درس الأصول | 128

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في تخريج فتوى المشهور، بأن من صلى تماماً في موضع القصر عن جهل تقصيري فإنه تصح التمام منه ولكنه يستحق العقوبة. وذكرنا أن من التخريجات لهذه الفتوى، أن المسافر الجاهل مخاطب بأمرين: بالجامع بين القصر والتمام حال الجهل، ومخاطب بالقصر بعينها المشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل، وذكرنا أن هذا التخريج مورد لعدة إيرادات وصلنا الى:

الإيراد الخامس: ومحصله: إنه لا يعقل أن يؤخذ في متعلق الأمر ما هو متأخر رتبة عن الأمر، فإن لازم ذلك التهافت في مقام الجعل. وبيان ذلك: ما ذكر في بحث الأوامر هل يمكن أن يؤخذ في متعلق الأمر قصد امتثال الأمر أم لا؟ بأن يقول المولى: صل بقصد أمري هذا. فقالوا هناك بأن هذا امر محال، لأن متعلق الأمر متقدم رتبة على الامر اذ إن الآمر لابد ان يتصور متعلقه اولا ثم يتوجه الأمر اليه، فمتعلق الأمر متقدم على الامر، وبناء على ذلك فلا يؤخذ في المتعلق أمر هو متأخر عن الأمر نفسه، وقصد امتثال الامر متأخر عن الأمر إذ لا معنى لقصد امتثال الامر ليس مفروضا وموجوداً، إذن قصد امتثال الامر فرع وجود الامر، ووجود الأمر فرع متعلقه، فقصد امتثال الامر متأخر عن متلق الامر بالواسطة، فلو أخذ في المتعلق قصد امتثال الامر للزم التهافت، أخذ ما هو متأخر فيما هو متقدم. وفي المقام كذلك، إذا قال المولى في الأمر الثاني يجب على المسافر القصر المشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل بوجوب القصر، فقد أخذ الجهل بوجوب القصر في متعلق الأمر بالقصر، يجب على المسافر القصر المشروطة بعدم سبق التمام عند الجهل بهذا الوجوب «بوجوب القصر» فهذا من اخذ ما هو متأخر رتبة عن الحكم فيما هو متقدم رتبة عليه، فإن متعلق الحكم وهو القصر متقدم رتبة عن الحكم وهو الوجوب، والجهل بالوجوب متأخر رتبة عن الوجوب، فكيف يؤخذ الجهل بالوجوب في متعلق الوجوب؟ بأن يقول: يجب القصر المشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل بهذا الوجوب، أي وجوب القصر.

والجواب عن ذلك: ما ذكر في بحث أخذ قصد الامر في متعلق الامر، بأنه امر ممكن، والسر في ذلك: أن ما هو متأخر هو الجهل الموجود وما هو متقدم الجهل الملحوظ، ففرق بين الوجود الخارجي والوجود اللحاظي. مثلا: في أخذ قصد الامر في متعلق الامر يقال: قصد الأمر متأخر عن الأمر إذا لاحظنا الوجود الخارجي، الوجود الخارجي لقصد الأمر طبيعي يتوقف على وجود امر، اما الوجود اللحاظي لقصد الامر ليس متأخرا عن الامر اذ يمكن للمولى في مقام الجعل ان يلاحظ امره ويلاحظ قصد امره، فالوجود اللحاظي لقصد الامر ليس متأخرا عن الامر حتى يستحيل أخذه في متعلق الأمر، فالمولى عندما يقول لعبده «صل بقصد أمر هذا» ليس في ذلك استحالة في عالم الجعل، لأن ما فرضه المولى، أو ما لاحظه المولى هو الوجود اللحاظي لقصد الامر، لا الوجود الخارجي لقصد الامر، وما هو متأخر رتبة عن وجود الامر هو الوجود الخارجي لقصد الأمر، وما لاحظه المولى في المتعلق في مقام الجعل هو الوجود اللحاظي لقصد الامر لا الوجود الخارجي، فلا يلزم من ذلك التهافت في مقام اللحاظ بأخذ ما هو متأخر فيما هو متقدم. كذلك في محل الكلام، المولى عندما يقول: يجب القصر المشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل بوجوب القصر، فقد أخذ الجهل بالوجود اللحاظي أي لاحظ الجهل بوجوب القصر فأخذه في متعلق الأمر، والمتأخر رتبة عن وجوب القصر هو الجهل الخارجي، وليس الجهل اللحاظي، فلا يرد إشكال أخذ ما هو متأخر فيما هو متقدم رتبة كي يلزم التهافت في اللحاظ.

الإشكال الأخير: وهو ان يقال: ان المكلف مخاطب بأمرين: أمر بالجامع بين القصر والتمام حال الجهل، وأمر بالقصرة مشروطة بعدم سبق التمام حال الجهل. ان يقال: بأن التمام إما مانع من استيفاء ملاك القصر، أو ليست مانعاً، إذا كان الاتيان بالتمام ليس مانعا من استيفاء ملاك القصر فلا وجه لأن يقيد القصر بعدم سبق التمام، فيقول: القصر مشروطة بعدم سبق التمام، هذا لا وجه له ما دامت التمام ليست مانعاً من استيفاء ملاك القصر، وإذا كانت التمام مانعاً من استيفاء ملاك القصر فكيف يعقل شمول الأمر بالجامع للتمام، فإن هذا مستهجن، ان يأمر المولى بفرد مفوت لامتثال أمره الآخر في نفس الوقت. أي ان يصدر المولى أمرين: امر بالجامع، وامر بالقصر، والمفروض أن أحد فردين الجامع مفوت لامتثال أمره الآخر، هذا مستهجن، ان يقول المولى: أن مأمور بطبيعي الصلاة المنطبق على القصر وعلى التمام المفوت لامتثال امري الآخر الا وهو امري بالقصر، فليس من الحكمة ان يصدر امرين مع كون امتثال أحدهما مفوت للآخر.

والجواب عن ذلك: أن مفروض البحث أن التمام مانع من استيفاء ملاك القصر، إذ لولا لم يكن مانعا من استيفاء ملاك القصر، بأن كان لدى المولى ملاكان مستقلان، ملاك في الجامع وملاك في القصر، وأحد الملاكين يغني عن الآخر من دون ان يكون مانعا منه، يلزم من ذلك انه من ترك الصلاة بالمرة فقد استحق عقوبتين لأنه فوّت ملاكين للمولى، إذن لا يمكن ان نقول هناك ملاكان مستقلان أحدهما في الجامع والآخر في القصر، من دون ان تكون التمام مانعا من استيفاء ملاك القصر، فلابد ان نقول: متى ما أتى بالتمام حال الجهل امتنع عليه استيفاء ملاك القصر. هذا لابد منه. نعم، يأتي اشكال المقربية وقد بحثناه في جواب الإيراد السباق، هل ان اشكال المقربية آت أم لا؟ يعني هل ان فعل التمام مانع من استيفاء ملا القصر مانع من كون التمام مقرباً إلى المولى فلا تقع صحيحة أم لا؟ وإلا فالتمام مانع من استيفاء ملاك القصر. إنما الكلام ما ذكر في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، وهو هل يعقل فعلية الحكم الواقعي مع قيام الحجة على عدمه؟

مثلا: شخص مأمور بصوم شهر رمضان، وهو في شهر رمضان، ولكنه لأنه سجين ولا يميز ان شهر رمضان دخل أم لا؟ فاستصحب عدم دخول شهر رمضان، فلم يصم شهر رمضان بعنوان شهر رمضان، لأنه قامت لديه حجة على عدم دخول الشهر ألا وهو استصحاب عدم دخول الشهر، فهل في حق هذا المكلف يكون وجوب صوم شهر رمضان فعليا مع عدم قيام حجة على عدم دخول شهر رمضان وهو الاستصحاب؟ فلو فرضنا أن هذا المكلف صام الشهر بعنوان صوم مستحب، وصادف انه صام شهر رمضان، فهل يمكن ان نقول: ان ما أتى به يسقط الامر بوجوب صوم شهر رمضان؟ لأن وجوب شهر رمضان فعلي في حقه وقد امتثل الحكم الفعلي؟ يقول هناك سيدنا الخوئي، نعم، لا مانع من ذلك، مع ان وجوب صوم شهر رمضان ليس محركا له وليس منبعثا عنه، لانه قامت الحجة على خلافه، فليس منبعثا عن الامر الفعلي بصوم شهر رمضان، مع ذلك يقول نعم، صوم شهر رمضان فعلي في حقه. إذ يكفي في فعلية الحكم كون متعلقه ذات ملاك، وإمكان امتثاله، وإن لم يكن ملتفتا اليه، وإن لم يكن محركاً، بل قامت الحجة على خلافه، والمفروض ان صوم الشهر هذا ذو ملاك في حق المكلف ويمكن للمكلف أن يمتثل بأن يأتي بالصوم بقصد القربة، فيقع امتثالا عن الصوم بشهر رمضان، فما دام يمكن امتثاله وهو ذو ملاك فالأمر فعلي في حقه.

بناء على ذلك نقول: إذا شخّص المولى أنّ في الجامع بين القصر والتمام جزء من الملاك، وأن الملاك في التام في القصر، لكن المكلف إن اتى بالتمام لم يستطع استيفاء الملاك التام الموجود في القصر، فمتقضى الحكمة ان يصدر أمرين: امر بالقصر لاستيفاء ملاكها التام، وامر بالجامع على تقدير عدم الإتيان بالقصر، لا اقل يستوفي بعض الملاك، فقولكم الامر بالجامع ما فائدته؟ نقول: يكفي في فعلية الأمر بشيء ان متعلق ذوو ملاك، وأنه يمكن امتثاله، والمفروض ان التمام ذوم ملاك، لأنها مشتملة على ملاك الجامع، وبها يمكن تحقق امتثال الأمر بالجامع، فشرط فعلية الأمر الامر بالجامع متحقق، الجامع ذو ملاك ويمكن امتثاله من خلال اتيانه بالتمام. لكن لتشخيص المولى إنه إن اتى بالتمام امتنع عليه استيفاء ملاك القصر، فلابد ان يقيد القصر بعدم سبق التمام حال الجهل، فصدور امرين والأمر الآخر بقصر مقيد بعدم سبق التمام هو طبق الحكمة وتشخيص موطن الملاك والغرض. هذا تمام الكلام في هذا التخريج الا وهو وجود امرين: امر بالجامع، وامر بالقصر، وقد قلنا لا اشكال فيه الا من حيث مسألة المقربية، إذا كانت التمام مانعاً من استيفاء ملاك القصر، فكيف يمكن الجمع مأموراً بها مقربة، وكونها مانعاً من استيفاء ملاك القصر.

التخريج الخامس: ان يدعى الأمر الترتبي، كما ذهب اليه كاشف الغطاء «ره» وقال هناك أمران: أمر بالقصر تعييناً، فإن عصى أو ترك لجهل فهو مأمور بالتمام. فيقول: عبدي أنت مأمور بالقصر تعيينا، فإن لم تأتي بالقصر عن جهل فأتي بالتمام. فالأمر بالتمام أمر ترتبي في فرض عدم امتثال الامر بالقصر عن جهل. وقد أورد على الأمر الترتبي بإيرادات: منها: ما أورده السيد الخوئي «قده» في «مصباح الأصول» بأن هذا مخالف لما ورد: «خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة»، وهنا الجاهل صار مأمور بست صلوت لا بخمس صلوات، لأنه مأمور بأمرين حال الجهل بوجوب القصر، أمر بالقصر تعييناً، وأمر بالتمام على فرض عدم الإتيان بالقصر، فصار المأمور به في حق الجاهل بوجوب القصر ست صلوات، وهذا مع النصوص الواردة والمستفيضة «خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة». وهذا من العجيب ان يصدر من سيدنا الخوئي «قده»، أولا: انه منقوض بموارد كثيرة، كصلاة المضطر وصلاة المختار، فلو فرضنا أن المكلف في أول الوقت مختار، يعني يمكنه أن يصلي صلاة بطهارة مائية للشرائط والاجزاء لكنه أخر وأخر حتى فقد الماء وفقد القدرة على القيام واضطر الى ان يصلي صلاة بتيمم عن جلوس، فلا إشكال ان هذا مأمور بأمرين في ذلك الوقت، كان مأموراً بصلاة اختيارية وفي نفس الوقت في آخر الوقت صار مأموراً بصلاة اضطرارية. فكيف فرضت عليه ست صلوات في اليوم والليلة. وأما الحل: فمن الواضح: ان مقصوده هذه النصوص «خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة» يعني بالعنوان الأولي، بحسب الطبع الأولي هو مأمور بخمس صلوات، ظهران وعشاءان وفجر. أما بالعنوان الثانوي بلحاظ الحالات الطارئة على المكلف فيمكن ان يكون مأموراً بأمر طولي لا عرضي، بنفس الصلاة بشكل آخر، فيقال: انت مأمور ايها المسافر بصلاة القصر تعيينا فإن لم تأتي بها عن جهل فأنت مأمور بصلاة التمام، فالأمر بصلاة التمام أمر طولي بنفس هذه الصلاة وهي صلاة الظهر أو صلاة العصر أو العشاء، ولكن بفرد آخر منها، وهذا ليس منافياً لخمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة.

والحمد لله رب العالمين.