درس الفقه | 125

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه لم ينهض دليل على اشتراط صحة الصلاة لعدم التقدم على قبر المعصوم ولكن لو كان التقدم ملازما لعنوان ثانوي محرم كعنوان هتك حرمة المعصوم او عنوان اساءة الأدب مع المعصوم حيث ذهب جملة من الفقهاء ومنهم السيد الإمام «قده» الى انه لا فرق في الحرمة بين الهتك وإساءة الأدب، فكما أن هتك حرمة المؤمن فضلا عن المعصوم فإن اساءة الأدب مع المعصوم حرام، لا فرق بين العنوانين من هذه الجهة. فعلى كل حال اذا لزم من التقدم على قبر المعصوم محرم إما هتك او اساءة ادب فهل تقع الصلاة باطلة ام مجرد حرمة تكليفية، الصحيح: انها مجرد حرمة تكليفية، والسر في ذلك، التركيب بين المحرم وبين الصلاة تركيب انضمامي وليس تركيبا اتحادياً، فالصلاة من مقولة الكيف كركوعها وسجودها، او من منقولة الوضع والفعل حيث إن التكبير والقراءة والأذكار من مقولة الفعل. وهيئة الركوع والسجود من مقولة الوضع. بينما التقدم اي كونه في مكان متقدم على مكان قبر المعصوم من مقولة الأين، وبما ان التركيب بين المقولات إنضمامي وليس اتحادياً، إذ إن تباين المقولات بتمام الذات والذاتيات يمنع من اجتماعهما من وجود واحد فلا محالة هناك وجودان وان انضم احدهما للآخر، فما هو مصب الأمر وجود وما هو مصب النهي وجود آخر، فلا يوجب فساد صلاته. فعلى مبنى السيد الخوئي «قده» من أن التركيب الانضمامي في مورد اجتماع الامر والنهي لا يمنع من صحة الصلاة تكون الصلاة صحيحة.

ويقع الكلام في اعتبار تقدم الرجل على المرأة حال صلاتهما.

وفي المسألة أقوال:

القول الاول: مسلك القدماء. من عدم جواز محاذاة المرأة للرجل حال الصلاة، وعدم جواز تقدم المرأة على الرجل حال الصلاة ما لم يفصل بعشرة أذرع.

القول الثاني: عدم الجواز مطلقا. على كراهة، كما هو المعروف بين الفقهاء المتأخرين.

القول الثالث: عدم الجواز إلا بفصل شبر. وهذا ما اختاره سيدنا الخوئي «قده».

القول الرابع: الجواز مع الفصل بذراع. ومنشأ اختلاف الأقوال اختلاف الروايات. فنقول: بأن الروايات الواردة في المقام على ثلاث طوائف.

«طائفة: مجوزة مطلقا. وطائفة: مانعة مطلقاً. وطائفة: مفصّلة بالشبر وبعشرة اذرع وبذراع».

أما الطائفة الاولى: وهي ما دلَّ على الجواز مطلقا. وهي عدة روايات:

الرواية الاولى: ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن علي فضال عمّن أخبره عن جميل ابن دراج، عن ابي عبد الله : «في الرجل يصلي والمرأة تصلي بحذائه؟ قال لا بأس».

وهذه الرواية تامّة الدلالة على جواز المحاذاة بإطلاقها، الا ان الكلام في الإرسال. فقد يدعى بأن عمل المشهور جابر والحال ان مشهور القدماء ذهب الى الجمع لا الى الجواز، فكيف يدعى أن عمل المشهور جابر حتى لو سلمنا بكبرى الجابرية.

ولكن الشيخ الأعظم «قده» أفاد بأن جميع الروايات المرسلة او الضعيفة من قبل ابن فضال، يعني بحيث يكون الإرسال او الضعف بعده وليس قبله، جميع الروايات المرسلة او الضعيفة من قبل ابن فضال يصح العمل بها. وذلك لما ورد عن العسكري في كتب ابن فضال، «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا».

حيث إنهم كانوا فطحية، وإضافة الى انهم فطحية فهم بقوا على قولهم أن عبد الله في ظرفه كان إماماً، بل مالوا الى القول بإمامة جعفر مع وجود الإمام العسكري وقالوا بجواز ان يكون هناك إمامان في وقت واحد كما كان الحسن والحسين. إذن ما رأوا مرفوض، لكن الكلام فيما رووا.

فبناء على هذا الكلام: ذكر الشيخ «قده» في بحث صلاة الجماعة أن هذه الرواية تامة سنداً، فإنها وإن كانت مرسلة إلا ان الإرسال جاء من ابن فضال فالرواية تشملها.

ولكن سيدنا الخوئي «قده» «ج13، ص107» قال: بأن نفس رواية «خذوا ما رووا» ضعيفة، لان الشيخ في الغيبة رواها عن عبد الله الكوفي خادم الحسين بن روح، هذا الخادم قال سئل الشيخ يعني «ابي القاسم الحسين بن روح» عن كتب ابن ابي العذاقر، يعني الشلمغاني، فهو كان من كبار فقهاء الشيعة فاردت وانحرف، فصدرت اللعنة فيه من الجانب المقدس، وكانت كتبه رسالة عملية يعمل الشيعة بها. لذلك ورد السؤال الى الحسين بن روح، كيف نعمل والحال بأن الرجل انحرف وارتد وكتبه عندنا.

«سئل الشيخ «ابا القاسم» عن كتب أبن ابين العزاقر الشلمغاني بعد ما ذم وخرجت فيه اللعنة فقيل له كيف نعمل بكتبه وبيوتنا منه ملاء؟ فقال: اقول فيها ما قال فيها ابو محمد الحسن بن علي وقد سئل عن كتب بني فضال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منهم ملاء، فقال : خذوا منها ما رووا وذروا ما رأوا».

السيد الخوئي يقول الراوي نفسه هو الخادم والخادم لا توثيق له في كتب الرجال حتى نأخذ برواياته.

ولكن جملة من تلامذة السيد الخوئي لم يقبلوا هذا الإشكال، وقالوا: ليس وجه قبول الرواية أن الخادم رواها، بل هذه من القضايا المشهورة، لان قضية ابن ابي العزاقر هزت عالم الشيعة في ظرفها، كيف يكون من هو من كبار الفقهاء مرتدا منحرفاً؟ فأوجب هزة للشيعة وضجة لذلك رجعوا للحسين بن روح لمعرفة هذه الضجة وسألوه عن الكتب وكان هذا الأمر مشهوراً. فالشيخ في كتاب الغيبة وان اسند الى الخادم الا ان القضية كانت مشهورة وامتدت شهرتها الى زمان كتابة الشيخ لكتاب الغيبة. ولو بمقتضى العادة أن تبقى هذه القضية معروفة مشهورة إلى زمان الشيخ «قد»، فمن ثبت عنده ان القضية كانت مشهورة شهرة إثبات وإسناد، فنعم.

الإشكال الثاني: مع التسليم بتمامية الرواية، اما هذه الرواية لا تدل على توثيق الكتب، وإنما على توثيق الراوي، تريد ان تقول الرواية: ان ابن فضال ثقات لا يضر في وثاقتهم انحرافهم فقط. لا أن كتبهم موثقة، فيؤخذ بما يروونه ولو كان مرسلا ضعيف السند.

فهل هذا ما يستظهر من الرواية؟.

يقول السيد الخوئي لو كانت هذه الرواية تأمر بالأخذ برواياتهم مطلقا لكانوا أحسن حالا حتى من علية الرواية كزرارة ومحمد بن مسلم، بل كان حال انحرافهم احسن من حال استقامتهم، يعني لو كانوا مستقيمين لم يؤخذ بروايتهم الضعيفة، أما لما انحرفوا يؤخذ برواياتهم. فهذا غير محتمل. إذن لا دلالة في هذه الرواية على اكثر من توثيق اللسان.

لكن، أقول: السؤال كان الكتب، وليس السؤال عن بني فضال «كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال خذوا منها بما رووا وذروا ما رأوا» ظاهر الرواية انها ناظرة الى الكتب، ان ما في كتبهم يصح العمل به وان كانوا فاسدي العقيدة، وحيث إن هذه الرواية من كتبهم وإن كان فيها شائبة الإرسال، فمقتضى قوله «خذوا منها بما رووا» ان يؤخذ، فمقتضى ذلك كلام الشيخ الأعظم تام. فعلى مبنى السيد الخوئي المسألة تامة، فالرواية قالت «خذوا منها» يعني من كتبهم بما رووا. فهل هذه الرواية وهي رواية «جواز محاذاة المرأة» من كتبهم. فالشيخ في التهذيب اسندها للحسن بن علي، وظاهر أنه من بدأ الشيخ باسمه في التهذيبين أنه اخذه من كتابه. فعلى مبنى السيد الخوئي المسألة تامة. بناء على تمامية سند الرواية المذكورة في الغيبة، حيث إن مفادها الأخذ بكتبهم، ومن كتبهم ما رواه في التهذيبين من جواز محاذاة المرأة للرجل باعتبار، ان الشيخ بدأ في التهذيب بالحسن، وظاهر من بدأ بالتهذيب به أن الرواية مأخوذة من كتابه، فعلى مبنى السيد الخوئي المبنى تام.

الرواية الثانية: صحيحة جميل، عن ابي عبد الله قال: «لا بأس أن تصلي المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي، فإن النبي كان يصلي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض، وكان اذا اراد ان يسجد غمز رجليها فرفعت رجليها حتى يسجد». الكلام في هذه الرواية من عدة جهات:

الجهة الأولى: في سند الرواية، فهنا لم يتعرض السيد الخوئي في هذا الموضع لكنه تعرض له في موضع آخر في «ص88» من نفس الكتاب.

الإشكال فيه: أن هذه الرواية رواها الشيخ الصدوق في الفقيه عن جميل بن دراج وحده، فإذا اردنا ان نتعرف على طريق الصدوق لجميل بن دراج ورجعنا الى مشيخة الفقيه لنعرف طريق الصدوق الى بن دراج، وجدنا أن الصدوق ما عنده طريق الى بن دراج وحده، فإن جميل ابن دراج له ثلاثة كتب، كتب كتبها مع محمد بن حمران، وكتب كتبها مع مرازم بن حكيم، وكتب كتبها وحدها، ولكل واحد من هذه الكتب طريق مستقل، فالشيخ الصدوق في المشيخة ما تعرض لطريقه لما كتبه جميل وحده، وإنما ذكر في المشيخة طريقه لما كتبه جميل ومحمد بن حمران معاً، بينما في الفقيه نقل الرواية عن جميل وحده. فكيف نصحح ما رواه جميل وحده بالطريق المذكور في المشيخة مع أنه طريق لما كتبه ومحمد بن حمران، لذلك السيد الخوئي توقف في سند الرواية فيما مضى.

فإن قلت: ان كتاب جميل كان مشهورا، وشهرته تغني عن البحث عن طريق صحيح اليه، والشاهد على أنه مشهور أن النجاشي قال: «رواه جماعات من أصحابنا»، ومقتضى ذلك ان كتاب جميل كان مشهوراً واذا كان مشهورا اغنت شهرته عن البحث عن سند إليه. والشيخ الصدوق قال في مقدمة «الفقيه»: ان ما نقله في الفقيه إنما نقله من كتب مشهورة عليها المعوّل.

فما هو الإشكال في ذلك حينئذ؟

الجواب: الإشكال هو إن الصدوق لم يصرح في مشيخته ان من بدأ باسمه فقد أخذ الرواية من كتابه، كما صرح بذلك الشيخ الطوسي في مشيخة التهذيبين. وبالتالي لعل الصدوق اخذها من كتاب جميل ولعله أخذها من كتاب آخر، فإن كان قد أخذها من كتاب آخر فما هو طريقه الصحيح الى جميل؟ وإن أخذ الرواية من كتاب صحيح إلا أن الكلام في وجود طريق جديد الى جميل.

الإشكال الثاني: لو تم سند الرواية، فهذا الذيل: «فإن النبي كان يصلي وعائشة» هل هو موجود في الرواية أم لا؟

يشهد لعدمه أن جميل نفسه في التهذيب والاستبصار نقلت عنه الرواية بدون «فإن النبي»، بل إن هذا الذيل رواه علي بن الحسن بن رباط رواية مستقلة، وليست ذيلا لرواية أخرى «إن النبي كان يصلي وعائشة مضطجعة بين يديه»، فلعل تذييل تلك الرواية بهذا الذيل من باب الدمج من بين الروايتين، وهذا غير عزيز من الصدوق إن لم يكن من رواة آخرين. فإذن بالنتيجة: لم يثبت هذا الذيل في الرواية. فلا يستفاد من هذه الرواية جواز التقدم بل غايتها جواز المحاذاة، لأن الذيل الذي يثبت صحة الصلاة مع تقدم المرأة لم يثبت أنه من جملة الرواية. فحيث لم يثبت ان الذيل من جملة الرواية غاية دلالة الرواية على جواز المحاذاة. او يقال: بل لم يثبت دلالتها على جواز المحاذاة فإن هذا يقتضي التعارض بين الروايتين، اي ما رواه الصدوق عن جميل وما رواه الشيخ عن جميل، فيتعارض النقلان، فإن الصدوق نقل الرواية مشتملة على الذيل والشيخ نقل الرواية بدون اشتمال على الذيل وحينئذ فلم نحرز وجود هذا الذيل في الرواية.

والكلام في الإشكال الثالث وهو: بناء على ثبوت هذا الذيل في الرواية قيل باضطراب المتن، لأنه يصح تعليل جواز المحاذاة في الصلاة بنوم عائشة بين يدين النبي، فإنه لا يستشكل بوجود امرأة لا تصلي. بل المانع من صحة صلاة الرجل محاذاة المرأة وهي تصلي، او تقدم المرأة وهي تصلي، اما مجرد كونها موجودة محاذية له او بين يديه فلم يستشكل احد بذلك. فتعليل الإمام جواز محاذاة المرأة المصلية للرجل بكون عائشة نائمة بين يدي النبي وهو يصلي غير مستلزم لعدم الانسجام بين التعليل والمعلل. فهذا يقتضي اضطراب المتن.

وقد ذكر هنا أجوبة عن هذا الإشكال لدفع الاضطرار:

الجواب الأول: ما نقله في الحدائق عن الوافي: أن هنا تصحيف في الرواية، وأن الصواب هو: «لا بأس ان تضطجع المرأة بحذاء الرجل وهو يصلي، فإن النبي...».

جميع نسخ الفقيه روتها «تصلي» وكذا رواه الشيخ في التهذيب «تصلي» وكذلك في الاستبصار. أما القول أنها مصحفة بلا شاهد.

الجواب الثاني: ما ذكره السيد الخوئي «ص108» قال: بناء على المشهور بين المتأخرين بناء على الكراهة.

فيقال: بان تقدم المرأة على الرجل في الصلاة إنما يكون مانعا تنزيهيا لا لأجل الصلاة، إن المانع من تقدم المرأة على الرجل انما هو في نفس وجود المرأة لا في صلاتها، وبما ان المانع في وجودها أراد الإمام أن يدفع هذا المانع، بأن وجودها لا يمنع، فإن النبي كان يصلي وعائشة مضطجعة بين يديه وهي حائض.

ولكن، يلاحظ عليه: ان مجموع روايات الباب الى ان مصب المانعية هو الصلاة، فدعوى ان مصب المانعية هو الصلاة، فدعوى أن مصب المانعية هي المرأة فقط لأجل أن نوجد انسجاماً بين التعليل والمعلل محاولة غير ناجحة.

الجواب الثالث: ما ذكره السيد الخوئي، وكيف ما كان فغاية الذيل تشويش الصحيحة وهو غير ضائر بالتبعيض في الحجة. أي مانع ان نقول الصدر يبقى على حجيته وإن كان الذيل غير حجة لأنه مجمل إذ لا نرى انسجاماً بينه وبين الصلاة.

فهل التبعيض في الحجية هنا عرفي؟ فنقول: اذا كانت الرواية مشتملة على فقرتين مستقلتين في المفاد فالتبعيض في الحجية وفق الصناعة، أما اذا كانت العلاقة بين الفقرتين علاقة تعليل ومعلل، فالتبعيض في الحجية بأن يبقى المعلل على الحجية دون التعليل غير عرفي، إذن فالصحيح ان تقولوا: لم يثبت التعليل لما ذكرناه في الجهة الثانية. باعتبار انه رواه الشيخ عن جميل بدون هذا التعليل. وقد تبين من هذه الرواية ان هناك اشكال في سندها.

الرواية الثالثة: صحيحة الفضيل عن أبي جعفر : «إنما سميت مكة ب «بكة» لأنه تبك فيها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك ومعك ولا بأس في ذلك، وإنما يكره في سائر البلدان».

ذكر السيد الخوئي: بان وجه الاستدلال بهذه الصحيحة على جواز محاذاة المرأة للرجل بل جواز تقدمها انه لا يحتمل التفصيل بين مكة وغيرها، فإذا جاز في مكة جاز في غيرها.

ولكن هذا الاستدلال محل تأمل، لأن المفروض انه عقّب وقال «وإنما يكره في سائر البلدان» يعني ان لمكة خصوصية. فحينئذ إما ان يراد بالكراهة في قوله «ويكره في سائر البلدان» إما أن يراد بالكراهة الكراهة الاصطلاحية، فإذن نفس هذه الفقرة دالة على الجواز، ولا نحتاج الى القول بعدم الفصل، يكفينا انه قال «وإنما يكره في سائر البلدان» يعني ان المحاذاة والتقدم جائز ولكنه مكروه، فبنفس هذه الفقرة نستدل على الجواز، ولا نحتاج الى القول بالفصل.

وأما اذا كانت كلمة «يكره» ليست ظاهرة في الكراهة الاصطلاحية، فمع تعقيب الجواز في مكة بالكراهة في سائر البلدان كيف يقال بعدم القول بالفصل، فالنتيجة لم يتم عندنا دليل على جواز المحاذاة فضلا عن التقدم مطلقاً.

والحمد لله رب العالمين.