درس الأصول | 127

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في فتوى المشهور في ان من صلى في موضع القصر عن جهل تقصيري فإن صلاته صحيحة ومع ذلك فهو مستحق للعقوبة، فالكلام في توجيه هذه الفتوى على طبق النصوص الواردة في المقام. وذكرنا فيما سبق عدة تخريجات: منها: ان المسافر الجاهل مخاطب بالجامع بين القصر والتمام. ومنها: إن زيادة الركعتين مبطل للصلاة الا في حق الجاهل بوجوب القصر، وذكرنا أن هذين التخريجين وإن كانا ممكنين ثبوتاً، ولكن يتوجه عليهما انهما ما هو الوجه لاستحقاق العقوبة.

التخريج الثالث: تخريج صاحب الكفاية في تفسير المقسطية بأن في التمام ملاكا مضادا لملاك القصر مفوتاً له. فقلنا بأن هذا التخريج وان خرج وجه استحقاق العقوبة ولكنه مبتلى بالجمع بين المبغوضية والمقربية. ووصل الكلام الى:

التخريج الرابع: الذي تعرض له السيد الخوئي في «مصباح الاصول»: ومحصله: إنّ الجاهل المسافر مخاطب بأمرين:

الأمر الاول: الامر بالجامع بين القصر والتمام حال الجهل بتعين القصر، بحيث يكون هذا القيد وهو الجهل بتعين القصر مأخوذا في الصحة لا في الوجوب أي يجب عليه الجامع لا بقيد، غاية ما في الامر لا تصح منه التمام حال السفر الا إذا كان جاهلا بتعين القصر، فالجهل بتعين القصر قيد في صحة التمام وليس قيدا في الوجوب، فإن الجامع واجب عليه على كل حال. وهناك أمر آخر في حقه وهو الأمر بالقصر المشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل بتعين القصر أيضاً. فهو مأمور بالقصر لك مأمور بقصر مشروط بأن لا يسبقها تمام، مع فرض أنه جاهل بتعين القصر، وإلا لو كان عالماً فسبق التمام لا يوجب سقوط القصر عنه، إذن هو مخاطب بالقصر بشرط عدم سبق التمام حال الجهل بتعين القصر عليه. فبما أنه مأمور بأمرين: أمر بالجامع، وأمر بالقصر، إن اتى بالقصر سقط الامران، أن أتى بالتمام امتثل الامر بالجامع وترك امتثال الامر بالقصر. فصلاته من جهة صحيحة لأنه امتثل الامر بالجامع، ومعاقب من جهة أخرى، لأنه ترك امتثال الامر التعييني بالقصر. إذن هذا المكلف مأمور بجامع وبقصر، أتى بالقصر امتثل الامرين، اتى بالتمام امتثل الامر بالجامع، وصحت صلاته، اما لأنه ترك امتثال الامر بالقصر عن تقصير عوقب على ذلك. هذا هو التخريج الذي ذكره في المصباح.

ولكن هو وشيخه النائيني اوردوا على هذا التخريج:

الإيراد الاول: عندما نجعل القيد هو: من جهل بتعين القصر، فلازم هذا القيد أن لو اعتقد المكلف أنه مخاطب بالجامع، هو في الواقع مخاط بالقصر، لكن لو اعتقد المكلف انه مخاطب بالجامع بين القصر والتمام، فأتى بالتمام لأنها احدى الخصوصيتين أو احد الفردين، هل تلتزمون بصحة التمام في حقه وسقوط الامر بالقصر في حقه. الفرض المتعارف انه يجهل بالقصر بالكلية، يعني يتعقد ان الواجب في حقه هو التمام، فنقول بما أنه يجعل بوجوب القصر ويتعقد ان الواجب في حقه هو التمام فحينئذ لو اتى بالتمام في هذا الفرض صحت منه وسقط الامر بالقصر لأجل الرواية، اما لو افترضنا ان شخصا ملتفت إلى القصر ككثير من أبناء العامة، لكن يقول أنا مخاطب بالجامع ومخير بين القصر والتمام، ولست مخاطبا بالقصر وحدها، فأتى بالتمام امتثالا للأمر بالجامع، هل يسقط عنه الأمر بالقصر هنا؟ لازم هذا التخريج وهو ان تقولوا المكلف المسافر الجاهل مخاطب بأمرين: أمر بالجامع بين القصر والتمام حال الجهل بتعين القصر، هذا الشخص الذي يعتقد أنه مخاطب بالجامع أيضاً جاهل بتعين القصر، إذن فتصح منه التمام، إذن يسقط الأمر بالقصر في حقه. نقول: بأن الرواية وهي صحيحة محمد بن مسلم، «سألته عن المسافر إذا صلى اربعاً في السفر، قال: ان قرأت عليه آية التقصير وفسرت له، [يعني أفهم أن القصر متعين في حقه]، فعليه الاعادة، وإن لم تكن قرأت عليه آية التقصير ولم يعلمها فلا إعادة عليه». فهذه العبارة تشمل من اعتقد بوجود التمام ومن اعتقد بوجوب الجامع في حقه، وأنه مخير بين القصر والتمام. فهذا الإيراد غير وارد.

الإيراد الثاني: ما ذكره السيد الخوئي «قده» من أن الأمر بالجامع هنا لغو، لأن المكلف لا ينبعث عن الجامع أصلا إنما ينبعث عن الخصوصية، هذا المكلف يعتقد انه مأمور بالتمام فيأتي بالتمام انبعاثا عن الأمر بها، أما ما ينبعث عن الأمر بالجامع. فتخريج المسألة على أنه مأمور بجامع لغو، لانه امر بشيء لا ينبعث عنه المكلف، وإنما ينبعث عن الخصوصية دائماً. وبالتالي الصحيح انه إما ان المولى مطلوبه واحد وهو القصر، أو ان المولى مطلوبه متعدد، أي ان في الجامع ملاك وفي القصر ملاك، إذا كان المولى مطلوبه واحد وهو ملاك القصر، فمقتضى ذلك حمل المطلق على المقيد، لا تعدد الأمر في حقه، مثلا: لو كان هناك أمران: إن افطرت فاعتق رقبة مؤمنة. فعندنا أمران، هل تلتزمون هنا بتعدد الامر؟ وتقولون هو مأمور بالجامع بين كل رقبة، وهو مأمور بالرقبة الأولى أو الثانية؟ أو تقولون لا يخلو إما ان مطلوب المولى شيء واحد فيحمل المطلق على المقيد، يعني بالنتيجة هو مأمور بأمر وهو الامر بعتق رقبة مؤمنة. أو أن مطلوب المولى متعدد؟ فإذا مطلول المولى متعدد يجب أن يلتزم بالترتب، بأن يقول: اعتق رقبة مؤمنة فإن لم تعتقد مؤمنة فاعتق غيريها، هذه هي الطريقة العرفية. إما يكون مطلوبه واحد، فيحمل المطلق على المقيد، أو أن مطلوبه متعدد فنلتزم بالترتب. اعتق رقبة مؤمنة فإن لم تكن فاعتق رقبة. اما ان نقول مأمور بأمرين: امر بتعق طبيعي الرقبة وأمر بعتق رقبة مؤمنة هذا لغو. وما ذكره سيدنا «قده» وإن كان عرفيا، مقتضى العرف هو ما ذكره، يعني الإلتزام بتعدد الأمر خلاف المأنوس عرفاً، أما ليس لغواً ما دمنا نريد به تخريج نكتة معينة، لأننا مبتلون بفتوى أجمع عليها الأصحاب وهي من اتم في موضع القصر عن جهل تقصيري صحت صلاته واستحق العقوبة، فلأننا نريد تخريج هذه المسألة فالإلتزام بوجود أمرين، أمر بالجامع وأمر بالقصر، فإذا اتى بالتمام صحت صلاته لأنه امتثل الامر بالجامع واستحق العقوبة لأنه ترك القصر عن تقصير، لا يكون حينئذ التخريج بالجامع تخريجا لغواً.

الإيراد الثالث: ما ذكره المحقق النائيني «قده» وقد أورده على التخريج السابق لصاحب الكفاية ويمكن ان يكون إيرادا على هذا ايضاً. وهو: إما أن تقولوا بأن مطلوب المولى واحد وهو ملاك القصر، أو تقولوا بأن مطلوب المولى متعدد وهو وجود ملاكين، ملاك في التمام وملاك في القصر، إن كان مطلوب المولى واحداً وهو ملاك القصر، فالتمام غير صحيحة لأنها لم توفر ملاك المولى. أو تقولوا بأن ملاك المولى متعدد، ملاك في الجامع، وملاك في القصر، لازم ذلك لو ان شخصاً ترك الصلاة، فيستحق عقوبتين، لأنه فوّت مطلوبين للمولى الجامع القصر، مع انكم لا تلتزمون بذلك، فإما أن تقولوا واحد، إذن التمام غير صحيحة، وإما ان تقولوا متعدد فمن ترك الصلاة رأسا استحق عقوبتين، وأنتم لا تقولون إلا باستحقاق عقوبة واحدة.

والجواب عن إيراد المحقق النائيني «قده» ان يقال:

المدار في تعدد العقوبة ووحدتها على الملاك، فإذا فوت ملاكين يستحق عقوبتين واذا فوت ملاك واحد يستحق عقوبة واحدة، وفي المقام المفروض وجود ملاك واحد مشكك، درجة من هذا الملاك تتحقق بطبيعي الصلاة، والدرجة التامة تتحقق بالقصر، فلو أنه أتى بالتمام فإنه حقق درجة من الملام، وحيث فوّت الدرجة الأخرى عن تقصير استحق العقوبة، اما لو ترك الصلاة رأسا فإنه لم يضيع ملاكين كي يستحق عقوبتين، وإنما ضيّع ملاكاً واحد مشككا فلا يكون مستحقا الا عقوبة واحدة. فليس المدار في تعدد العقوبة على تعدد الأمر، وإنما المدار في تعدد العقوبة على تعدد ما فوته من الملاك.

الإيراد الرابع: إذا افترضنا ان هذا المكلّف مخاطب بالجامع، فمقتضى كونه مخاطباً بالجامع أنه مرخص في الخصوصية، لأنّ من خوطب بالجامع مرخص في تطبيق الجامع على أي فرد، ومتقضى أنه مأمور بأمر ثاني بالقصر أنه غير مخير في التطبيق، وهذا تهافت في الجهل، ما دام مأمورا بالجامع، مقتضى كونه مأموراً بالجامع أنه مرخص في تطبيق الجامع على أي فرد، وما دام مأمورا في نفس الوقت بالقصر، إذن هو ليس مخيراً في التطبيق بل عليه أن يعين القصر، فالجمع بين الترخيص في التطبيق وبين تعين القصر عليه تهافت في الجعل.

الجواب عن ذلك: من كان مخاطباً بالجامع ليس مرخصاً شرعاً في التطبيق، مثلا: الإنسان مأمور بصلاة الظهر بين الزوال والغروب، هذا لا يعني أنه مرخص شرعاً في تطبيق صلاة الظهر على أي فرد، وإنما عقلا لا شرعاً، بمعنى أن العقل يقول: ما دامت الأفراد الطولية والعرضية متساوية في الملاك فأنت مخير، فالتخيير عقلي وليس شرعي، والتخيير العقلي لا يتنافى مع التعيين الشرعي، على فرض أنه مرخص شرعاً فالترخيص الشرعي ترخيص حيثي لا ترخيص فعلي، بمعنى: انه إذا كان مأموراً بالجامع فالشارع يقول: انت مرخص في التطبيق من حيث الأمر في الجامع، لا انك مرخص في التطبيق من جميع الحيثيات، هذا لا يتنافى مع تعين التطبيق عليك من حيث الآخر. مثلا: الإنسان مأمور بصلاة الظهر، ولكنه نذر صلاة الظهر، قال: لله علي أن أصلي صلاة الظهر في اول وقتها، فهو من حيث كونه مأموراً بالجامع مخير في تطبيق الظهر على أي فرد، ومن حيث كونه مأموراً بالوفاء بالنذر يتعين عليه أن يأتي بالظهر في اول وقتها، فلا منافاة بين الترخيص في التطبيق شرعاً من حيث الامر بالجامع وبين تعين الامر بالتطبيق من حيث آخر وهو حيث الأمر بالوفاء بالنذر أو الامر بالقصر تعييناً كما في محل الكلام.

والحمد لله رب العالمين.