درس الفقه | 124

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن الاشكال الرابع على سند الرواية وهي رواية الحميري الواردة في التقدم على قبر المعصوم.

الإشكال الرابع: ما ذكره سيد المستمسك من الإشكال بإعراض المشهور، وذكرنا هل ان المشهور اعرض فعلا عن العمل بالرواية وعلى فرض ذلك فهل الاعراض سندي ام دلالي. فلابد من النظر هل ان المشهور اعرض عن دلالة الرواية على منع التقدم ام ان المشهور اعرض عن دلالة الرواية على جواز استقبال قبر المعصوم؟ حيث ان الرواية تضمنت مفادين: أحدهما منع التقدم على قبر المعصوم في الصلاة، والآخر جواز ان تجعل قبر المعصوم قبلة. ففي أي من المفادين قد اعرض المشهور عن العمل بالرواية؟ فإن كان المنظور هو الأول، بمعنى ان الرواية قد دلت على منع التقدم على قبر المعصوم في الصلاة، والمشهور ذهب الى جواز التقدم مثلا، حتى يقال ان المشهور اعرض عن العمل بالرواية، فالصحيح انه لا يوجد في فتاوى مشهور القدماء ما يدل على تجوزيهم التقدم على قبر المعصوم كي يقال بان المشهور اعرض عن مفاد الرواية من منع التقدم على قبر المعصوم في الصلاة. واذا كان المنظور هو المدلول الثاني، يعني ان الرواية دلّت على جواز الاستقبال، يجوز للمصلي أن يجعل قبر المصلي قبلة لصلاته، والمشهور منع من ذلك، حيث إن الرواية الشريفة قالت: «فأما الصلاة فإنها خلفه» يعني خلف القبر «ويجعله الإمام، او يجعله الأمام» اي يجعل القبر امامه، فكأنها تريد ان تقول ان الصلاة المناسبة ان تصلي والقبر قبلة لك. فهل أن المشهور اعرض عن هذا المفاد ام لا؟ لا اشكال ان الشيخ المفيد ذهب الى الكراهة، اي كراهة جعل قبر المعصوم قبلة، كما ان الشيخ الطوسي احتاط بالترك، فقال اما ان تحمل الرواية على النافلة او الاحوط الترك. ولكن هذه العبارة في الرواية تدل على الجواز بالمعنى الأعم؟ ام تدل على الجواز بالمعنى الاخص المنافي للكراهة، فان كان مفاد هذه الفقرة «فأما الصلاة فإنا خلفه، ويجعله الإمام، او يجعله الأمام» مفادها مجرد الجواز بالمعنى الاعم، مقابل المنع، يعني ليس ممنوعاً، لس ممنوعا من الصلاة مستقبلا للقبر، فهذا لا يتنافى مع القول بالكراهة، فلو فرضنا ان القدماء ذهبوا الى كراهة استقبال قبر المعصوم لم يكن ذلك إعراضاً عن مفاد الرواية، لان مفاد الرواية مجرد رفع المنع لا اكثر من ذلك. وأما اذا قلنا بان مفاد هذه الفقرة «فأما الصلاة فإنها خلفه» يعني في مقام بيان الأدب مع قبر المعصوم، «فأما الصلاة»، يعني فأما الصلاة المناسبة للأدب مع المعصوم ان تقع خلفه، ويجعله الإمام، او ويجعله الأمام، فهي لا تتحدث عن مجرد رفع المنع، وانما تتحدث عن الصلاة المناسبة لقبر المعصوم، إذن هذا يتنافى مع القول بالكراهة حتماً. الصلاة المراعاة فيها الادب مع المعصوم هي الصلاة خلف القبر، بأن يكون القبر قبلة له، فكيف يقال بكراهة ذلك. إلّا أنه يرد على ذلك: نعم لو فرضنا ان الرواية مفادها هل ان مجرد فتوى المفيد واحتياط الشيخ الطوسي بالترك يشكل اعراضا عن العمل بالرواية كي يوجب وهناً عن العمل بالرواية، لا اشكال ان مجرد مخالفة المفيد والشيخ مع اطلاعهما للرواية ونقلهما للرواية، حيث إن المفيد واقع في الرواية والشيخ نقل الرواية في التهذيب، مع ذلك مجرد عدم عملهما بهذه الفقرة من الرواية لا يشكل اعراضا موجبا للوهن، لا اعراضا سندياً وهو واضح، ولا اعراضا دلالياً، فإننا لا نفرق في الاصول بين الاعراض السندي والاعراض الدلالي، خلافا للسيد الشهيد «قده» الذي بينهما، فقال الاعراض السندي قادح وإما الإعراض الدلالي فليس بقادح.

فلا فرق بينهما من حيث النكتة، حيث النكتة فيهما هي: بناء على مسلك حجية خبر الثقة فلم يحرز بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة مع وجود منشأ عقلائي على الخلاف، واعراض المشهور عن العمل بالرواية هم الذين قاموا بتدوينها هذا منشأ عقلائي على احتمال الخلاف، فلا يحرز عمل العقلاء هنا بخبر الثقة مع قيام منشأ عقلائي على خلافه، وإعراض المشهور منشأ عقلائي لعلهم وجدوا في الرواية غمزا لم يصل الينا. وكذلك في جانب الإعراض في الدلالية، فان الدلالة عبارة عن العمل بالظهور، ومدرك العمل بالظهور سيرة العقلاء، أيضاً نقول: سيرة العقلاء جرت على حجية الظهور ما لم منشأ عقلائي على خلافه، واعراض المشهور عن دلالة الرواية مع كونها بين أيديهم، نفس هذا الاعراض عن دلالة الرواية منشأ عقلائي اذ لعلهم اطلعوا على قرينة مانعة من العمل بمدلول الرواية، فلا فرق في النكتة بين موهنية اعراض المشهور عن السند، او موهنية اعراض المشهور عن الدلالة، غاية ما في الباب فعلا اذا كان يوجد اعراض، وأما مجرد فتوى المفيد والشيخ بالكراهة مع دلالة الرواية على الجواز بالمعنى الاخص بل مع الجواز مع الندب، لأن هذا هو مقتضى الصلاة المناسبة للأدب مع قبر المعصوم لا يشكل إعراضاً موهناً.

إذن فالنتيجة: ان هذه الرواية اذا صححنا سندها بأن قلنا ان طريق الشيخ لكتاب محمد ابن احمد ابن داوود في الفهرست يشمل ما رواه عنه في التهذيبين وهذا مما رواه عنه في التهذيبين، فصححنا السند من هذا الطريق. وأيضاً قلنا ان ظاهر كلمة «الفقيه» في قوله «كتبت الى الفقيه» المراد ب «الفقيه» احد الإمامين، اما العسكري وإما الحجة «عج». فحينئذ لا يكون اعراض المشهور مانعا من العمل بها، وقد افتى كثير من فقهائنا على طبق هذه الرواية فمنعوا التقدم على قبر المعصوم.

أما الكلام في الدلالة: وما ذكره السيد الخوئي «قده» من البحث في الدلالة، قال: المحتمل في الدلالة ثلاثة: المحتمل الاول: ان المراد من قوله «ويجعله الإمام» تنزيل القبر منزلة الإمام فكأنّه أمامه، كما لا يتقدم على الإمام فكذلك على قبره. ثم يناقش ذلك، ويقول وهو كما ترى، فإن الجعل والفرض لا يترتب عليه أثر، لأنه إما أن التقدم بالصلاة على قبر المعصوم مانعا من صحة الصلاة، فهو سواء اعتبر الامام واقفا امامه او لم يعتبر، لا اثر له بالحكم، بالنتيجة التقدم على قبر المعصوم بالصلاة مانع من صحتها حتى لو كان غافل عن تنزيل قبر الامام منزلة وجود الامام. وإذا افترضنا أنه ليس مانع فألف تنزيل وألف جعل لم يشكل مانعا من صحة الصلاة، فما هو مدخيلة «ويجعله الإمام» أي وينزل الامام منزلة وجود الامام، فهذا التنزيل لا اثر له في الحكم. المحتمل الثاني: أن يراد بذلك تنزيله منزلة القبر إمام الجماعة، لا الإمام المعصوم، «ويجعله الإمام» يعني ويجعل القبر بمنزلة إمام الجماعة، فكما لا يتقدم في صلاة الجماعة على إمام الجماعة لا يتقدم على قبر المعصوم. وهذا كسائره في الركاكة، لان التنزيل بالنتيجة لا اثر له. التقدم على قبر المعصوم مانع من صحة الصلاة، فلماذا يطلب الإمام من المكلف ان ينزل قبر المعصوم منزلة إمام الجماعة، لا حاجة الى ذلك، فالتنزيل لا دور له والجعل لا دور له في الحكم، المدار على مانعية التقدم بالصلاة على قبر الصلاة. لذلك قال المحتمل هو المتعين.

المحتمل الثالث: وهو «ويجعله الأمام» لا «ويجعله الإمام» بحيث تكون هذه الفقرة تأكيداً للفقرة السابقة «فأما الصلاة فإنها خلفه» خلفه يعني جعل القبر أمامه، فهي فقرة مفسرة أو مؤكدة، وبالتالي جعل المكلف وتنزله لا اثر له في الحكم، «فأما الصلاة فإنها خلفه ويجعله الأمام» اي ويجعل القبر امامه، فتتلائم هذه الفقرة حينئذ مع قوله في الذيل لأن الإمام لا يتقدم عليه. وبالتالي تكون هذه الفقرة دالة على النهي عن التقدم على قبر المعصوم. لكن الكلام هل النهي تنزيلي، او النهي تحريمي؟ أو إرشاد الى المانعية؟ «فأما الصلاة فإنها خلفه ويجعله الأمام ولا يجوز ان يصلي بين يديه لأنّ الإمام لا يُتقدم» يعني لا يتقدم عليه. ولكن قد يقال: بأن السادة كسيد المستمسك والسيد الخوئي ان النهي في الرواية ظاهر في الكراهة، وذلك بمقتضى قرينية التعليل حيث إن الإمام علل النهي بقوله: «وإن الإمام لا يتقدم» ومن الامور الواضحة لدى المتشرعة أنه يجوز التقدم على الإمام، فلو كان الإمام في الشارع يمشي، فهل يحرم عليه التقدم في المشي؟! ولو كان يريد الامام الوضوء فسبقه أحد الى الوضوء فهل يحرم عليه أن يتقدم على الإمام؟!، ولو كان الإمام يريد ان يأكل فسبقه الى الاكل، فهل يحرم التقدم على الإمام في الاكل؟! إذن فالتعليل بان الامام لا يتقدم عليه هذا التعليل بنفسه على أن النهي نهي تنزيلي، يعني من الادب ان لا تتقدم على الإمام، لأنه قطعاً وبحسب ارتكاز المتشرعة الذي كان حافا بالرواية ان الامام يجوز التقدم عليه. فالنهي نهي تنزيهي، وبالتالي إذا كان النهي نهيا تنزيهيا بالنتيجة لا يستفاد منه اشتراط صحة الصلاة بعدم التقدم على قبر المعصوم. ولكن قد يقال: بأنه بما أن سياق الرواية في مقام بيان عدم الجواز، حيث قال: «هل يجوز ان يتقدم القبر ويجعله خلفه؟ فأجاب، قال: اما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة او فريضة او زيارة بل يضع خده الأيمن على القبر، وأما الصلاة فإنها خلفه ويجعله الأمام ولا يجوز أن يصلي بين يديه». فان مقتضى كون سياق الرواية في مقام بيان الجواز وعدمه، ان يكون سياق الرواية قرينة على التعيين وليس العكس. فسياق الرواية الظاهر بوضوح في الحرمة قرينة على ان المراد بالتعليل في قوله «لأن الإمام لا يتقدم عليه» يعني لأن الإمام لا يتقدم عليه في الصلاة، لان الصلاة متقدما على الإمام المعصوم وهو اثناء الصلاة ممنوعة. وهذا حكم تعبدي لابد أن نلتزم به. ونطبّق على محل الكلام. ذكرنا في بحث الاستصحاب أنه لا يلزم ان يكون التعليل بأمر ارتكازي، حيث تكلموا في بحث الاستصحاب ان قوله «وليس ينبغي ان ينقض اليقين بالشك» قالوا لابد ان يكون التعليل بأمر ارتكازي.

قلنا: لا يشترط ان يكون التعليل بأمر ارتكازي، بل يكفي أن يكون المعلل به كبرى تنطبق على محل الكلام وإن لم يكن امراً ارتكازياً. فالإمام يكون في بيان التعليل وفي مقام تطبيقه. فيقول: بما أن هناك حكما تعبديا وهو ان الإمام لا يتقدم عليه في الصلاة فباعتبار هذه الكبرى في المقام، ليس للمكلف أن يتقدم في صلاته على قبر المعصوم. وبما أن الحرمة في المركبات الاعتبارية ظاهرة في الارشاد الى المانعية إذن مقتضى ذ لك ظهور الرواية في الإرشاد الى المانعية.

الرواية الثانية: رواية هشام بن سالم، المروية في كامل الزيارات المروية عن أبي عبد الله ، في حديث قال: «اتاه رجل فقال له يابن رسول الله هل يزار والدك؟ قال، نعم. ويصلى عنده؟ قال: ويصلى خلفه ولا يتقدم عليه». فيقال بأن هذه الرواية واضحة الدلالة على أنه لا تصح الصلاة متقدما على قبر المعصوم. ولكن الكلام كله في السند، حيث إن في سند هذه الرواية عبد الله ابن عبد الرحمن الأصم، وقد ضعفه النجاشي صريحاً. فإن هذا التضعيف مانع من التعويل على روايته. قال النجاشي: ”عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعي بصري ضعيف غالٍ ليس بشيء، له كتاب المزار، سمعت ممن رآه فقال لي هو تخليط“. وقال ابن الغضائري: ”عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعي ابو محمد ضعف مرتفع القول له كتاب في الزيارات يدل على خبث عظيم ومذهب متهافت، وكان من كذابت أهل البصرة“. فالنتيجة أنه لم تتم هذه الرواية الثاني على الحكم. هذا بالنسبة الى التقدم. وأما بالنسبة الى المساواة: فلا دليل على المنع من المساواة إلا مرسلة الاحتجاج للطبرسي: «لا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره، لأن الإمام لا يتقدم عليه ولا يساوى»، الا ان هذه لضعف سندها لا يمكن الاعتماد عليها. أو يقال بأن الدليل على المنع من المساواة نفس الفقرة التي قرأناها في رواية الحميري: «فأما الصلاة فإنه خلفه ويجعله الأمام» فيقال: بأنه هذه الفقرة تدل على المنع من المساواة، ولكن بقرينة قوله في الذيل: «ويصلي عن يمينه وعن شماله»، تكون هذه الفقرة قرينة على ان قوله «واما الصلاة فإنها خلفه»، يعني لا تكون أمامه، فإنها خلفه، بمعنى عدم التقدم لا بمعنى عدم المحاذاة والمساواة. إذن فلم يقم دليل على المنع من المساواة، لو تم دليل على المنع من التقدم. فإن قلت: فهل ان المساواة امر مكروه؟ ذكر سيد المستمسك «قده» في «ج5، ص466»، قال: ثم إن ظاهر جماعة ممن قال بجواز المحاذاة عدم الكراهة، تجوز بل ليست مكروهة، يقتضيه ما في رواية أبي فضال في وداع ابي الحسن «موسى بن جعفر» لقبر النبي ، فقام الى جانبه يصلي فألزق منكبه الأيسر من القبر قريبة من الأسطوانة المخلقة التي عند رأس النبي . ولو قال قائل بأن هذه الصلاة المحاذية لقبر النبي خاص بالمعصوم. لقلنا، في باب الزيارات ي رواية جعفر بن ناجية: «صلي عند رأس الحسين»، أي أن الصلاة من المستحبات عند رأسه. وفي رواية الثمالي: «ثم تدور من خلفه إلى عند رأس الحسين وصلي عند رأسه ركعتين وإن شئت صليت خلف القبر وعند رأسه افضل». وفي رواية صفوان: «فصلي ركعتين عند الرأس». فلو منع مانع من هذه الروايات وقال بأن هذه الروايات واردة في الصلاة المستحبة، فلعل الصلاة المستحبة خالية من الكراهة بل هي مندوبة عند رأس الحسين ولعل للصلاة عند رأس الحسين خصوصية. فالمهم ان لا دليل على الكراهة، إن لم يقم هناك دليل على عدمها، فلا دليل عليها.

والحمد لله رب العالمين.