درس الأصول | 118

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في أنه هل يمكن نفي وجوب التعلم باستصحاب عدم الابتلاء ام لا؟ كما اذا احتمل انه يبتلي بصلاة الآيات مستقبلا، فهل يمكن نفي وجوب تعلم أحكامها باستصحاب عدم الابتلاء بها ام لا؟ وذكرنا جوابين، وصل الكلام للجواب الثالث وهو ما افاده المحقق النائيني، وبيانه:

ما هو المقيّد الواقعي لدليل وجوب التعلم، فهل المقيد الواقعي عدم الابتلاء بالواقع؟ او عدم العلم بالابتلاء؟ او امكان الامر بالتعلم؟

هنا ثلاث محتملات في تحديد موضوع الامر بالتعلم:

المحتمل الأول: ان موضوع الامر بالتعلم هو الابتلاء بالواقع، أي انما الشارع انما امر بالتعلم لمن يبتلي بالأحكام الشرعي، فبما ان موضوع الامر بالتعلم الابتلاء، اذن لا محالة مقتضى استصحاب عدم الابتلاء انتفاء الامر بالتعلم.

المحتمل الثاني: ما ذكره المحقق النائيني ان موضوع الامر بالتعلم عدم العلم بعدم الابتلاء، لا الابتلاء، والوجه في ذلك: انه لما كان الأمر بالتعلم امرا طريقياً والغرض من هذا الامر الطريقي حفظ الواقع، اذن فلا يتصور شموله لفرض العلم بعدم الابتلاء بالواقع، اذ لا معنى لأن يؤمر من يعلم بأنه لن يبتلي بالواقع أي لن يبتلي بالأحكام الشرعية المعينة، لا معنى لأن يأمر بتعلمها حفظاً للواقع وهو يعلم بعدم ابتلاءه بهذا الواقع، نظير ان يؤمر الرجل بتعلم احكام الدماء حفظا لعدم الوقوع في احكام هذه الدماء، فالأمر بالتعلم لغرض حفظ الواقع لا يتصور شموله لمن يعلم بانه لا يبتلي بالواقع، فالخارج عن ادلة وجوب التعلم العلم بعدم الابتلاء، فما سوى ذلك باقٍ تحت أدلة وجوب التعلم، وحينئذٍ استصحاب عدم الابتلاء بالواقع لا ينفي وجوب التعلم، لانه لا يثبت العلم بعدم الابتلاء بالواقع، والذي خرج عن أدلة وجوب التعلم العلم بعدم الابتلاء لا نفس عدم الابتلاء، فاستصحاب عدم الابتلاء لا يثبت العلم بعدم الابتلاء كي تنتفي وجوب التعلم.

فإن قلت: ان الاستصحاب علم فانه ان لم يكن علما وجدانيا فهو علم تعبدي.

قلنا: ان هذا مبني على نظر السيد الخوئي من ان من فاد قوله «لا تنقض اليقين بالشك» اعتبار اليقين بقاءً، أي اعتبار الشاك متيقنا، فإذا كان مفاد دليل الاستصحاب اعتبار الشاك متيقنا، لان له يقينا سابقا، نعم يكون الاستصحاب علما تعبديا فيحل أي محل علم آخر، اما اذا قلنا كما هو الصحيح وفاقا للسيد الشهيد «قده»: ان ليس المستفاد من قوله «لا تنقض اليقين بالشك» الا النهي عن النقض العملي، يعني من كان على يقين سابق فليس له ان لا يترتب آثار المتيقن، بل عليه ان يرتب آثار المتيقن، من المنجزية وغيرها، فليس المستفاد من قوله «لا تنقض اليقين بالشك» اعتبار الشاك متيقنا، غايته انه ليس لمن تيقن بشيء سابقا ان لا يرتب آثار المتيقن من المنجزية او الأحكام الشرعية الأخرى. فبناء على ذلك ليس الاستصحاب علما تعبديا كي يقوم مقام العلم.

المحتمل الثالث: أن موضوع الامر بالتعلم نفس امكان الامر بالتعلم لا شيء آخر. يعني عندما يصدر أي امر من الشارع سواء كان امرا نفسيا او امرا طريقياً، ان حدد الشارع موضوع بدليله فبها، واذا لم يحدد الشارع ضمن دليله فموضوع امكانه، نفس موضوع الأمر بالتعلم إمكانه، أي في موطن وموضع أمكن الامر بالتعلم عقلا فهو موضوع الامر بالتعلم، لا ان هناك موضوعا محددا. فلأجل ذلك نقول في المقام: الامر بالتعلم اليس ممكنا في فرض الشك في الابتلاء. بل ممكن لان موضوعه متحقق، بل الامر بالتعلم ممكن حتى في فرض العلم بعدم الابتلاء فإن الامر الطريقي غرضه حفظ الواقع ولو حفظاً علمياً، لا يلزم ان يكون حفظا عملياً، مثلا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقولون: النهي عن المنكر موضوعه عدم العلم بعدم التأثير، أي ما دام يحتمل التأثير فالنهي عن المنكر واجب في حقه، لكن النهي عن المنكر يمكن ان يكون واجبا حتى في فرض العلم بعدم التأثير، فلو فرضنا ان اعلم بأن الفاعل للمنكر لا ينتهي الا احتمل ان الشارع يأمرني بنهيي حتى في هذا الفرض من باب اقامة الحجة عليّ. إذن النهي عن المنكر وجوب طريقي، ومع ذلك احتمل ان الشارع يأمرني بالنهي عن المنكر حتى في فرض العلم بعدم التأثير من باب اقامة الحجة، هنا ايضا حتى في فرض العلم بعدم الابتلاء بصلاة الآيات احتمل ان الشارع يأمرني بتعلم صلاة الآيات لأجل حفظ الواقع ولو حفظا علميا ان اعلم غيري واشباه ذلك. اذن موضوع الامر بالتعلم إمكان الامر بالتعلم، ما دام ممكنا فموضوع متحقق، وبالتالي فاستصحاب عدم الابتلاء على هذا المحتمل الثالث لا ينفي الامر بالتعلم.

ولكن أشكل على كلام المحقق النائيني «قده» كما في كلمات السيد الشهيد والسيد الاستاذ:

حتى لو قلنا بان موضوع الامر بالتعلم عدم العلم بعدم الابتلاء فلا يجدي الاستصحاب، أو ان موضوع الامر بالتعلم عدم العلم إمكان الامر بالتعلم فلا يجدي الاستصحاب، لكن مع ذلك الاستصحاب يعارض، إن لم ينفيه الاستصحاب فإنه يعارضه، لان الامر بالتعلم ينجز الواقع، انا لا ادري هل انني سأبتلي بصلاة الآيات ام لا؟ الأمر بالتعلم يقول اذن وجوب صلاة الآيات منجز في حقك على فرض وقوعه، استصحاب عدم الابتلاء بصلاة الآيات مؤمن ومعذر، فهو يقول لك أنت آمن بعدم وجوب صلاة الآيات فينفي الحكم بنفي موضوعه فتعارضان، وبينهما عموم من وجه، فان الامر بالتعلم يشمل الشاك في الابتلاء بصلاة الآيات، ويشمل العالم بالابتلاء، بينما الاستصحاب لا يجري في فرض العلم بالابتلاء، واستصحاب عدم الابتلاء يشمل الجاهل المأمور بالتعلم

ويشمل المتعلم أيضاً، اذن بينهما عموما من وجه، بين استصحاب عدم الابتلاء والامر بالتعلم عموما من وجه وهو من شك بالابتلاء في الابتلاء ولم يكن متعلما، فإن الامر بالتعلم يقول له وجوب صلاة الآيات وجوب منجز في حقك، فتعلمه، واستصحاب عدم الابتلاء يقول له لم تبتلي بصلاة الآيات كي يكون وجوبها منجزاً في حقك فيتعارض استصحاب عدم الابتلاء مع الأمر بالتعلم، هذا يثبت المنجزية، وهذا يثبت المعذرية فيتعارضان.

لذلك تعرض الاعلام الى عدة اجوبة لحل التعارض:

الجواب الاول: ما ذكره السيد الشهيد من ان دليل وجوب التعلم آب على التخصيص، فعندما يقول المولى: «ما عملت؟ يقول ما علمت، يقال: هلا تعلمت حتى تعمل؟» فإن المراد من قوله «هلا تعلمت حتى تعلم» التوبيخ المغلظ.

ولا ينسجم مع التوبيخ المغلظ الا ان يقول: الا اذا كنت شاكا في الابتلاء فاستصحبت عدم الابتلاء، فاذا كان هذا الامر بهذه السهولة ان كل من شك في الابتلاء يستطيع ان يؤمن الواقع باستصحاب عدم الابتلاء فما هو وجه هذا التوجيه المغلظ؟!

اذا كانت هذه الحجة الواضحة ميسورة للمكلف، أي يمكن للمكلف ان يحتج على المولى بهذه الحجة السهلة وهي استصحاب عدم الابتلاء، فالتوبيخ المغلظ لا وجه له. إذن لسان التوبيخ المغلظ ظاهر في ان لا حجة في البين، والا لو كان لدى المكلف مثل هذه الحجة التي هي ايسر الطرق للمعذرية لم يكن هناك وجه للتوبيخ المغلظ، فتأمل.

الجواب الثاني: أن دليل وجوب التعلم حاكم على ادلة الاصول المؤمنة، فان جميع الاصول المؤمنة كأصالة الحل والاستصحاب المؤمن، كلها موضوعها عدم المنجز، كل شيء لك حلال ما لم يكن منجز للحرمة، وكل شك في التكليف مجرى للبراءة ما لم يكن منجز للحرمة، ودليل الحرمة يقول انا منجز، فيكون حاكماً، فبما ان منظور ادلة الاصول الترخيصية المؤمنة عدم المؤمن ودليل التعلم يصلح بأنه منجز، كان دليل التعلم ناظراً لأدلة الأصول العملية ملغيا لها على سبيل الحكومة. فتأمل.

الجواب الثالث: ان يقال بانصراف دليل الاستصحاب عن الابتلاء عن الشبهة قبل الفحص التي هي مورد الأمر بالتعلم، والوجه في ذلك:

كما ذكر السيد الأستاذ: بعد قيام المرتكز العقلائي على ان احتمال التكليف قبل الفحص منجز، لا من باب حق الطاعة لا من باب شرك المنعم، ولا من باب دفع الضرر المحتمل، بل عندنا مرتكز عقلائي يقول ان كل مقنن كان ديدنه وضع احكامه في معرض الوصول بحيث لو فحصت عنه لوصلت الينا فإن احتمال التكليف قبل الفحص منجز في حقك بالمرتكز العقلائي، ما دام المقنن يضع أحكامه في معرض الوصول فكيف ترى نفسك معذوراً وأنت لم تفحص عنها، فمقتضى هذا المرتكز العقلائي ان ادلة الاصول الترخيصية منصرفة عن هذا الفرض لوجود منجز الا وهو الاحتمال بمقتضى المرتكز العقلائي.

فإن قلت: بان ادلة الأصول النافية للحكم أو النافية للأمارة؟ نعم، منصرفة، مثلا البراءة تنفي الحكم دليلها منصرف الى الشبهة قبل الفحص، او استصحاب عدم وجود خبر ثقة يدل على الحكم، هذا ايضا منصرف لان المفروض ان المولى ديدنه جعل الاحكام على معرض الوصول، اما استصحاب عدم الابتلاء بصلاة الآيات أو بالعصير العنبي، فلماذا هو منصرف عن الشبهة قبل الفحص. المنصرف عن الشبهة قبل الفحص ما له مساس بالحكم نفسه او موضوعه، أما ما ينفي موضوع الابتلاء مطلقا، لماذا هو منصرف عن الشبهة قبل الفحص.

قلت: لا يحتمل العرف خصوصية، أي استصحاب عدم الجعل منصرف، واستصحاب عدم قيام خبر ثقة على الحكم منصرف. أما استصحاب عدم الابتلاء غير منصرف؟! اذا كان الدليل النافي للحكم او الدليل النافي للطريق منصرف عن هذا الفرض، فمتى ما احتملت حكماً او احتملت قيام خبر على ذلك الحكم ما يجري الاستصحاب لا استصحاب عدم جعل الحكم، ولا استصحاب عدم وجود الخبر، كلاهما لا يجريان، للانصراف، أما لو احتملت الابتلاء بصلاة الآيات فان استصحاب عدم الابتلاء يجري قبل الفحص، يقول العرف المرتكز العقلائي الذي هو ملاك منجزية الاحتمال قبل الفحص، هذا المرتكز العقلائي يأبى هذا التفصيل، بما ان منشأ منجزية الاحتمال قبل الفحص هو المرتكز العقلائي فالمرتكز العقلائي يأبى هذا التفصيل، بأن يقول: ان احتملت التكليف لا يجري استصحاب عدم الجعل، وإن احتملت خبر على عدم التكليف لا يجري استصحاب عدم قيام الخبر، أما اذا احتملت حدوث موضوع التكليف فإنه يجري استصحاب عدم الابتلاء. لا يرى فرقاً بين هذه الموارد من حيث النتيجة.

والحمد لله رب العالمين.