تأملات في حادثة بني قريضة

شبكة المنير

تعليقًا على مجموعة من المناقشات التي قام بإيرادها الباحث الألمعي «الأستاذ أحمد العبدلي» - التي خلاصتها: أنّ فقهاء الإماميّة قديمًا وحديثًا قد اعتمدوا تفاصيل حادثة بني قريظة، ورتّبوا عليها بعض الفروع، نحو مسألة علامة الإنبات على البلوغ.

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين

سوف نتناول موضوع «حادثة بني قريظة» في مقامين:

المقام الأول: في كتب الحديث.

إنَّ الوارد عندنا عن القضية روايات ثلاث:

الرواية الأولى: ما في تهذيب الأحكام: ”أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ ع قَالَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص عَرَضَهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْعَانَاتِ فَمَنْ وَجَدَهُ أَنْبَتَ قَتَلَهُ ومَنْ لَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ أَلْحَقَهُ بِالذَّرَارِيِّ“ [1] .

لكن الطريق ضعيف بوهب بن وهب، وهو أكذب البرية كما عُبِّرَ عنه.

الرواية الثانية: ما في عوالي اللآلي: وفِي الْحَدِيثِ: ”أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قريظة بِقَتْلِ مُقَاتِلِيهِمْ وسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وأَمَرَ بِكَشْفِ مُؤْتَزَرِهِمْ فَمَنْ أَنْبَتَ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ومَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَهُوَ مِنَ الذَّرَارِيِّ وصَوَّبَهُ النَّبِيُّ (ص‌)“.

وهي شبيهة بالأولى، لكنها مرسلة.

الرواية الثالثة: ما رواه الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: ”وَرُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ جَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسَائِلَ فِي الْحَلَالِ والْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ قُلْ لِهَذِهِ الْمَارِقَةِ بِمَا اسْتَحْلَلْتُمْ فِرَاقَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع وقَدْ سَفَكْتُمْ دِمَاءَكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وفِي طَاعَتِهِ والْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنُصْرَتِهِ؟ فَسَيَقُولُونَ لَكَ إِنَّهُ حَكَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ فَقُلْ لَهُمْ قَدْ حَكَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّهِ رَجُلَيْنِ مِنْ خَلْقِهِ - قَالَ جَلَّ اسْمُهُ فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وحَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا وحَكَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِمَا أَمْضَاهُ اللَّهُ“ [2] .

وهي رواية مرسلة، مضافًا إلى أنها تعرّضت لأصل حكم سعد بن معاذ دون ذكر تفاصيل.

مصادر أخرى:

وفي رسائل الشريف المرتضى وردت هذه العبارة: «قوله ”فرضوا بآخر“ لأنهم قالوا لما اشتد بهم الأمر وتطاول حصارهم نحن نرضى بحكم سعد بن معاذ، لأنه كان جارا لهم، وظنوا أنه يحكم بما يوافقهم فحكموه، فحكم فيهم أن يقتل مقاتليهم، وأن يسبى ذراريهم، وأن يقسم أموالهم، فقال له رسول اللّٰه: لقد حكمت بحكم اللّٰه ورسوله فيهم. والقصة مشهورة وشرحها يطول» [3] .

ولكن الشريف المرتضى لم يتعرّض هنا لتفاصيل عديدة، ولم يذكر سندًا للرواية، ولا يستفاد من عبارته أكثر من شهرة المقدار الذي رواه، على فرض جابرية الشهرة لضعف الرواية.

نعم، في أمالي الشريف المرتضى وإرشاد المفيد نُقِلَت القضية بتفاصيل متعددة، إلّا أنّهما لم يذكرا طريقًا للرواية يعتمَد عليه، مضافًا إلى أنّ بعض هذه الكتب ليست من الكتب الحديثية، وإنما هي من الكتب التاريخية المبنية على نقل ما يستقرب المؤلف وقوعه، فلا تصلح دليلًا في المقام.

المقام الثاني: في كتب الفقه.

والبحث في هذا المقام يكون من جهتين:

الجهة الأولى: استعراض الكلمات المذكورة في كتب الفقه.

أ/ منها: ما ذكره الشيخ الطوسي في كتاب الخلاف، استدلالًا على علامية الإنبات على البلوغ، متعرضًا لخلاف أبي حنيفة وتفصيل الشافعي، حيث قال: «و قال أبو حنيفة: الإنبات ليس بدلالة على بلوغ المسلمين، ولا المشركين، ولا يحكم به بحال.

وقال الشافعي: هو دلالة على بلوغ المشركين، وفي دلالته على بلوغ المسلمين قولان.

دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم من غير تفصيل.

وأيضا ما حكم به سعد بن معاذ في بني قريظة، فإنه قال: حكمت بأن يقتل مقاتلهم، ويسبى ذراريهم، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذراري، فبلغ ذلك النبي صلى اللّٰه عليه وآله‌ فقال: ”لقد حكم سعد بحكم اللّٰه من فوق سبع سموات“ وروي: ”سبعة أرقعة“» [4] .

وظاهر كلامه حيث فصل الرواية المتعرّضة للتفاصيل عن أخبار الفرقة أنَّ القضية ليست من أخبار الإمامية، وإنما هي من روايات العامة، ولو فرضنا أنها رواية موجودة في كتب الإمامية فإنَّ كتاب الخلاف كما هو معلوم كتاب مقارن في الفقه، فهو يعنى بذكر آراء العامة ومناقشتهم بما يسلّمون، ولذلك فلا يستفاد من استشهاده برواية مقابل كلامهم قبوله لها واعتماده عليها.

ب/ ومنها: كتابه الآخر «المبسوط في الفقه» المتأخّر من حيث الكتابة عن التهذيبين والخلاف [5] ، حيث قال: «إذا حاصر الإمام بلدًا وعقد عليهم على أن ينزلوا على حكمه، فيحكم فيهم بما يرى هو أو بعض أصحابه، جاز ذلك، كما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم، فقال النبي : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة: يعني سبع سماوات» [6] .

وظاهر سياق عبارته التسليم بوقوع حكم سعد بقتل جميع الرجال.

ونحوه ما في شرح اللمعة: «وثانيهما النزول على حكم الإمام، أو من يختاره الإمام. ولم يذكر شرائط المختار اتكالًا على عصمته المقتضية لاختيار جامع الشرائط، وإنما يفتقر إليها من لا يشترط في الإمام ذلك، فينفذ حكمه كما أقر النبي صلى اللّٰه عليه وآله بني قريظة حين طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل الرجال، وسبي الذراري، وغنيمة المال، فقال له النبي صلى اللّٰه عليه وآله: لقد حكمت بما حكم اللّٰه تعالى به من فوق سبعة أرقعة» [7] .

ونحوه أيضًا ما في المسالك: «فتجوز له المهادنة على حكم من يختارونه حينئذ، كما أقر النبي بني قريظة، حين طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل الرجال، وسبي الذراري، وغنيمة المال. فقال له النبي : لقد حكمت بما حكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» [8] .

ولكن للتأمّل مجال، حيث لم تتعرّض هذه الكتب لمستند الحكم، فهل هو أخبار صحيحة؟ أم إجماع؟ أم شهرة عملية لأخبار ضعيفة؟ ومقتضى تتبع ما سبقها من الكتب وما لحقها عدم وجود خبر معتبر في القضية من كتب الإمامية، وهذا ما يظهر جليًا من نقل كلام التذكرة والجواهر، ومن البعيد جدًا أن يظفر الشيخ والشهيد الثاني بأدلة معتبرة على القضية لم تقع لا في الكتب السابقة ولا في اللاحقة.

ففي تذكرة الفقهاء، قال: «الخامس: أن ينزلوا على حكم حاكم فيجوز، لأنّ النبي صلّى اللّٰه عليه وآله لمّا حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأجابهم عليه السّلام إلى ذلك» [9] .

وفي المنتهى استشهد على أصل الحكم في مسألة قبول حكم الحاكم بقضية حادثة بني قريظة، حيث قال: «و لا يشترط أن يكون فقيها في كلّ المسائل، عارفا بجميع الأحكام؛ لأنّ سعد بن معاذ أجاز النبيّ صلّى اللّه عليه وآله تحكيمه «5» «6»، ولم يعلم أنّه كان عالما بجميع الأحكام، بل أن يكون عارفا بما يتعلّق بهذا الحكم، وما يجوز فيه ويعتبر له، ونحو ذلك» [10] ، وتعرّض لتفاصيل القضية في عدّة موارد من المنتهى [11] .

ولكن للتأمّل في ذلك مجال، إذ يظهر من ملاحظة ما ذكره في كتابه «التذكرة» - المتأخر تأليفًا عن المنتهى[12]  - أنَّ مستند التفاصيل رواية العامة لا الخاصة، حيث قال: «ولما روىٰ العامّة أنّ سعد بن معاذ حكم على بني قريظة بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين، فمَنْ أنبت منهم قُتل، ومَنْ لم ينبت جُعل في الذراري.

وعن عطية القرظي قال: عُرضنا على رسول اللّٰه يوم قريظة وكان مَنْ أنبت قُتل، ومَنْ لم ينبت خُلّي سبيله، فكنتُ في مَنْ لم ينبت، فخلّى سبيلي.

ومن طريق الخاصّة: ما رواه حفص بن البختري عن الصادق عن الباقر عليهما السلام، قال: قال: ”إنّ رسول اللّٰه عرضهم يومئذٍ على العانات، فمَنْ وجده أنبت قَتَله، ومَنْ لم يجده أنبت ألحقه بالذراري“» [13] .

ج/ ومنها: ما في الجواهر: «و على كل حال فلو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالإنبات للشعر الخشن على العانة باللمس أو النظر، فمن لم ينبت وجهل سنه ولم يحصل العلم بالبلوغ ولو من أمارات متعددة لم ينص الشارع عليها بالخصوص ألحق بالذراري بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك كما اعترف به بعضهم، بل ولا إشكال، ضرورة ثبوت البلوغ بالعلامة المزبورة التي اقتصر عليها هنا، لغلبة عدم معرفة غيرها من السن ونحوه غالبًا، وإلا فلا فرق بينها وبين غيرها من علامات البلوغ، وإن لم يتحقق شي‌ء منها فالأصل العدم، وفي المنتهى وغيره أن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بهذا وأجازه النبي صلى اللّٰه عليه وآله، وفي‌ خبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: ”قال: إن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله عرضهم يومئذ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن لم يجده أنبت ألحقه بالذراري“» [14] .

وظاهر استشهاده بحكم سعد أنه على سبيل التأييد لا الاعتماد، وإلا لعبّر بقوله: ولما في المنتهى، مع أنه لو كان المستند حديثًا معتبرًا لاستند لنفس الحديث، معبِّرًا بما يشعر بالاعتماد عليه، ويزيد الأمر وضوحًا ما ذكره صاحب الجواهر نفسه في موضع آخر، حيث قال: «و يدل عليه - مضافًا إلى ما عرفت مؤيدًا بالعادة - الأخبار المروية من الطرفين، ف‍من طريق الجمهور: ما روي «أن سعد بن معاذ لما حكم على قريظة كان يكشف عن عورات المراهقين، ومن أنبت منهم قتل، ومن لم ينبت جعل في الذراري».

وما‌ روى عن عطية القرضي قال: ”عرضنا على رسول الله يوم قريظة، وكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلى سبيلي“.

ومن طريق الأصحاب‌: خبر أبي البختري...» [15] .

ففصل أخبار العامة عن أخبار أصحابنا الإمامية في القضية، ونقل الحكم بكشف المآزر وبعض التفاصيل وما نُقِل عن عطية القرضي عن طريق الجمهور لا عن طريق الرواية، حيث لم ينقل عن طريق الإمامية في الواقعة إلا رواية أبي البحتري السابقة، ولو كان في البين مستند حديثي أقوى لبان.

فالمتحصَّل من كلّ ما سبق: عدم الظفر بطريق معتبر للتفاصيل في كتب الحديث والفقه عند الإمامية، وعدم ثبوت دعوى الإجماع على القضية أو شهرتها في كلمات جميع علمائنا.

وهذا ما يتوافق مع ما ذكره العلّامة البحّاثة السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه «الصحيح من سيرة النبي» الذي استقرب أنّ من أمر النبي بقتلهم خصوص من حزّب على النبي وحرّض على القتال، لا جميع الرجال، حيث قال تحت عنوان «حكم سعد بن معاذ في طريقه إلى التنفيذ»: "و قد تقدم قولهم: إن سعدًا حكم على بني قريظة بقتل الرجال، وسبي النساء، وغنيمة الأموال. لكن الظاهر أنه حكم عليهم: «أن يقتل كل من حزب عليه، وتغنم المواشي، وتسبى النساء والذراري، وتقسم الأموال. فقال رسول اللّه : لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة».

فكلمة حزّب عليه، أصبحت بعد تصحيفها وإضافة كلمة واحدة إليها للتوضيح هكذا: جرت عليه الموسى‏. ويؤيد: أنه إنما قتل من حزب عليه ما سيأتي من الاختلاف الفاحش في عدد المقتولين. ويصرح ابن شهر آشوب: أن عدد بني قريظة كان سبع مئة، لكن المقتولين منهم كانوا أربعمئة وخمسين‏. وهو المناسب أيضا لقوله تعالى: ﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وتَأْسِرُونَ فَرِيقاً" [16] .

الجهة الثانية: في تحقيق أمرين.

أ/ الأول: هل رواية العامة لتفاصيل القضية منجبرة بالشهرة العملية لدى علماء الإمامية، أم لا؟

قال صاحب الجواهر: ”قلت: لا ينبغي التأمل في جواز ذلك للنبي والإمام الذي هو معصوم عن الخطأ، نعم هو غير جائز لأئمتهم، فلا وجه لما يظهر من الفاضل المنع، خصوصا بعد قوله لمعاذ: قد حكم الله بذلك فوق سبعة أرفعة“ [17] .

وهنا قد يقول قائل: إنَّ ظاهر هذه العبارة أنَّ الرواية وإن كانت عن طريق العامة، إلا أنها مشهورة بين أصحابنا، وشهرتها جابرة لضعفها.

لكن الصحيح حيث إنَّ الرواية متضمنة لأحكام شرعية - كقتل جميع البالغين، وتسويغ كشف المئزر لتشخيص البلوغ - فلا بدَّ من استجماعها لشرائط الفتوى، وتماميتها في المقام مرتكزة على عنصرين:

أولهما: كون هذه الرواية بتفاصيلها مشهورةً شهرةً عمليةً بين قدماء أصحابنا السابقين على الشيخ الطوسي.

وثانيهما: أنَّ شهرة القدماء جابرة لضعف السند.

وكلا هذين العنصرين محل منع، خصوصًا على مباني سيدنا الخوئي «قدس سره».

ب/ الثاني: لقد ذكر صاحب البحار مسندًا الرواية إلى علي بن إبراهيم القمي أنَّ النبي عاهد بني قريظة على ألا يعينوا على رسول الله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا بيد ولا بسلاح ولا بكراع، فإن فعلوا فرسول الله في حل من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم.

"قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ‏ وجَاءَتْهُ الْيَهُودُ قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ وقَيْنُقَاعُ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَا تَدْعُو قَالَ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ... فَقَالُوا لَهُ قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وقَدْ جِئْنَاكَ لِنَطْلُبَ مِنْكَ الْهُدْنَةَ عَلَى أَنْ لَا نَكُونَ لَكَ ولَا عَلَيْكَ ولَا نُعِينَ عَلَيْكَ أَحَداً ولَا نَتَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ ولَا تَتَعَرَّضَ لَنَا ولَا لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُكَ وأَمْرُ قَوْمِكَ‏.

فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى ذَلِكَ وكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَاباً أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص ولَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِلِسَانٍ ولَا يَدٍ ولَا بِسِلَاحٍ ولَا بِكُرَاعٍ‏ فِي السِّرِّ والْعَلَانِيَةِ لَا بِلَيْلٍ ولَا بِنَهَارٍ اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ فَإِنْ فَعَلُوا فَرَسُولُ اللَّهِ فِي حِلٍّ مِنْ‏ سَفْكِ‏ دِمَائِهِمْ‏ وسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ ونِسَائِهِمْ وأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وكَتَبَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ كِتَاباً عَلَى حِدَةٍ" [18] .

وحيث إنهم خانوا المعاهدة التي وقعت بينهم وبين رسول الله ، فمقتضى ذلك هو أن للرسول أن يقتل رجالهم وأن يسبي ذراريهم ونساءهم وأن يأخذ أموالهم، فما فعله رسول الله إنما هو التزامٌ بالمعاهدة التي جرت بينه وبينهم، وليس ظلمًا لهم ولا اعتداء عليهم.

ولكنْ في هذه المقالة تأمّلٌ ونظرٌ:

أولًا: لم تثبت هذه المعاهدة بسند معتبر، فقد رفعها صاحب البحار إلى علي بن إبراهيم دون أن يذكر طريقه إليه، ودون أن يذكر طريق علي بن إبراهيم لمن روى الواقعة.

وثانيًا: ليس لرجالهم ولاية على إبرام هذه المعاهدة، فإنَّ من كان بالغًا حين حكم سعد بن معاذ عليهم ولم يكن حاضرًا المعاهدة ولا مشاركًا فيها لا يسوغ مؤاخذته بمعاهدة جرت بين رجال قومه وبين الرسول ، فالمعاهدة إنما تكون نافذة إذا كان المتعهد ممن له ولاية على ما تعهّد به، وحيث إنَّ الإنسان ليس له ولاية على تعريض غيره - ممن لم يشارك في المعاهدة أو لم يبرمها - للقتل أو السبي، لا تكون هذه المعاهدة نافذة في حقه شرعًا، فالرسول لو أنه قتل رجالهم وسبى ذراريهم ونساءهم من باب إعمال ولايته على الأنفس والأعراض والأموال لكان ذلك وجهًا صحيحًا، وأما أنه يقوم بذلك من باب الالتزام بالمعاهدة مع عدم نفوذها في حق من لم يبرمها فليس أمرًا مطابقًا للموازين العقلائية والشرعية.

والمتلخَّص ممّا ذكرناه: أنَّ اليهود في المدينة - وخصوصًا يهود بني قريظة - وإن كانوا أشد خطرًا وغدرًا وفتكًا على المجتمع الإسلامي وعلى الرسول وأصحابه من أي قوم آخرين، إلا أنَّ دفع خطرهم لا يتوقّف على قتل من بلغ منهم وإن لم يكن ممن حزب على النبي أو شارك في الغدر والخيانة، كما أن هذا الفعل لو ثبت بدليل معتبر لقلنا إنَّ الوجه فيه هو أنَّ الرسول قد أعمل ولايته الثابتة له شرعًا، ولكن الكلام في ثبوت هذه الواقعة، وبعد التأمّل في الجهات السابقة يظهر أن ثبوتها محفوفٌ بموانع عقلائية وشرعية تمنع من التصديق والوثوق بوقوعها من قبل النبي المصطفى محمد الذي هو رحمة للعالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

السيد منير الخباز

[1] تهذيب الأحكام: ج6، ص173.
[2] الاحتجاج: ج‌2، ص324.
[3] رسائل الشريف المرتضى: ج‌4، ص128.
[4] الخلاف: ج‌3، ص281‌.
[5] قال الحلي في السرائر «ج1، ص499»: وما سطرناه واخترناه، مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّٰه واختياره في مبسوطه، وهذا الكتاب المهم آخر ما صنّفه في الفقه، فإنّه بعد النهاية، والتهذيب، والاستبصار، والجمل والعقود، ومسائل الخلاف.
[6] المبسوط في فقه الإمامية: ج‌2، ص17.
[7] الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية «تحشية كلانتر»: ج‌2، ص398.
[8] مسالك الأفهام للشهيد الثاني: ج3، ص36.
[9] تذكرة الفقهاء «ط - الحديثة»: ج‌9، ص79.
[10] منتهى المطلب في تحقيق المذهب: ج‌14، ص161.
[11] لاحظ الجزء الثاني من ص920 إلى ص927.
[12] قال في «مصابيح الأحكام: ج‌1، ص333»: ثمّ إنّه رحمه الله في المنتهى - وهو من أوّل ما صنّفه - اختار الطهارة ووجوب النزح تعبّداً، ورجع عن ذلك في النهاية، والتذكرة، والإرشاد، والتبصرة.
[13] تذكرة الفقهاء «ط - الحديثة»: ج14، ص187.
[14] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: ج‌21، ص121.
[15] الجواهر: ج‌26، ص5.
[16] الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ج‏11، ص173.
[17] الجواهر: ج21، ص111.
[18] بحار الأنوار «ط - بيروت»: ج‏19، ص111.