درس الأصول | 108

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

تعرض المحقق الاصفهاني «قده» إلى عدة مطالب في المقام الذي توصل بها إلى ان الأمر بالتعلم هو إيصال للواقع وصولا تنزيلياً. وبيان ذلك:

المطلب الاول: افاد بأن هناك فرق بين غرض الإيجاب وغرض الواجب، فغرض الإيجاب دائما هو المحركية، وهو ما يعبر عنه بداعي جعل الداعي، فإن الغرض من الأوامر كالأمر بالصلاة أو الأمر بالأخذ بخبر الثقة هو المحركية نحو متعلقه، بينما الغرض من الواجب نفسه كالغرض من الصلاة مثلا هو المصلحة الكامنة في فعل الصلاة، وهناك فرق بين غرض الإيجاب وغرض الواجب.

المطلب الثاني: سبق ان ذكرنا ان هناك فرقا بين الواجب النفسي والواجب الغيري، حيث إن الواجب إن وجب بواجب آخر كوجوب السفر للحج لأجل الحج فهذا واجب غيري، وإن وجب لا لواجب آخر فهو واجب نفسي. كالصلاة فإنه واجبة لا لواجب آخر فهي واجب نفسي، وإن كان الغرض من الصلاة هو غرض غيري وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر الا ان الصلاة ما دامت واجبة لا لواجب اخر فهي واجب نفسي وان كان الملاك فيها ملاكا غيرياً.

المطلب الثالث: افاد «قده» بأن الواجب وهو ما وجب لا لواجب آخر ينقسم إلى قسمين: واجب حقيقي وواجب طريقي، والفرق بين هذين القسمين بلحاظ الغرض من الواجب الذي ذكرناه في المطلب الاول، وبيان ذلك: انه إذ كان الغرض الاقصى من الإيجاب تحصيل غرض الواجب فهو واجب حقيقي، مثلا: إذ أمر بالصلاة فهنا غرض ادنى وغرض اقصى، الغر ض الادنى من الأمر بالصلاة المحركية نحو الصلاة، والغرض الاقصى من الأمر بالصلاة تحصيل الملاك الموجود في الصلاة، فلأجل هذا نعتبر الأمر بالصلاة واجب نفسي حقيقي، اما إذ قال المولى: صدق العادل، فإن الغرض الأدنى من قوله صدّق العادل أو خذ بخبر الثقة، المحركية نحو الاخذ بخبر الثقة، اما الغرض الاقصى منه ليس تحصيل الملاك في خبر الثقة، فإن خبر الثقة لا ملاك فيه، وإنما الغرض الأقصى منه هو جعل الواقع باعثاً، أي الواقع الذي لو طابقه خبر الثقة لكان متنجزاً، غرضي من الاخذ بخبر الثقة ان ذلك الواقع المحتمل يكون باعثا لك نحو الاخذ بخبر الثقة، فاذا كان الغرض الاقصى جعل الواقع المحتمل باعثا لك نحو التعلم نحو الاخذ بخبر الثقة، فهذا نسميه واجبا نفسيا طريقيا لا واجباً نفسياً حقيقياً.

المطلب الرابع: تطبيق القواعد على محل الكلام وهو الأمر بالتعلم، فقال: الأمر بالتعلم فيه محتملان:

المحتمل الاول: ان الأمر بالتعلم ليس تكليفا مولويا لا نفسيا ولا غيريا، لا حقيقيا ولا طريقيا، الأمر بالتعلم أمر انشائي الغرض منه إيصال الواقع بإيصال طريقه تنزيلاً. بيان ذلك:

أن الذي وصل الي بالوجدان هو الأمر بالتعلم فقط، لكن الأمر بالتعلم الذي وصل الي وجدانا هو وصول للطريق تعبداً، حيث إنني لو امتثل الأمر بالتعلم لحصلت على العلم اما العلم الوجداني أو العلم التعبدي وهو خبر الثقة، فالأمر بالتعلم الواصل الي وجدانا هو وصول لذلك الخبر الذي لفحصت عنه لظفرت به وصول له تعبداً، ووصول ذلك الخبر لي وصول للواقع تنزيلاً، فهنا وصول وجداني للامر بالتعلم وهو وصول تعبدي لخبر الثقة، وهو وصول تنزيلي للواقع، فالامر بالتعلم أمر إنشائي بغرض إيصال الواقع بوصول طريقه وهو خبر الثقة تنزيلاً، من دون ان يكون الأمر بالتعلم لا تكليفا نفسيا ولا تكليفا غيريا، فلا يستبع موافقة ولا يستتبع مخالفة ولا مثوبة على موافقته ولا عقوبة على مخالفته لا عقوبة نفسية ولا غيرية، لأنه لو كان الواصل وجدنا هو الطريق لقلنا بأن هناك عقوبة على مخالفته عقوبة غيرية، مثلا: عندما يقول لك الشارع: خذ بخبر زرارة، فقد وصلك الطريق وصولا وجدانيا وهو خبر زرارة، هنا نستطيع ان نقول: على ترك الاخذ بخبر زرارة عقوبة غيرية، لانك إن لم تأخذ بخبر زرارة وصادف ان خبر زرارة وافق الواقع فلم تأخذ بالواقع، فالعقاب على ترك الاخذ بخبر زرارة عقاب غيري، أي عقاب على الواقع، اما في محل كلامنا حتى الطريق ما وصل وجدانا، الذي وصل وجدانا هو الأمر بالتعلم، اما الطريق فهو لو تعلمت وفحصت لوصلت اليه، اما هو لم يصل اليه، اذن الأمر بالتعلم لا يستتبع مخالفة ولا موافقة ولا عقوبة لا نفسية ولا غيرية لأن العقوبة النفسية على ترك الواجب والعقوبة الغيرية على ترك الطريق، بينما الأمر بالتعلم لا هو الواجب ولا هو الطريق، إنما هو أمر انشائي بغرض إيصال الواقع بغرض وصول طريقه تنزيلاً.

المحتمل الثاني: أننا إذ لاحظنا لسان دليل «هلا تعلمت حتى تعمل ولله الحجة البالغ»، أو قوله: «طلب العلم فريضة» نفهم ان الأمر بالتعلم ليس أمر انشائي وإنما هو تكليف وبعث، لانه قال «طلب العلم فريضة» أو «هلا تعلمت». لكن الكلام ان الامر المولوي النفسي بالتعلم هل هو واجب حقيقي او واجب طريقي؟

قال: بل هو واجب طريقي، الغرض من هذا الواجب الطريقي إيصال ذلك الواقع المحتمل بوصول طريقه، وبما أن إيصال الواقع يجعل الواقع قابلا للباعثية والمحركية لذلك اعتبرنا الأمر بالتعلم امرا طريقيا.

ثم اورد على نفسه اشكالين:

الاشكال الاول: بعد ان عرفنا ان الأمر بالتعلم أمر مولوي الغرض منه ايصال الواقع بوصول طريقه وهذا الوصول وصول تنزيلي وليس وصول حقيقي، إذن لو ان المكلف ترك التعلم، فيترتب على ترك التعلم عدم وصول الواقع لا حقيقة ولا تنزيلا، لانه بالتعلم يصل إلى الطريق وهو خبر الثقة، ووصول الطريق وصول للواقع، فاذا منع الأمر من البداية، فالطريق ما وصل حتى يصل للواقع، فالواقع ما وصل لا وجدانا ولا تنزيلا، فلا يترتب على ترك التعلم سوى تفويت الغرض من الإيجاب فإن الغرض من الإيجاب هو ايصال الواقع تنزيلا بترك التعلم، لم يتحقق هذا الغرض. وحينئذ فما هو المنجز للواقع؟

إذا كنتم لا تقولون بمنجزية الاحتمال في نفسه، ولا تقولون بمنجزية احتمال الطريق، إذن فما هو المنجز للواقع لو ترك التعلم، غايته انه فوت الغرض من هذا الإيجاب وهو الغرض بالتعلم فإن الغرض منه ان يصل الواقع بوصول الطريق تنزيلا وهو قد فوت هذا الغرض. أما ما هو المنجز للواقع حينئذ؟

فأجاب «قده» عن الاشكال: بأن تفويت الغرض من التكليف مستلزم لتفويت الغرض من الواجب. صحيح ان لدينا غرضين، غرض من التكليف وهو ان يصل إلى الواقع، وغرض من الواجب وهو المصلحة الكامنة في الواجب النفسي، الغرض من التكليف مقدمة للغرض من الواجب، فيكلفنا من الصلاة لغرض ان نحصل على غرض الصلاة. فالغرض من التكليف مقدمة للغرض من الواجب. فاذا فتوتنا الغرض من التكليف فقد فوتنا الغرض من الواجب.

الإشكال الثاني: صحيح ان تفويت الغرض من التكليف تفويت للغرض من المكلف به، فإن الغرض من التكليف مقدمة للغرض من المكلف به إلا انه فات، لكن الذي فات علينا غرض لم يصل لا وجدانا ولا تنزيلا، فما هو وجه العقوبة عليه؟

قال: ما دل على الغرض من التكليف دل على الغرض من المكلف به بالالتزام، فالامر بالتعلم له مدلولان: مطابقي والتزامي، أي ان الأمر بالتعلم فيه حجتان: حجة بالمطابقة وحجة بالالتزام، اما مدلوله المطابقي، فهو ايصال الواقع بوصول طريقه فهو حجة على هذا المدلول المطابقي، واما مدلوله الالتزامي فهو لو انك لو فوت هذا الغرض لفوت ذلك الغرض من المكلف به، وهذا المدلول الالتزامي أيضاً حجة. فالامر بالتعلم فيه حجتان، حجة على المدلول المطابقي الذي كان به الأمر بالتعلم أمر طريقيا، وحجة على المدلول الالتزامي وهو انك لو فوت الغرض من الأمر بالتعلم فلم تتعلم فقد فوت الغرض من الواجب الواقعي. إذن الغرض من الواجب الواقعي وصلك وصولا التزامياً.

فالنتيجة من كلام المحقق «قده»: أن الأمر بالتعلم أمر نفسي طريقي محقق لوصول الغرض الواقع وصولاً التزامياً، وبالتالي مخالفة الأمر بالتعلم توجب استحقاق العقوبة على الغرض الواقعي.

والحمد لله رب العالمين.