درس الأصول | 116

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الصورة الرابعة: أن يحتمل المكلّف الابتلاء بموضوع تكليف لو لم يتعلم حكمه الآن وصادف انه ابتلي به فإن عدم التعلم مفوت للامتثال أو مانع من احراز الامتثال. كما لو فرضنا ان المكلف لا يعلم بأنه ستقع الآية الموجبة لصلاة الآيات، أو لا يعلم بأنه سيبتلي بالأنصبة الزكوية، ولكنه يحتمل ذلك، أي يحتمل انه في المستقبل يبتلى بالآية، أو يبتلى بالأنصبة الزكوية ولو لم يتعلم احكامها الآن وصادف ان ابتلي بها فإن عدم التعلم إما مفوت للامتثال فيها؟ أو انه مانع من احراز الامتثال.

ففي مثل هذه الموارد هل يشمله دليل وجوب التعلم أم لا؟

وهنا فرضان:

الفرض الاول: أن يعلم المكلف ببقاء شكه إلى المستقبل، فكما انه يشك الآن في انه هل سيبتلي بصلاة الآيات مستقبلا أم لا؟ فإنه يعلم ان شكه لن يرتفع أي سيبقى شاكا في فعلية أو صلاة الآيات الى سنة، فإذا علم ببقاء شكه الى مدة سنة أو اكثر فلا اشكال حينئذ في أنه يجري في حقه استصحاب عدم الابتلاء، لانه الآن شاك، هل سيبتلى بموضوع صلاة الآيات أم لا؟ فبما انه الآن متيقن بعدم الابتلاء ولا يوجد موضوع لصلاة الآيات، انما هل سيبتلي بها مستقبلا أم لا؟ إذن يستصحب عدم الابتلاء بالآية أي يستصحب عدم حلول الآية لمدة سنة أو أكثر من ذلك. وعلى فرض أنه لم يجري الاستصحاب في حقه للمنع من الاستصحاب الاستقبالي مثلا، فلا اقل من جريان البراءة، فإنه في كل ظرف يحتمل فيه حصول الآية يجري البراءة عن وجوب صلاة الآيات، فهذا الفرض مما لا اشكال فيه.

الفرض الثاني: أن المكلف وان كان شاكاً الآن في أنه هل سيبتلي بصلاة الآيات في المستقبل أم لا؟ الا انه يحتمل زوال شكه، لا انه يعلم ببقاء شكه الى المستقبل كما قلنا في الفرض الأول، بل يحتمل ان شكه سيتبدل بالعلم بفعلية صلاة الآيات، أو سيتبدل بالعلم بعدم فعليتها، على اية حال لا يوجد علم ببقاء شكه، فهو يحتمل الابتلاء بصلاة الآيات مستقبلا ويحتمل زوال شكله، فهل يجري في حقه استصحاب عدم الابتلاء كما ذهب اليه المحقق العراقي والسيد الاستاذ «دام ظله» أم لا؟

بلحاظ ان دليل وجوب التعلم عند هذين العلمين مجرد إرشاد الى حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض عدم التعلم مع الابتلاء بمخالفة التكليف الواقعي، فبما ان مفاد دليل التعلم مجرد الارشاد الى حكم العقل، فمن الواضح ان لا حكم للعقل باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي الذي لم يتعلم حكمه مع الإمكان، لا حكم للعقل مع قيام حجة شرعية مؤمنة، واستصحاب عدم الابتلاء حجة شرعية، فإن هذا المكلف الذي يحتمل الابتلاء بصلاة الآيات ويحتمل العدم، ويحتمل ان شكه سيبقى الى سنة، ويحتمل ان يزول شكه، بالنتيجة يجري استصحاب عدم الابتلاء بآية، عدم الابتلاء بموضوع صلاة الآيات، والاستصحاب حجة شرعية مؤمنة فيرتفع حكم العقل باستحقاق العقوبة ان صادف مخالفة التكلف الواقعي الذي لم يتعلم حكمه مع تمكنه منه.

فما ذكره العلمان من الاستصحاب هل هو جاري أو لا؟

وهنا عدة أجوبة على جريان الاستصحاب:

الجواب الأول: ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في «مصباح الاصول» من ان في البين يوجد علم اجمالي بالابتلاء ولو على نحو تدريجي، وهذا العلم الاجمالي بالابتلاء مانع من جريان الاستصحاب. بيان ذلك: ان المكلف وإن لم يعلم بالابتلاء بصلاة الآيات وحدها، ولكنه يعلم اجمالا انه سيبتلي اما بصلاة الجنازة وهو لا يعرف حكمه، واما بالانصبة الزكوية وهو لا يعرف حكمها، وإما بصلاة الآيات. فإن كان بالنسبة لصلاة الآيات مجرد احتمال فهناك علم اجمالي بمجموعة من الاشياء ولو على نحو العلم الإجمالي التدريجي، بمعنى انني اعلم بصلاة الجنازة اليوم أو بصلاة الآيات بعد شهر، أو بصلاة الجنازة اليوم أو بالانصبة الزكوية بعد سنة، على اية حال يوجد عندي علم اجمالي، وجريان استصحاب عدم الابتلاء في جميع اطراف العلم الاجمالي ترخيص في المخالفة القطعية لما هو المعلوم بالإجمال، وجريان الاستصحاب في بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، فمقتضى العلم الاجمالي بالابتلاء في هذه الخمسة أو الاربعة مواضع هو وجوب التعلم لعدم جريان الاستصحاب لعدم الابتلاء فيها.

ولكن ما افاده «قده» محل تأمل من جهتين:

الجهة الاولى: أن هذا العلم الإجمالي قد ينحل اما بعلم تفصيلي كما لو ابتلى بصلاة الجنازة بالفعل، فانحل ذاك العلم الاجمالي بعلم تفصيلي بصلاة الجنازة فيتعلم حكمها، وبعد انحلال العلم الاجمالي يكون احتمال الابتلاء في الموارد الاخرى مجرد شك بدوي ليس مقترنا بعلم اجمالي فيجري فيها استصحاب عدم الابتلاء. أو ينحل العلم الاجمالي بعلم اجمالي صغير. عنده علم اجمالي كبير ان يبتلي بالشكوك في الصلاة أو يبتلي بالانصبة الزكوية أو يبتلي بالربح الموضوع للخمس، أو يبتلي بصلاة الجنازة، أو يبتلي بصلاة الآيات أو بغسل الجنابة وهو لم يتعلم. بالنتيجة هذا العلم الإجمالي الكبير ينحل الى علم إجمالي صغير وهو العلم الإجمالي بالابتلاء في شؤون حياته القرينة، وهي مسألة غسل الجنابة وشكوك الصلاة، وأما مسألة صلاة الآيات أو الأنصبة الزكوية فلأنها بعيدة عن شؤون حياته تبقى طرفا للعلم الإجمالي الكبير لا للعلم الإجمالي الصغير. فالعلم الإجمالي الصغير إذا حصل جرى الأصل المؤّمن فيما عداه بلا معارض، لان الأصل المؤمن لا يجري في دائرة العلم الإجمالي الصغير، فاذا لم يجري هنا اذن جرى في الدائرة الاوسع بلا معارض.

الجهة الثانية: أننا نفترض وجود علم اجمالي كما افاد السيد الخوئي بعدة وقائع، ولكن محل كلامنا ان يحتمل الابتلاء بتكليف لو لم يتعلم حكمه الآن لفات عليه في وقت، وموارد العلم الاجمالي التي يمثل بها السيد الخوئي «قده» اغلبها من احتمال تكليف لو ابتلى به المكلف لأمكنه التعلم في وقته، فلا تدخل في محل كلامنا، نحن محل كلامنا ان المكلف يحتمل التكليف مستقبلا بحكم لو لم يتعلم حكمه الآن لفات عليه امتثاله أو احراز امتثاله لو ابتلي به، كصلاة الآيات، ومثل الانصبة الزكوية، اما ما يمثل به للعلم الإجمالي الشائع كما لو انني احتمل ابتدأ بالشكوك في الصلاة، أو احتمل ان ابتدأ بغسل الجنابة أو احتمل الابتلاء بصلاة الجنازة، كلها موارد لو ابتلي بها لأمكنه تعلم حكمها في ظرف الابتلاء، فلا تدخل في محل كلامنا الذي نبحث عنه في الصورة الرابعة. إذن ما اجاب به سيدنا الخوئي «قده» لا يحل المشكلة.

الجواب الثاني: لو أجرينا استصحاب عدم الابتلاء في كل مورد نحتمل الابتلاء ما بقي تحت أدلة التعلم الا موارد نادرة، وحمل ادلة التعلم على هذه الموارد النادرة مستهجن عرفا. فلنفترض ان لا يوجد لدينا علم إجمالي بالابتلاء، كلها محتملة، يحتمل الابتلاء بصلاة الجنازة، وبالانصبة الزكوية، وبالشكوك في الصلاة وبصلاة الآيات وبالتعامل مع اهل الكتاب. يحتمل المعاملات المحرمة إذا دخلت في التجارة، فلو اننا كل محتمل اجرينا استصحاب عدم الابتلاء ونفينا به وجوب التعلم ما بقي تحت أدلة الأمر بالتعلم إلا موارد نادرة، وحمل المطلق على الفرد النادر مستهجن. وهنا إيرادان على جوابه «قده»:

الايراد الاول: أن موارد العلم بالابتلاء سواء كان علما اجماليا أو علما تفصيليا ليست عزيزة، فإن الانسان يعلم بالابتلاء بمثل غسل الجنابة، أو يعلم بالابتلاء في المعاملات المحرمة، حيث انه لا يمكنه ان يجلس في بيته ولا يتعامل مع احد، فالعلم التفصيلي بالابتلاء بحيث لا يجري فيه استصحاب عدم الابتلاء ليس عزيزا، وان لم يكن علما تفصيلا فلا اقل من العلم الاجمالي بالابتلاء حيث يعلم اجمالا اما بصلاة الجنازة أو بالشكوك في الصلاة، أو المعاملات بالسوق، وهو لا يعلم حكم هذه الموارد جميعها، فهناك علم اجمالي بالابتلاء في عدة موارد بحيث لا يجري فيها استصحاب عدم الابتلاء، وحينئذ حمل ادلة التعلم على موارد العلم التفصيلي بالابتلاء أو العلم الإجمالي بالابتلاء ليس حملاً على الفرد النادر، لرواجها، اذ المفروض ان استصحاب عدم الابتلاء لا يجري، لا في مورد العلم التفصيلي، ولا في مورد العلم الإجمالي بلزوم الترخيص في المخالفة القطعية.

والحمد لله رب العالمين.