يعني يشترط بالعمل في الواقع تعلمه، فلو اصاب الواقع من دون تعلم لم يكن مجزيا، فإنه يشترط في العلم بالواقع وامتثال امره تعلمه. قد يدعي شخص ان مفاد اخبار التعلم هو الوجوب الشرطي. لكن، يقول بأن هذه الاستفادة غير عرفية، لا شاهد على استفادة اشتراط التعلم في صحة العمل بالواقع من قوله «أفلا تعلمت حتى تعمل»، وإنما المستفاد عرفا من مثل هذا اللسان اما ان يكون هذا الأمر طريقياً أو أمراً ارشاديا، ونحن نفينا ان يكون هذا الأمر طريقيا. هذا ما افاده المحقق العراقي «قده».

ولكن اشكل عليه سيد المنتقى «قده»: تارة ندعي ان الأمر الطريقي منجز للواقع، وتارة ندعي ان الأمر الطريقي منجز للطريق لا للواقع. فمجرد كون الأمر طريقيا لا يعني انه منجزا للواقع، بل يتصور للامر الطريقي نحوان:

النحو الاول: ان يكون الأمر الطريقي منجزا لنفس الواقع، كالأمر بالأخذ بخبر الثقة، فإنه عندما يقول «خذ بخبر الثقة» معناه: ان خبر الثقة لو صادف الواقع لنجزه، فهنا الأمر الطريقي منجز لنفس الواقع.

وتارة يكون الأمر الطريقي منجزا للطريق لا للواقع: بأن يكون الواقع قد تنجز وبعث تنجزه على تنجز شيء، مثلا: في الأمر بالاحتياط، فالأمر بالاحتياط ليس سنخ الأمر بالأخذ بخبر الثقة، بل يختلف. فمعنى الأمر بالاحتياط: ان الواقع تنجز فكان تنجزه باعثا للاحتياط، أي ان الشارع انما بعثك نحو الاحتياط لأن الواقع متنجز، فاذا كان الواقع متنجزا، فطريق اصابته وإحرازه هو العمل بالاحتياط، فتنجزه بعث على تنجز الاحتياط، فنقول: الاحتياط متنجز تنجزا طريقيا لتنجز الواقع الذي بعث على الأمر بالاحتياط. إذن لدينا نحوان من الأمر الطريقي وليس نحوا واحداً، تارة يكون الأمر الطريقي منجزا للواقع، وتارة يكون الأمر الطريقي منجزا للطريق.

ففي محل كلامنا الأمر بالتعلم ليس منجزا لنفس الواقع، الأمر بالتعلم منجز للطريق، بيان ذلك: إن المحقق العراقي اصر على انه يعتبر في الأمر الطريقي ان يكون مصبه نفس مصب الواقع لو وافق الواقع، وهذا مما لا دليل على اعتباره، لم تقم آية ولا رواية ولا عقل على اعتبار هذه النكتة في الأمر الطريقي، نعم يعتبر في الأمر بالطريقي نحو ارتباط بالواقع، ان يكون له ارتباطاً بالواقع، وإلا كيف يصبح طريقا للواقع، فمعنى كونه طريقا للواقع ان هنا نحوا من الارتباط بين متعلق الأمر وبين الواقع، ولا يشترط ان يكون مصب الأمر هو نفس الواقع، لو صادفه ووافقه، بل يكفي ان يكون بينهما نحو ارتباط، لأنه بالنتيجة أمر طريقي، فاذا كان كذلك، فنقول: الارتباط بين الطريق وبين الواقع على قسمين:

القسم الاول: أن يكون العمل بالطريق عملا بالواقع، كما في الأمر بخبر الثقة، فإنه لو علم بخبر الثقة وصادف الواقع كان عملا بالواقع. وتارة لا يكون كذلك، وانما الواقع تنجز فبعث عن الأمر بالطريق، وهذا ايضا نحو ارتباط كما قلنا في لأمر بالاحتياط، فإن الانسان لو تردد بوجوب صلاة الجمعة فأتى بالظهر وأتى بالجمعة ليس كل منهما عملا بالواقع، وإنما لما كان الواقع مطلوبا لدى المولى، بعث ذلك على الأمر بالاحتياط، فهذا نحو ارتباط بينهما. فالامر الطريقي على نحوين: ما صادف العمل به عملا بالواقع، وهذا منجز لنفس الواقع. وما لم يصادف العمل به عملا بالواقع دائما لكن تنجز الواقع بعث على الأمر به، كما في باب الاحتياط، فهنا يكون التنجز للطريق، أي أن الأمر بالاحتياط منجز لنفس الاحتياط، فالامر الطريقي منجزا للواقع وقد يكون منجزاً للطريق.

وتطبيق ذلك على محل كلامنا: إذا أمر العبد بالتعلم فتعلم العبد الحكم، فلو صادف ان ما تعلمه العبد طريق للواقع، فتعلم، واخذ بخبر زرارة وصادف ان خبر زرارة وافق الواقع، فحيث ان هنا خبر زرارة متنجز، لأن المتنجز ليس ذات الطريق بل الطريق في معرض الوصول، وإلا لو كان هناك طريق للواقع لم يصل الينا، هذا لا يعقل ان يكون متنجزاً، المتنجز الطريق في معرضية الوصول، بما ان المتنجز الطريق في معرضية الوصول والشارع قال: تعلم حتى تصل الى ذلك الطريق الذي هو متنجز لكونه في معرض الوصول، فلا محالة الأمر بالتعلم مجرد طريق لتنجيز ذلك الطريق الذي لو فحصت عنه لظرفت به، فليس الأمر بالتعلم منجزاً للواقع بشكل مباشر كي يقال مصبه ليس مصب الواقع، بل الأمر بالتعلم تعبير عرفي عن انه ابحث عن الطريق، لأن الطريق في معرض الوصول متنجز عليه، فاذا فحصت وظفرت به فقد ظفرت بما هو منجز في حقك، والشاهد على ما نقول: المناسبة العرفية. فإن مقتضى مناسبة الحكم للموضوع بأن يقول: تعلم، والمعنى التعلم افحص عن الطريق. فاذا كان معنى التعلم افحص عن الطريق لا محالة يكون الأمر بالتعلم منجزا للطريق لا انه منجز للواقع بشكل مباشر. فما اصر العراقي على نفيه وهو ان الأمر بالتعلم ليس أمراً طريقياً لأن مصبه ليس مصب الواقع ليس تاما، بل الأمر بالتعلم أمر طريقي فإنه وان لم يكن منجزا للواقع الا انه منجز للطريق، وهذا كافي في كونه أمراً طريقياً. ويأتي الكلام في مناقشته إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.