درس الأصول | 115

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا أن هناك صور أربع وقع الكلام في وجوب التعلم لأجلها.

الصورة الاولى: ما اذا لزم من ترك التعلم العجز عن الإتيان بالواجب في ظرفه، كما لو فرضنا ان صلاة الآيات قبل حدوث سببها مجهولة لدى المكلف، ولكن شخص المكلف انه إذا لم يتعلم صلاة الآيات قبل حدوث سببها لن يتمكن من الإتيان بها فر ظرفها. فهل يجب عليه التعلم أم لا؟ وسبق ان ذكرنا بعض الوجوه عن صاحب الكفاية «قده».

ونذكر الآن وجهين لوجوب التعلم:

الوجه الاول: يبتني على القول بوجوب المقدمة المفوتة، كما بحث في باب مقدمة الواجب. وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الاولى: إن الدليل الدال على الواجب لم يقيد بالقدرة حيث قال: تجب صلاة الآيات، ولم يقل تجب إن كنت قادرا، وكل دليل لم يقيد بالقدرة فإنه دال بالدلالة الالتزامية على ان ملاكه فعلي حتى في فرض العجز. مثلا: اذا قال المولى يحرم الغصب، فإنه دالٌّ بالدلالة الالتزامية على أن ملاكه فعلي حتى في فرض العجز. مثلا: إذا قال المولى يحرم الغصب. فإنه دال بالدلالة الإلتزامية على أن مفسدة الغصب قائمة حتى في فرض العجز. فإن الغصب ذو مفسدة، قدر المكلف عليه او لم يقدر، ولذلك التزم الفقهاء بأنه يحرم الاكراه على الغصب، مع ان المكلف لو اكره على الغصب صار الغصب في حقه حلالا لانه مكره، مع ذلك يحرم على المكره الاكراه، وما ذلك إلا لأن في الغصب مفسدة حتى في فرض عدم القدرة على اجتنابه، فالمكلف لو وقع في الغصب مكره فقد وقع فيما فيه مفسدة كان الإكراه محرماً. إذن هذا دليل على أن التكليف الذي لم يشترط بالقدرة دال بالدلالة الإلتزامية على ثبوت الملاك حتى في ظرف العجز، فهو دال بالدلالة المطابقية على التكليف المشروط، يعني على حرمة الغصب إن تحقق موضوعه، ودال بالدلالة الالتزامية على ان الملاك مطلق على أية حال.

ومنه محل كلامنا. اي الواجب المشروط قبل حصول شرطه، فان قول المولى يجب صلاة الآيات قبل حدوث الآية دال بالدلالة المطابقية على الوجوب المعلق، وبالدلالة الالتزامية على ان ملاك صلاة الايات ثابت قدر المكلف على الصلاة ام لم يقدر.

المقدمة الثانية: حيث ثبت أن في صلاة الآيات ملاكا لزومياً للمولى، إذن بالنتيجة لو شخص المكلف انه لو ترك التعلم الآن لعجز عن تحصيل الملاك الملزم في ظرفه، اذن يجب عليه التعلم لا من باب مقدمة الواجب لان الواجب ما صار واجبا، يجب عليه التعلم من باب قبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، لانه لو ترك التعلم الآن لترتب على ترك التعلم فوت ملاك ملزم في ظرفه، فوجوب التعلم لمبغو لمبغوضية او لقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، هذا مبني على القول بوجوب المقدمة المفوتة. فمن قال هنا كالسيد الخوئي وتلميذه السيد الشهيد بوجوب المقدمة المفوتة وانه كما ان للمولى على العبد حق الطاعة في تكاليفه للمولى على العبد حق حفظ ملاكاته اللزومية، فلا فرق بين تكاليفه وملاكاته، في لزوم الحفظ والرعاية، بل ان التكاليف مجرد طريق للملاكات، فإذا لزم رعاية التكاليف لزم حفظ الملاكات. إذن يجب التعلم هناك كسائر المقدمات المفوتة. وأما على القول بعد وجوب المقدمات المفوتة كما هو مسلك سيد المنتقى والسيد الاستاذ «دام ظله» فانه لا يترتب عليه ذلك، حيث ان مبنى هذين العلمين ان هناك وظيفة للعبد ووظيفة للمولى، فوظيفة المولى: ان يجعل ملاكاته في إطار تكاليفه، فكل ملاك يراه مهما لديه وظيفته كمولى ومقنن ان يجعل ملاكاته ضمن تكاليفه، واما العبد فليس وظيفته إلا امتثال التكاليف لا شيء آخر. فلا يجب عليه عقلا وراء التكاليف أمر آخر، ذاك واجب المولى ان يجعل الملاكات ضمن التكاليف، فكل ملاك لم يجعل ضمن التكليف لا يجب على العبد تحصيله، اذ لو كان تحصيله مهما لجعله المولى ضمن تكليفه، فعلى هذا المبنى وهو إنكار وجوب المقدمات المفوتة: لا يجب على العبد هنا التعلم.

الوجه الثاني: أن يقال بأن وجوب التعلم في المقام لمدلول التزامي لأدلة وجوب التعلم، بيان ذلك: أننا اذا نظرنا الى ادلة وجوب التعلم «طلب العلم فريضة» او: «هلا تعلمت حتى تعمل»، نراها مطلقة، يعني شاملة حتى للواجبات المشروطة التي لم تعد فعلية لعدم فعلية شرطها. فمثلا وجوب صلاة الآيات ليس فعليا الآن لعدم حدوث الزلزلة الآن، لكن هل يشمله وجوب التعلم؟ نقول: نعم، مقتضى إطلاق أدلة وجوب التعلم أنه يجب على المكلف الأحكام ولو لم تكن فعلية عند فعلية شرطها. ويترتب على هذا الاطلاق ان الجهل بالواجبات ليس دخيلا في ملاكها، اذ لو كان التعلم دخيلا في ملاك هذه الواجبات لقيد، بينما المولى اطلق وجوب التعلم، فهذا معناه ان الواجبات ذات ملاك ولو لم تتعلمها. الجهل ليس مانعا من الملاك والتعلم ليس شرطا في الملاك، فاذا استفدنا من المدلول الإلتزامي لأدلة التعلم أن الملاك فعلي على كل حال تعلمت ام لم تتعلم، إذن بالنتيجة يجب التعلم لا من باب وجوب المقدمات المفوّتة حتى يبتني على ذلك القول، بل لخصوصية في التعلم وهو انه قام مدلول التزامي في أدلة وجوب التعلم على ان الملاك فعلي حتى في حق الجاهل فيجب على العبد تحصيل هذا الملاك الذي هو فعلي في حقه وان لم يتعلم. نعم، لو قام الدليل على ان التعلم شرط في الوجوب، لا وجوب الا في التعلم، كما في وجوب الجهر والاخفات، لا يجب الجهر او الاخفات في حق من علم، فالتعلم حينئذ ليس بواجب، لأن التعلم حينئذ يصبح تحصيل لشرط الوجوب، وتحصيل شرط الوجوب ليس بواجب، اما اذا لم يقم دليل خاص على دخل التعلم في الوجوب فنفس أدلة التعلم بمدلولها الإلتزامي تكشف عن ان ملاك هذه الواجبات فعلي وان لم تتعلم، فيجب تحصيل هذا الملاك الخاص الذي قامت عليه نفس أدلة وجوب التعلم.

فإن قلت: بناء على كلامكم لا نجد مثالاً لأن المكلف إذا ترك التعلم عجز عن تحصيل الملاك في ظرفه. اي لم نجد مثالا لذلك في الاحكام، وانما نجد مثالا لذلك في متعلقات الاحكام لا في نفس الاحكام. بمعنى: أن المتعلق للحكم، كالقراءة مثلاً، خصوصاً على اللسان الغير عربي. فتعلم القراءة باللسان العربي صعب عليه، فلو لم يتعلم العربية قبل وقت الصلاة لم يأتي بالقراءة في الصلاة باللسان العربي، يعني لا يوجد مثال لهذا البحث وهو ان ترك التعلم عجز عن امتثال او الواجب في ظرفه وعن تحصيل الملاك اللزومي في ظرفه، لا نجد صغرى ومثالا لذلك إلا تعلم المتعلقات لا تعلم نفس الأحكام، بمعنى انه لا يقدر على القراءة العربية لو لم يتعلم، فهذا لا يدل على وجوب تعلم الاحكام، او فقل لا تشمله أدلة وجوب تعلم الاحكام، لأن هذا ليس من الاحكام وإنما هو من المتعلقات. الجواب عن ذلك: انه لا يدل ذلك: أولاً: لا يتوقف ذلك فقط في المتعلقات، بل حتى في تفاصيل كيفيات الواجبات، يعني الواجب الذي تكون كيفيته ذات تفاصيل كثيرة كصلاة الآيات، أو صلاة جعفر الطيّار. اذا كان الواجب تفاصيله كثيرة عادة اذا لم يتعلمه يعجز عنه، عادة اذا لم يتعلمه لا يجب تحصيل ملاكه، ولا يختص ذلك بالمتعلقات بل يشمل حتى الواجبات ذات التفاصيل الكثيرة. ثانياً: لو سلمنا معكم انه لا مثال لهذا البحث الذي نبحث فيه ألا في متعلقات الاحكام لا في نفس الاحكام، ادلة وجوب التعلم تشمل أيضاً متعلقات الاحكام لا تختص بالأحكام، لأنّ ظاهر أدلة وجوب التعلم تعلم ما كان معتبرا شرعاً، فكل ما هو معتبر من جهة الشارع فانه يلزم تعلمه سواء كان حكما او كان متعلقاً لحكم كالقراءة والأذكار المعتبرة في الصلاة. فالنتيجة والنكتة في هذا الباب، وهو: من لم يتعلم لم يمكنه الاتيان في الواجب المشروط في ظرفه، النكتة في وجوب التعلم إما وجوب المقدمات المفوتة، وإما فعلية المدلول الإلتزامي لأدلة وجوب التعلم في حقه. هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثانية: من لم يتعلم غفل عن الواجب في ظرفه، اذا لم يتعلم الآن يغفل عن الواجب في ظرفه نهائيا، كما لو فرضنا انه اذا لم يتعلم احكام صلاة الفطرة يغفل عن هذا الواجب في ظرفه، فهل يجب عليه التعلم ام لا؟ البحث هنا يبتني على البحث في أن التكاليف تشمل الغافل ام لا تشمل؟ حيث ذهب سيدنا الخوئي «قده» تبعاً لشيخه النائيني: الى ان التكليف لا يشمل الغافل، إما لعدم المقتضي أو لوجود المانع، أما ان نقول التكليف عبارة عن البعث بداعي المحركية ولا يتصور المحركية الفعلية في حق الغافل، إذن ليس التكليف فعليا في حقه. هذا من باب فقط المقتضي. وأما لوجود المانع كما هو رأي سيدنا الخوئي، من ان التكليف مجرد اعتبار، اعتبار الفعل على ذمة المكلف. فيتصور في حق الغافل لكن في وجود المانع وهو حديث الرفع، حيث قال: «رفع عن أمتي النسيان» وظاهر الرفع انه رفع واقعي، وحيث لا خصوصية للنسيان مقابل الغفلة، اذن التكليف في حق الغافل مرتفع واقعاً. ولكن مسلك السيد الشهيد والسيد الأستاذ «دام ظله»: ان التكليف يشمل الغافل، لا من باب عدم المتقضي ولا من باب وجود المانع. وبيان ذلك: أن المقوم للتكليف المحركية التعليقية لا المحركية الفعلية، اي ان التكليف عبارة عن البعث بداعي المحركية على فرض الوصول، هذا هو التكليف، وهذه المحركية التعليقية تشمل الغافل والناسي، فإن هذا الغافل والناسي لو وصل اليه التكليف لكان محركاً له. إذن فالتكليف فعلي في حقه، لأن المحركية التعليقية متصورة في حقه، إلا في العاجز، فإنه حتى لو وصل اليه التكليف لا يمكنه امتثاله. ففرق بين الغافل والعاجز. وأما ارتفاع المانع: فهو مبني على أن مفاد حديث الرفع، الرفع الواقعي، أما اذا قلنا بأن مفاد حديث الرفع رفع المؤاخذة «رفع عن امتي ما لا يعلمون والخطأ والنسيان وما اضطروا اليه و...» يعني لا مؤاخذة ولا تبعة، لا أن التكليف مرتفع واقعاً. ودعوى ان تكليف الغافل لغو اول الكلام، فان لفعلية التكليف في حق الغافل آثار، منها وجوب القضاء بعد ذلك، منها انه يجب عليه التعلم قبل حصول الوقت، لا ان التكليف في حق الغافل لغو، بل له آثار. فالنتيجة: إن قلنا بان التكليف فعلي في حق الغافل اذن فحينئذ بما ان التكليف فعلي في حق الغافل فهذا الشخص يقول إن لم اتعلم الآن غفلت عن الواجب في ظرفه، الا الغفلة لم ترفع عنّي فعلية التكليف في ظرفه، إذن إن لم اتعلم الآن سوف يكون عدم التعليم تعجيزا اختياريا مني على امتثال الواجب الفعلي في ظرفه، واذا حكم العقل بحق الطاعة للمولى، او حكم العقل بأن للمولى حق حفظ ملاكاته اللزومية من باب أولى ان يحكم العقل بأن للمولى على العبد أن لا يعجز نفسه عن امتثال تكاليفه الفعلية في ظرفها ووقتها. وأما اذا قلنا كما قال السيد الخوئي لا فعلية للتكليف في حق العاجز، إذن تدخل هذه الصورة في الصورة الأولى وهي بحث المقدمات المفوتة.

الصورة الثالثة: ان يترتب على ترك التعلم عدم احراز الامتثال، لا العجز عن الامتثال ولا التعجيز عن الامتثال، وإنما عدم الإحراز، وقد يمتثل لكن لا يحرز انه امتثل. مثلا: شخص يريد ان يذهب الى الحج الواجب، فيقول لا استطيع ان احتاط في كل عمل من أعمال الحج لقصر المدة وتعدد المحتملات، وقد يكون الاحتياط مني على خلاف الاحتياط لجهل منّي بملاكات الشارع. فأنا قبل الحج لو لم اتعلم احكام الحج لا يلزم من ترك التعلم العجز، بل أقدر على الامتثال. ولا يلزم من ترك التعلم الغفلة، بل سأبقى ملتفتا الى أيام الحج، لكن يترتب على ترك التعلم انني في كل منسك اشك، هل احرزت الامتثال ام لا؟

لعلي استطيع الامتثال في ظرفه لكن لا استطيع انني امتثلت، اي لا استطيع الفراغ اليقيني، فهل يجب علي التعلم الآن من أجل إحراز الامتثال في ظرفه؟

هنا اتفق الكل على وجوب التعلم، حتى لم لا يرى وجوب المقدمات المفوتة، حتى من يرى أن التكليف ليس فعليا في حق الغافل ففي هذه الصورة الثالثة قال يجب التعلم، لان المفروض ان الواجب فعلي في ظرفه تعلمت ام لم تتعلم، والمفروض ان عدم تعلمك لا يؤدي الى العجز فسوف تبقى قادراً حتى مع الجهل، وقادر على الامتثال حتى مع الجهل حتى عن طريق الصدفة. غايته انه لا تحرز الامتثال، وحينئذ مقتضى حق الطاعة ومقتضى لزوم دفع الضرر المحتمل: لزوم احراز الامتثال للتكاليف، فمتى ما دخل الوقت جاءت قاعدة الاشتغال، الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، وانت كان يمكنك الفراغ اليقيني بأن تتعلم قبل الوقت، لكنك أهملك ذلك حتى دخل الوقت، فقلت للمولى اشتغلت ذمتي يقينا اما لا اقدر ان امتثل الفراغ اليقيني. فتركك للفراغ اليقيني عن تعجيز وتقصير منك لا يرفع القبح العقلي في حقك، فمقتضى الاشتغال اليقيني الفراغ اليقيني وإن تفصيت عن الفراغ اليقيني

والحمد لله رب العالمين.