درس الأصول | 117

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن سيدنا الخوئي «قده» أجاب عن استصحاب عدم الابتلاء اذا شك المكلف انه سيبتلي في المستقبل بصلاة الآيات ام لا؟ فهل يجري في حقه استصحاب عدم الابتلاء لينتفي عنه وجوب التعلم؟

فقد ذكر سيدنا «قده» أنه لو جرى استصحاب عدم الابتلاء عند احتماله فلازم ذلك بقاء ادلة وجوب التعلم على الفرد النادر، لان القدر المتيقن من موارد التعلم هو الشك في الابتلاء، فاذا نفينا الشك بالابتلاء باستصحاب عدمه لم يبقى تحت ادلة وجوب التعلم الا موارد نادرة، وحمل المطلق على الفرد النادر مستهجن، وذكرنا فيما سبق أنه قد يجاب عن ذلك: بان العلم بالابتلاء سواء كان علما تفصيليا او علما اجماليا غير عزيز، اين موارد العلم بالابتلاء سواء كان علما تفصيليا او إجمالياً فرض متعارف، فخروج موارد الشك في الابتلاء باستصحاب عدم الابتلاء عن أدلة وجوب التعلم لا يجعل ادلة وجوب التعلم محمولة على فرد نادر.

ولكن السيد الشهيد «قده» اضاف الى ذلك موارد العلم بالتكليف الفعلي، اذ لا تختص ادلة وجوب التعلم با لتكليف المستقبلي، بل هناك موارد للتكليف الفعلي، اذن كما يدخل تحت ادلة وجوب التعلم العلم التفصيلي بالابتلاء مستقبلا او العلم الاجمالي بالابتلاء مستقبلا كذلك يدخل تحت ادلة التعلم العلم بتكليف فعلي مع الشك في طريقة الامتثال فإن هذا يدخل تحت ادلة وجوب التعلم.

ولكن الكلام في امثلة العلم بتكليف فعلي مع الشك في كيفية امتثال ليكون مصداقا لأدلة وجوب التعلم:

فأفاد «قده» اما بالنسبة الى المحرمات فالأمر واضح، حيث إن السيد الشهيد تبعا لأستاذه السيد الخوئي ذهب الى ان الحرمة فعلية وان لم يكن موضوعها فعليا، فيحرم شرب الخمر فعلا وان لم يكن هناك خمرا في الخارج، ويحرم الزنا وان لم يكن هناك امرأة في الخارج. فإن الحرمة تختلف عن الوجوب فإن فعلية الوجوب فرع فعلية الموضوع، فلا فعلية لوجوب صلاة الظهر قبل فعلية الزوال، ولا فعلية لوجوب صوم شهر رمضان قبل بروز الهلال، واما بالنسبة الى المحرمات فالحرمة فعلية وان علم بعدم فعلية الموضوع فضلا عما اذا شك فيه، فمثلا: لو وجدنا سيجينا في زنزانة لا يمكنه عقلا شرب الخمر ولا يمكنه عقلا القيام بالفاحشة مع ذلك يحرم عليه بالفعل شرب الخمر وارتكاب الفاحشة وما اشبه ذلك من المحرمات، ويكفي في عدم لغوية الحرمة في حقه مع علمه بانتفاء موضوعها، الردع النفساني، أي يكفي فعلية الحرمة في حقه وعدم لغويتها ان يرتدع نفسيا عن ارتكاب ذلك بان يقول انا عازم على ترك المحرم حتى مع التمكن منه، فإن هذا الارتداع النفسي ثمرة لفعلية الحرمة وإن لم يكن موضوعها فعلياً.

وقد ناقشناه في محله، ولكن على فرض التسليم بفعلية الحرمة قبل فعلية الموضوع، _ناقشنا هذا في الموافقة الالتزامية في مبحث حجية القطع في وجوب الموافقة الالتزامية وعم وجوبها_ على فرض فعلية الحرمة حتى مع عدم فعلية الموضوع لو علم بالحرمة وشك في كيفية الامتثال مثلا، فإنه يجب عليه التعلم، ولا يجدي في حقه استصحاب عدم الابتلاء لان المفروض ان الحكم فعلي في حقه، انما يحتاج لاستصحاب عدم الابتلاء اذا شك في فعلية الحكم نتيجة الشك في فعلية الموضوع فباستصحاب عدم الابتلاء بالموضوع ينفي فعلية الحكم، اما اذا احرز فعلية الحكم وإنما شك في كيفية امتثاله فحينئذ يجب عليه التعلم لأجل فعلية الحكم وان شك بالابتلاء به حيث لا يجدي استصحاب عدم الابتلاء نفي الفعلية بعد احراز فعلية الحكم. هذا بالنسبة الى المحرمات.

أما بالنسبة الى الواجبات، فقد مثل السيد الشهيد، قال: اذا علم المكلف بوجوب الصلاة وشك في أنه هل سيسافر مستقبلا ام لا؟ وعلى فرض السفر فهو لا يعرف كيفية صلاة القصر في السفر وكيف يأتي بها، فهل يجب عليه التعلم الآن؟ أي تعلم احكام صلاة المسافر، ام لا؟ او يجري استصحاب عدم السفر في المستقبل فلا يجب عليه تعلم أحكام صلاة المسافر.

ولأجل ان يدخل هذا المثال في محل الكلام نقول:

قد اختلف الفقهاء في ان السفر والحضر دخيل في الموضوع او دخيل في المتعلق، فالمشهور بينهم، ان السفر والحضر دخيل في الموضوع، أي ان كان حاضرا وجب عليه صلاة التمام، وان كان مسافرا وجب عليه صلاة القصر، فهناك تكليفان لموضوعين، فلو فرضنا ان المكلف حاضر، ويشك انه هل سيسافر فتجب عليه القصر، ام لا؟ فهذا لا يكون من موارد الشك في الامتثال مع احراز فعلية التكليف الذي اراد السيد الصدر الذي يتكلم به، بل من موارد الشك في التكليف المستقبلي للشك في موضوعه، هل سيجب عليه القصر مستقبلا لأجل كونه مسافرا م لا؟ فهذا يدخل تحت محل كلام السيد الخوئي في أنه هل يجري استصحاب عدم السفر لنفي وجوب القصر في حقه أم لا.

أما اذا افترضنا ما بنى عليه سيدنا الخوئي «قده» من ان الحضر والسفر قيدان في المتعلق وليس قيدا في الموضوع، أي دخل الزوال وجبت الصلاة على المكلف وجوبا فعليا، غاية ما في الباب ان الواجب على المكلف بعد دخول الزوال هو الجامع. فيقول المولى للمكلف، اذا دخل الزوال وجب عليك طبيعي الصلاة تماماً في فرض الحضر، قصراً في فرض السفر. فكلمة «في فرض الحضر» قيد في الصحة وليست قيد في الوجوب، الوجوب واجب عليه لا يشترط به شيء آخر، يجب عليه الصلاة بالفعل وليست مقيدة بقيد، لكن لا تصح منك التمام الا في الحضر، ولا تصح منك القصر الا في السفر، فالحضر والسفر قيد في صحة المتعلق وليس قيدا في الوجوب، وإلا فالواجب الفعلي في حقه هو الطبيعي الجامع بين هذين المصداقين، بناء على مبنى سيدنا الخوئي التكليف فعلي والشك في الامتثال وليس شكا في التكليف، اذا شك في انه سيسافر ام لا؟ وانه إن سافر لم يتمكن من صلاة القصر لعدم تمكنه الأحكام، فالشك في السفر موجب للشك في الامتثال لا للشك في الوجوب، فهل مع الشك في الامتثال يجري استصحاب عدم الابتلاء بالسفر ام لا؟

هنا صورتان للمسألة كما بحثها سيدنا الخوئي وشيخنا الاستاذ «قده»:

الصورة الأولى: أن يعلم بعدم الغفلة، أي انا ملتفت الى انه ان سافرت سأكون مطالبا بصلاة خاصة، لكن لا ادري ما هي تلك الصلاة الخاصة، اعلم ببقاء شكي الى فرض السفر.

فحينئذ يأتي البحث ان جواز تأخير الامتثال هل موضوعه القدرة على الامتثال؟ ام موضوعه احراز الامتثال؟ عقلا لا يجب علي المبادرة للامتثال، يجوز لي التأخير، يجوز لي تأخير الامتثال لكن ما هو موضوع جواز التأخير عقلا؟ العقل يقول لك يجوز لك التأخير إن احرزت الامتثال في آخر الوقت؟ او ان احرزت القدرة على آخر الامتثال في آخر الوقت، إنما يجوز لك التأخير عقلا في آخر الوقت من باب اذا أمنت من العقوبة، انا الآن مطالب بتكليف فعلي منجز وإنما يجوز لي تأخير امتثال هذا التكليف المنجز إذا أمنت من العقوبة بالتأخير، فكيف تأمن من العقوبة في التأخير، هل تأمن من العقوبة، هل تأمن بإحراز الامتثال؟ ام تأمن من العقوبة بإحراز القدرة على الامتثال؟

ذكر السيد الشهيد: العقل يقول للمكلف بادر، فإن أخرت فإنك لست آمناً من العقوبة من الا إذا احرزت العقوبة من الامتثال في فرض التأخير، فهل بالاستصحاب تحرز القدرة في الامتثال؟

انا اشك انني سأسافر في آخر الوقت ام لا؟ وان سافرت فإني لا اعرف صلاة القصر في السفر.

هل باستصحاب عدم السفر الى آخر يثبت القدرة على الامتثال فيجوز لي التأخير لحصول الامن من العقوبة بهذا التأخير ام لا؟ السيد الصدر يقول لا يثبت، لان هذا اصل مثبت، استصحاب عدم السفر لا يثبت انك قادر على امتثال الامر بالجامع لو سافرت، الا من باب الاصل المثبت، اذن لا يجري استصحاب عدم الابتلاء، لكن على مبنى السيد الخوئي «قده» من أن موضوع جواز التأخير عقلا ليس القدرة وإلا لجرى استصحاب القدرة نفسها، لا يحتاج الى استصحاب عدم السفر. انما موضوع جواز التأخير احراز الامتثال، وإلا لو قلنا بادر ويجوز لك التأخير عقلا ان احرزت انك لو اخرت كنت قادرا على الامتثال، وبالقدرة على الامتثال تأمن من العقوبة. فالسيد الخوئي يقول: بناء على هذا المبنى نستصحب نفس القدرة، ولسنا بحاجة الى استصحاب عدم السفر. فأنا الآن قادر في اول الوقت قادر على الامتثال، استصحب بقاء قدرتي على الامتثال الى آخر الوقت، فباستصحاب قدرتي على الامتثال آمن من العقوبة، واذا أمنت من العقوبة جاز لي التأخير عقلاً. الان المشكلة ليست في القدرة، بل في الإحراز، أي احراز نفس الامتثال، لأنه بعد ان دخل الوقت واشتغلت ذمتي بتكليف فعلي منجز الا وهو وجوب الجامع بين صلاة التمام وصلاة القصر، بعد ان اشتغلت ذمتي بذلك فالاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ القيني، فلا مخلّص لي للتأخير عقلا الا اذا احرزت الفراغ اليقيني مع هذا التأخير، فالمبرر لجواز التأخير إحراز الامتثال مع التأخير لا احراز القدرة على الامتثال، فاذا كان المبرر هو احراز الامتثال حتى لو استصحبنا القدرة فضلا عما لو استصحبنا عدم السفر، لا يثبت احراز الامتثال في ظرفه، وبعبارة اخرى اخاف أني لو اخرت لفات الواجب منيّ، فهل استصحاب عدم السفر يحرز عدم فوت الواجب، فهل القدرة الى آخر الوقت تثبت عدم فوت الواجب؟ لا يثبت ذلك، إذن لا يجري في حقه لا استصحاب عدم السفر، ولا استصحاب القدرة في آخر الوقت، لان كليهما لا يحرز به عدم فوت الواجب منك، وبالتالي لا يجوز لك عقلا التأخير بل يجب عليك المبادرة، إلا ان تتعلم كيفية الامتثال في السفر، فحينئذ بواسطة التعلم تحرز أنك ستمتثل على كل حال، صليت في الحضر ام صليت في السفر.

الصورة الثانية: ان المكلف لا يعلم بعدم الغفلة، بل يقول انني غافل. ففي هذه الصورة يقول لا احتمل اننا سأبقى شاك، احتمل أنني لو أخرت الصلاة وسافرت سأغفل عن حكم الصلاة وأصلي تماماً نتيجة الغفلة، يحتمل انه سيصلي تماماً. فهل في حقي حينئذٍ يجري استصحاب عدم السفر أم لا؟

ذكر شيخنا الأستاذ «قده»: انه يجري في حقه استصحاب عدم السفر. وبيان ذلك قاسه على فرض آخر في الفقه، وهو: من كان في أول الوقت متوضئاً، ولكنه لا يريد ان يبادر في الصلاة، فقال أنا أأخر الصلاة، الا انه يحتمل ان اخر الصلاة سينتقض وضوئه وإذا انتقض وضوئه لم يحصل على ماء واذا لم يحصل على ماء سيضطر الى انه يصلي متيمماً، هل يبادر الى الصلاة ام يجوز له التأخير باستصحاب الوضوء؟ قالوا: يجوز له التأخير باستصحاب الوضوء، مع انه يحتمل أنه سينتقض وضوئه ولن يقدر على الماء وسيضطر إلى أن يصلي بالتيمم، فيعد مفوتا للصلاة مع الطهارة المائة مع قدرته عليها، قالوا لا مانع من ذلك، يستصحب بقاء الوضوء الى حين ايقاع الصلاة، فاذا استصحب ايقاع الوضوء الى حين إيقاع الصلاة تنقح بذلك امتثال الامر بالصلاة مع الطهارة المائية. هذا الشخص الذي يحتمل انه لو سافر سيصلي تماما لانه سيغفل عن احكام المسافر، هل يستطيع ان يستصحب عدم السفر الى ان تقع منه الصلاة تماماً على فرض وقوعها منه، الآن سأصلي بعد ساعة وأحتمل انني بعد ساعة سأسافر، واحتمل انني سافرت سأصلي تماماً غفلة، فهل استصحب عدم السفر ان تقع منيّ الصلاة تماما لو وقعت منّي عفلة؟ يقول، نعم يصح، استصحب عدم السفر الى ان تقع الصلاة تماماً فيكون ما وقع منّي صلاة تمام في ظرف عدم السفر وهو امتثال أمر بالجامع.

والحمد لله رب العالمين.