الحسين منار العزة

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدّث حول مبدأ العزّة، وذلك من خلال محاور ثلاثة:

  • أقسام العقل.
  • ومعرفة النفس.
  • وطاقة الصلة وطاقة العزّة.
المحور الأول: أقسام العقل.

العقل في علم النفس ينقسم إلى قسمين: عقل ظاهر وعقل باطن. العقل الظاهر هو العقل الذي وظيفته تحليل الأفكار وبلورتها والاستنتاج منها، كيف يصل العقل الظاهر إلى الاستنتاج؟ العقل الظاهر حتى يصل إلى الاستنتاج يمرّ بمرحلتين: مرحلة الاستقبال، ومرحلة الترميز.

أولًا العقل يستقبل المعلومات، الدماغ في كلّ ثانية يستقبل 400 مليار معلومة، لكنه لا يستطيع أن يتفاعل إلا مع 2000 معلومة، كيف يتفاعل مع هذين الألفين من المعلومات؟ تأتي المرحلة الثانية: مرحلة الترميز، لا يمكن للعقل أن يحلّل بدون رموز، مستحيل، جُبِل العقل، هكذا بُرْمِج، بُرْمِج دماغ الإنسان على ألا يفكّر إلا برموز وأرقام، لا يمكن لك أن تفكّر في مسألة رياضية بدون أرقام، لا يمكن أن تفكّر في مسألة فلسفية اجتماعية بدون رموز، العقل أولًا يضع رموزًا على الأفكار ثم يقوم بتحليل الأفكار وبلورتها والاستنتاج منها. إذن، العقل يمرّ بمرحلتين: مرحلة الاستقبال ومرحلة الترميز، بعد هاتين المرحلتين يصل العقل إلى الاستنتاج، يصل العقل إلى التحليل، هذا ما يسمّى بالعقل الظاهر، القرآن الكريم يعبّر عن هذه القوّة المسماة بالعقل الظاهر بقوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، أولو العقول.

نأتي إلى العقل الباطن: ما هو العقل الباطن؟ هنا اختلف علماء النفس في تحديد دقيق للعقل الباطن، لكن عندما نجمع بين أقوالهم وكلماتهم نصل إلى أنّ العقل الباطن هو مجمع عناصر الشخصية الإنسانية، شخصيتك لها عناصر، ما هي عناصرها؟ كلّ شخصية إنسانية تمتلك عناصر ثلاثة: ميولًا وغرائز وطاقاتٍ، عندك ميول وعندك غرائز وعندك طاقات.

أضرب لك أمثلة: مثلًا رغبتك في الطعام عندما تجوع، هذا يسمّى ميلًا. مثلًا عندما يسيء إليك شخص فتغضب ويحمر وجهك وتنتفخ وجناتك وتثأر لنفسك، هذا يسمّى غريزة، الغريزة السبعية الغضبية تحكّمت في شخصيتك فبدأت تثأر وتنتقم لنفسك، هذا يسمّى غريزة. أما عندما تمارس الشعر، عندما تمارس الفن، عندما تمارس الرياضة، فهذا يسمّى طاقة، أنت تمارس طاقة من طاقات شخصيتك، طاقة فنية، طاقة أدبية، طاقة رياضية، طاقة خطابية، كل إنسان وحسب ما يملك.

كل إنسان يمتلك عناصر ثلاثة: ميولًا، غرائز، طاقاتٍ، أين تجتمع هذه العناصر الثلاثة؟ تجتمع في العقل الباطن، العقل الباطن مجمع الميول، كل ميولك مختزنة في العقل الباطن، العقل الباطن ملتقى الغرائز، كل غرائزك مخبوءة في العقل الباطن، العقل الباطن معدن الطاقات، كل طاقاتك هي مدفونة مركوزة في العقل الباطن، إذن العقل الباطن هو سرّ شخصيتك، لأن العقل الباطن فيه ميولك وغرائزك وطاقاتك، كلها مجتمعة في العقل الباطن، كل ما عندك يرجع إلى العقل الباطن.

من هنا ورد عن أمير المؤمنين علي : ”المرء مخبوء تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه“، شخصيتك ليست بمظهرك، شخصيتك بالعناصر المخبوءة، بالعناصر المطوية، العقل الباطن هو الطي، هو الذي يطوي الميول والغرائز والطاقات، العقل الباطن هو الذي يشير إليه تعالى بقوله: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، الأخفى من السر هو العقل الباطن، ميولك، غرائزك، طاقاتك، كلها أخفى من السر.

كيف نتعامل مع العقل الباطن الذي فيه ميولنا، الذي فيه غرائزنا، الذي فيه طاقاتنا؟ العقل الظاهر يعمل بوعي، أنت ملتفت إلى أن عقلك يشتغل، لكن العقل الباطن يعمل وأنت لا تشعر به، العقل الباطن يحرّك ميولك، يبعث غرائزك وطاقاتك من غير أن تشعر، العقل الظاهر يعمل بالتفات، العقل الباطن يعمل بدون التفات منك. نعم، وقت النوم، إذا نام الإنسان العقل الواعي يغفو، العقل الواعي يسكت، يبدأ العقل الباطن يتحرّك، فأحلامك التي تظهر في المنام هي حركة للعقل الباطن، في أحلامك تمارس هواياتك التي لا تمارسها وأنت واعٍ، في أحلامك تمارس ميولك التي تمارسها وأنت واعٍ، في أحلامك تمارس غرائزك التي لا تمارسها وأنت واعٍ، العقل الباطن يعمل بكفاءة عندما يغفو العقل الظاهر، وذلك يتجلى في أحلام الإنسان وفي خواطره.

أهمية العقل الباطن في أن تكتشفه، كثير منا لا يكتشف عقله الباطن، يعيش في الحياة وهو لم يكتشف نفسه، شخصيتك في عقلك الباطن، إذا لم تكتشف عقلك الباطن لم تكتشف شخصيتك، إنسان يعيش خمسين سنة، تسعين سنة، لا يدري عن ميوله ولا عن غرائزه ولا عن طاقاته، هذا الإنسان لم يكتشف عقله الباطن، حتى تستطيع أن تكتشف شخصيتك عليك أن تكتشف عقلك الباطن، عليك أن تعبر وتغور إلى أن تصل إلى أعماق عقلك الباطن لتعرف طاقاتك، ربما تكون لديك طاقة الشعر وأنت لا تمارس الشعر، ربما تكون عندك طاقة الفن وأنت لا تمارس ذلك، ربما تكون لك طاقة عقلية - يعني عقلك عقل رياضي لا يعرف إلا الأرقام - وأنت لا تلتفت إلى ذلك، كثير من الناس لديه طاقات مخبوءة يعيش من دون أن يكتشفها، يعيش من دون أن يعلم عنها، إذا أردت أن تكوّن شخصيتك عليك أن تكتشف عقلك الباطن والطاقات المخبوءة فيه.

لا تحتقر نفسك، كل إنسان قد يحتقر نفسه، يقول: أنا ماذا؟! ليس عندي شيء! أنا أخرج من الصباح وأذهب إلى العمل وأرجع في الليل وآكل وأنام وهذه حياتي كسائر الناس! لا، لا تحتقر نفسك، حاول أن تكتشف شخصيتك، حاول أن تكتشف طاقاتك المخبوءة في العقل الباطن، ربما يظهر لديك موهبة وإبداع لا يملكه غيرك، كل إنسان لديه موهبة إبداعية لا يمتلكها الآخر، على الإنسان أن يكتشفها، على الإنسان أن يستثمرها، على الإنسان أن يبحث عنها، إلى أن يصل إليها، اكتشف نفسك، اكتشف عقلك الباطن، اكتشف طاقاتك وقدراتك، ولا تحتقر نفسك أبدًا.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي يشير إلى أنّ الإنسان فيه دفائن كثيرة وكنوز كبيرة لا يعلم عنها، يقول: ”فبعث إليهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا دفائن العقول“، هناك دفائن موجودة في العقول، هناك كنوز مخبوءة في العقل الباطن تحتاج إلى إثارة.

عندما ترجع إلى علم النفس تجد «فرويد» يقول: أقوى غريزة في العقل الباطن غريزة الجنس، «يونغ» يقول: أقوى غريزة غريزة الرقي والاستعداد، «آدلير» يقول: أقوى غريزة هي غريزة حبّ الاستيلاء والتملّك. كلهم يتحدّثون عن الغرائز المخبوءة في العقل الباطن، لكن علم النفس الإسلامي يقول: الأهمّ من اكتشاف الغرائز اكتشاف الطاقات، الأهمّ في العقل الباطن أن نركّز على الطاقات لا أن نركّز على الغرائز، فوراء الميول ووراء الغرائز توجد طاقات لا بدّ من التركيز عليها ومعرفة كيفية استثمارها.

المحور الثاني: معرفة النفس.

ورد عن النبي محمد : ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“، كيف نعرف أنفسنا؟ معرفة النفس لها ألوان ثلاثة: معرفة فلسفية، معرفة سلوكية، معرفة روحية، نحن نركّز الآن على المعرفة الروحية.

القسم الأول: المعرفة الفلسفية.

ماذا يقول الفلاسفة عن النفس؟ يقولون: النفس جوهر مجرّد، البدن - هذا الجسم - جوهر مادّي لأنه ينقسم إلى يمين ويسار وطول وعرض وعمق، فهذا مادة، أما النفس فلا تنقسم، النفس ليس فيها يمين ويسار وعرض وعمق وطول، إذن النفس ليست مادية، الجسم جوهر مادّي لأنه ينقسم، النفس ليست جوهرًا ماديًا لأنها لا تنقسم، كلّ شيء مادّي يقبل القسمة، النفس لا تقبل القسمة، إذن النفس ليست شيئًا ماديًا، النفس جوهر مجرّد عن المادة. هذه المعرفة الفلسفية، لكن هذه المعرفة الفلسفية لا توصلنا إلى معرفة الرب، ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“.

القسم الثاني: المعرفة السلوكيّة.

أنتم تعرفون مدارس علم النفس، المدرسة السلوكية، المدرسة الاستبطانية... إلخ. نأتي إلى المدرسة السلوكية، كيف تتحدث عن معرفة النفس؟ تقول: معرفة النفس بإحصاء أمراضها، هناك شخص عنده مرض الانطواء، يحب دائمًا العزلة، شخص آخر عنده مرض الشره، لا يشبع مما يأكل ويحوي، بعض الناس عندهم أمراض نفسية، اكتشاف الأمراض النفسية معرفة سلوكية للنفس، هذه المعرفة تبقى معرفة ناقصة لا توصل إلى معرفة الرب، إذن أي معرفة توصل إلى معرفة الرب؟ أي معرفة يقول عنها النبي : ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“؟ القسم الثالث.

القسم الثالث: المعرفة الروحية.

المعرفة الروحية يعني أن تسيطر على العقل الباطن، نحن لا نعيش ولا نلتفت إلى العقل الباطن، نحن مشغولون بالعقل الظاهر، المعرفة الروحية أن تصل إلى العقل الباطن وتسيطر عليه، عقلك الباطن فيه ميول، هل سيطرت على ميولك؟ عقلك الباطن فيه غرائز، هل سيطرت على غرائزك؟ عقلك الباطن فيه طاقات، هل استثمرت طاقاتك؟ السيطرة على العقل الباطن تعني التحكم في الميول، توجيه الغرائز، استثمار الطاقات، من يصل إلى هذه الدرجة من المعرفة فقد عرف ربّه، ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“ يعني المعرفة الروحية، أن تسيطر على العقل الباطن، بميوله، بغرائزه، بطاقاته.

هذه المعرفة التي يقول عنها القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، «زكّاها» نظّفها، طهّرها من الرذائل والشوائب، أما «دسّاها» خطر، القرآن يعبّر عن الذنب بأنه دسّ، لأن الذنب غشّ، أنت تغش نفسك عندما تذنب، عندما تعصي الله فأنت تخدع نفسك، تغشها، تظلمها، لذلك عبّر القرآن عن المعصية بالدس، يعني الغش، كيف يغش الإنسان الناس؟ ألا يعتبرونه ظلمًا؟ لو غششت إنسانًا، لو خدعت إنسانًا، ألا يعتبر الإنسان هذا ظلمًا؟ المعصية أيضًا غش للنفس، أنت تظلم نفسك بهذه الذنوب، بهذه المعاصي، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي غشّها وخدعها، وهذا أعظم الظلم، معرفة النفس التي توصل إلى معرفة الربّ أن تتحكّم في نفسك، بميولها، بغرائزها، بطاقاتها، هذه المعرفة الروحية هي التي توصل إلى معرفة الرب.

عندما نعتقد بالعصمة، نحن الإمامية نعتقد بعصمة الأنبياء والرسل والأئمة، يأتي شخص ويسألك: ما هي العصمة؟ ما هي العصمة التي يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا؟ ما هي هذه الطهارة؟ ما هي حقيقتها؟ العصمة سيطرة العقل الواعي على العقل الباطن، المعصوم عقله مسيطر على باطنه، عقله مسيطر على ميوله، عقله مسيطر على غرائزه، عقله مسيطر على طاقاته، لا ميول إلا ضمن عقله، لا غريزة إلا ضمن عقله، لا طاقة إلا ضمن عقله، عندما يسيطر العقل الظاهر على العقل الباطن، أعظم درجة من درجات هذه السيطرة تسمّى بالعصمة.

أمير المؤمنين علي يقول: ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، أنا متحكّم في شخصيتي، متحكّم في ميولي، ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله“، هذه هي العصمة، هذه هي المعرفة الحقيقية للنفس، ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“.

المحور الثالث: طاقة الصلة وطاقة العزّة.

قلنا: العقل قسمان: عقل ظاهر وعقل باطن، قلنا: العقل الباطن ملتقى الطاقات، قلنا: المعرفة الروحية أن تسيطر على عقلك الباطن وتكتشف طاقاته، الآن نطرح سؤالًا: ما هي أهمّ الطاقات الموجودة في العقل الباطن التي إذا سيطرنا عليها امتلكنا الشخصية المتكاملة؟ هناك طاقتان: طاقة الصلة بالله عز وجل، وطاقة العزة.

الطاقة الأولى: طاقة الصلة بالله.

يقول علماء الكلام عندنا: كل إنسان يعيش الفقر الوجودي، ولكن ليس كل من يعيش الفقر الوجودي يعيش الفقر الروحي، نحن فقراء، نظن أننا أغنياء، لكن نحن فقراء، قدرتنا محدودة، أليس هذا فقرًا؟! علمنا محدود، أليس هذا فقرًا؟! حياتنا محدودة، أليس هذا فقرًا؟! لو قال الإنسان لربه: يا رب، بدلًا من أن يكون عمري ثمانين سنة فليكن مئة سنة! أيستطيع فعل ذلك؟! لا يستطيع أن يمدّد عمره، أليس هذا فقرًا؟! هذا عين الفقر، لا تنفعك ثروتك، ولا تنفعك أموالك، ولا تنفعك منصبك، إذا جاء وقت الموت لا تستطيع أن تمدّ عمرك ثانية واحدة، أليس هذا فقرًا؟! أيّ فقر أعظم من هذا؟! نحن نكابر، نحن مغرورن، نحن نعتبر أنفسنا أغنياء لأننا نمتلك أموالًا وثروة ووظيفة وجاهًا اجتماعيًا، كلّ هذا غرور.

نحن فقراء ولسنا أغنياء لأننا نعيش أرذل أنواع الفقر، أرذل أنواع الفقر أنك لا تستطيع أن تمدّ عمرك ثانية واحدة، هذا أرذل أنواع الفقر، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، وأنت تقرأ في دعاء الصباح: ”وقهر عباده بالموت والفناء“، الله يتحدّى قدرتك، يقول: أيها المغرور بأموالك وثرواتك ومنصبك، أنت مغرور، لا تستطيع أن تؤخّر الموت لحظة واحدة! يقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، ويقول: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، أنت تعيش في غرور، أنت تكابر، وإلا فأنت فقير.

إذن، كل مخلوق يعيش الفقر، كل مخلوق هو عين الفقر الوجودي، لماذا؟ لأن كل مخلوق محدود في قدرته، في علمه، في حياته، لا يستطيع أن يزيد من الحدّ أنملة واحدة، كل مخلوق محدود، فكل مخلوق فقير، هذا هو الفقر الوجودي، لكن هل الفقر الوجودي تحوّل إلى فقر روحي؟ هل أنت تشعر بالفقر أم لا تشعر؟ نحن لا نشعر بالفقر، نحن نشعر بالغنى، الفقر الوجودي لم يتحوّل في قلوبنا إلى فقر روحي، الفقر الروحي نحن لا نعيشه بل نعيش الاغترار بالدنيا، من استطاع أن يحوّل الفقر الوجودي إلى فقر وجداني فقد اكتشف طاقة الصلة بالله، هذه الطاقة المخبوءة في النفس، إذا استطعت أن تستثمر هذه الطاقة، يعني أن تحوّل الفقر الوجودي إلى فقر روحي.

كيف هي هذه الطاقة؟ أشرح بالمثال: جاء رجل إلى الإمام الصادق ، قال له: يا أبا عبد الله، دلّني على الله. قال له الإمام: هل ركبت البحر؟ قال: بلى، قال: هل كُسِر بك السفين فلا سفينة تنجيك ولا سباحة تجديك؟ أنت في وسط لجّة الموج، قال: بلى صار هذا، قال: هل تعلّق قلبك بشيء ظننت أنه قادر على أن يخلّصك؟ في ذلك الوقت، وقت الفزع، وقت الخوف، هل تعلّق قلبك بشيء ظننت أنه قادر على أن يخلّصك؟ قال: بلى، قال: ذلك هو الله.

هذا معنى العقل الباطن، الإنسان متى يكتشف العقل الباطن؟ يكتشفه وقت الخوف. وقت النعمة والبحبوحة لا يكتشف العقل الباطن، وقت الخوف والفزع يكتشف عقله الباطن، ويكتشف أنّ في عقله الباطن طاقة تسمّى طاقة الصلة بالله، يكتشف أنّ في عقله الباطن طاقة الفقر إلى الله، عليه أن يستثمر هذه الطاقة ليحوّل الفقر من الفقر الوجودي إلى الفقر الروحي الوجداني، ذلك هو الله، وهذا ما تقصده الآية المباركة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فطرة الله هي طاقة الصلة بالله، طاقة الصلة بالله عليك أن تحرّكها، عليك أن تستثمرها، عليك أن تعيش الخضوع والتذلل أمام الله.

الليلة ليلة الجمعة، ليلة مناجاة، ليلة خلوة مع الله، اخلُ مع ربك ولو ركعتين في ظلام الليل، لتناجي ربك، لتناغي إلهك، لكي تخرج الفقر الوجودي إلى فقر روحي، لكي تعيش الشعور بالذلة والمسكنة والخضوع أمام الله، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، الخشوع هو المصداق لطاقة الصلة بالله، لتحويل الفقر الوجودي إلى الفقر الروحي.

الطاقة الثانية: طاقة العزة.

هل أنت تمتلك طاقة عزّة أم لا؟ هل أنت عزيز أم ذليل؟ عندنا ميول وعندنا طاقة، نحن مع الأسف نمشي وراء الميول، لا نمشي وراء استثمار الطاقات، أضرب لك مثالًا: إذا تعرّض أحدنا لإغراء جنسي يسترسل وراء الإغراء، هذا معناه أنه يمارس ميولًا، ترك الطاقة على جانب وذهب إلى الميول، ذهب إلى الميول الهابطة الرخيصة وترك الطاقة المنيعة، طاقة العزة، طاقة المناعة، إذا تعرّض الإنسان لإغراء مادي، عُرِضَت عليك أموال، عُرِض عليك منصب، لكن تتخلى عن بعض المبادئ، تتخلى عن بعض الدين، ما هو قولك إذا أغريت بالأموال أو بالمنصب مع التخلي عن بعض المبادئ؟ ما هو موقفك؟ قد يسترسل الإنسان وراء الإغراء، هذه ميول ذليلة حقيرة هابطة، أما الإنسان الذي يتحدّى غريزته فهذا لا يمارس ميولًا بل يمارس طاقة اسمها طاقة العزّة، عزيز يتحدّى الغريزة، يتحدّى الإغراء، يتحدّى التزيين، من استطاع أن يتحدّى فهو إنسان عزيز، ومن استرسل وراء الغريزة فهو إنسان ذليل، ذلة الميول تحجبك عن عزّة الطاقة.

الإنسان الذي يستجيب لغرائزه، لشهواته، هذا إنسان ذليل، ذليل أمام الشهوة، ذليل أمام الغريزة، يصفه الإمام الباقر بقوله: ”ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه“، الشهوة تذلّك، المنصب يذلّك، الأموال تذلّك. القرآن الكريم يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، كن عزيزًا ولا تكن ذليلًا، من انصاع لشهوته فهو ذليل، ومن تحدّى الشهوة وتحدّى الغريزة واستطاع أن يقول: لا للإغراء الشهوي، لا للإغراء المالي، لا للإغراء المادّي، أنا أتحدى الشهوة والغريزة، هذا إنسان عزيز، إنسان اكتشف عقله الباطن، إنسان سيطر على طاقة العقل الباطن، وهي طاقة العزة، إنسان وصل إلى المعرفة الروحية، إنسان صار مصداقًا لقول النبي : ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“.

ورد عن الإمام الصادق : ”إنّ الله فوّض إلى المؤمن كلّ شيء ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه“، كيف يذل نفسه؟ يقول: ”أما سمعت قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ“، المؤمن عزيز، ثم يشرح الإمام الصادق لنا العزة، يقول: ”فالمؤمن يكون عزيزًا ولا يكون ذليلًا، إنّ المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستقلّ منه بالمعاول“، تستطيع أن تهدم الجبل بالمعاول، ”والمؤمن لا يتسقلّ من دينه شيءٌ“، المؤمن ثابت على مبادئه لا يتنازل عنها، المؤمن ثابت على قيمه لا يحيد عنها، المؤمن يحارب غرائزه وشهواته، المؤمن سيطر على عقله الباطن وميوله وغرائزه، المؤمن عزيز، العزة تساوي السيطرة على العقل الباطن بميوله وغرائزه، هذه هي طاقة العزة، كن عزيزًا ولا تكن ذليلًا، المؤمن يفتخر بدينه وبمبادئه ولا يتنازل عنها، هذا هو معنى العزة.

نحن عندما نريد أن نتعلّم العزة مدرسة كربلاء تعلّمنا العزة، الحسين، أنصار الحسين أعزاء، عُرِضَت عليهم المناصب، عُرِضَت عليهم الأموال، عُرِضَت عليهم الدنيا، يقولون: بايعنا يزيد بن معاوية، كلمة واحدة ويعطوَن من الأموال والثروات ما يشاؤون، لكنهم عرفوا أنفسهم معرفة روحية، لكنهم وصلوا إلى عقولهم الباطنة، لكنهم اكتشفوا طاقة العزة في داخل أرواحهم، فعبّروا عن العزة بمواقفهم البطولية.

أيام كربلاء أيام العزة، مدرسة عاشوراء مدرسة العزّة، أنتم جئتم لتستفيدوا وتنتهلوا من مظاهر العزة الكربلائية، العزة الحسينية، ”ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت“ يعني يقول: العزة ليست عندي أنا فقط، أجدادي كلهم هكذا، أبو طالب عزيز، عبد المطلب عزيز، هذه جذور، خديجة حجور، فاطمة بنت أسد حجور، أنا جئت من جذور وحجور، ”وجذور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد“.

وأبى   أن   يعيش  إلا  iiعزيزًا
كيف  يلوي  على  الدنيّة جيدًا
فتلقّى   الجموع   فردًا   iiولكن

 
أو  تجلى  الكفاح  وهو صريعُ
لسوى  الله  ما  لواه  iiالخضوعُ
كل عضو في الروع منه جموعُ