الحلقة 9 | مناقشة نظرية الشهيد الصدر في العلم الحسي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: بأن السيد الشهيد - قدس سره - ذهب إلى أن القضايا المحسوسة من القضايا النظرية التي لا بد في إثباتها من إقامة دليل حساب الاحتمالات، وقلنا بأن السيد العلامة - قدس سره - تبنى التفصيل بين إدراك أصل الوجود وإدراك تفاصيل الوجود، إذ هناك فرق بين العلم الإجمالي بوجود المحسوس وبين العلم التفصيلي، فالعلم الإجمالي من القضايا الأولية، بينما العلم التفصيلي هو الذي يحتاج إلى إثبات، وقلنا بأن نظرية السيد العلامة - قدس سره - أقرب إلى الصحة مما تبناه السيد الشهيد قدس سره.

وبيان ذلك: إن هناك فرقًا بين إدراك أصل الوجود وإدراك كيفية الموجود، فمثلًا: إذا تعرض الإنسان لحرارة، فشعوره بأصل الحرارة أمر أولي لا يحتاج إلى إثبات، بل هو أمر يفرضه الواقع عليه ولا يجعل بيده الاختيار، فلا يبقى مجال للجسم بأن يجعل وجود الحرارة موردًا لدليل حساب الاحتمالات، وأما كيفية هذه الحرارة أو نوع هذه الحرارة، فهل هي حرارة النار؟ أو هي حرارة الشمس؟ أم هي حرارة الحركة؟ وهل هي بدرجة كذا؟ أم هي بدرجة كذا؟ فهذا هو الوجود التفصيلي للحرارة هو الذي يحتاج إلى إثبات.

ولتوضيح ذلك نورد عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

إن نفس درجة اليقين وسرعة حصوله لدى النفس في إدراك أصل الوجود في القضايا الحسية هو كدرجة اليقين وكسرعته في القضايا الأولية، فالإنسان عندما يدرك أن الأربعة زوج - وهي من القضايا الفطرية التي قياساتها معها - لأنها تنقسم إلى متساويين، فهنا يقال: إن هذه القضية من القضايا الأولية، وحتى السيد الشهيد نفسه يرى أنها من القضايا الأولية مع أنها تعتمد على قياس، ولكن لأن قياسها معها، اعتبرها من القضايا الأولية لا من القضايا النظرية.

ونحن هنا نذكر قضايا حسية ذات درجة يقين كدرجة اليقين في هذه القضايا الأولية، وسرعة حصول الجزم واليقين فيها كسرعة حصول الجزم واليقين في القضايا الفطرية التي قياساتها معها:

  • إدراك الإنسان أن له سمع وبصر.
  • وأنه لا يستطيع أن يدرك المبصرات بالسمع أو المسموعات بالبصر.
  • ولا يستطيع أن يتكلم وهو مطبق الفاه.
  • ولا يستطيع أن يأكل وهو نائم.

فهذه كلها قضايا حسية يدركها الإنسان على نحو اليقين بدرجة لا تقل عن إدراكه بأن الأربعة زوج، وعليه: فلا معنى للتفريق بينهما.

وبعبارة أخرى: إن القضايا الضرورية إما أن ترجع إلى ضرورة الإدراك أو ضرورة المدرَك، أي: إما أن يكون الإدراك من حاق العقل فنستبعد أن يكون السبب هو الدوافع العاطفية، أو تلقين المحيط الذي يعيش فيه الإنسان أو بسبب عوامل بيئية قسرية، لأن العقل إذا أدرك شيئًا استنادًا لأحد هذه الأمور فهذا ليس إدراكًا ضروريًا؛ لأنه لم ينبع من حاق العقل، وأما الإدراك النابع من حاق العقل فهو إدراك ضروري، كذلك إذا أدرك أن المسموعات لا تدرك بالبصر، والمبصرات لا تدرك بالسمع فهو إدراك من حاق العقل لا بعامل آخر.

وأما إذا كان الميزان في القضايا الضرورية هو ضرورة المدرَك، أي ثبوت المحمول للموضوع بالضرورة لا بالاستناد إلى علة أو واسطة، إذ ثبوت الزوجية للأربعة لا يحتاج إلى واسطة، وكذلك ثبوت كون المبصر لا يدرك بالسمع لا يحتاج إلى واسطة، إذن الميزان في القضايا الضرورية وهو إما ضرورة الإدراك أو ضرورة المدرَك وعلى كل حال منطبق على القضايا المحسوسة التي هي عبارة عن العلم بأصل الوجود للمحسوسات.

الملاحظة الثانية:

إننا عندما نرجع إلى الدليل الذي ذكره «كانت» - والذي اعتبره السيد الشهيد نافذة للوصول إلى هذه النظرية - وهو أنه لا يمكن أن تكون القضايا المحسوسة قضايا أولية مع وقوع الخطأ فيها، إذ الحس كثيرًا ما يخطئ، فمثلًا إذا حرّكنا النار حركة مستديرة، فإن البصر يعتقد أن هناك دائرة من النار، وهو مخطئ في ذلك، وإذا وضع الإنسان يده اليمنى في ماء حار والأخرى في ماء بارد ثم رفعهما ووضعهما في ماء ثالث، فإنه يحكم بمجرد وضع يديه في الماء الثالث أن الماء الثالث حار وبارد، مع أنه ليس كذلك، فهذا خطأ بالنسبة إلى حاسة اللمس، وذاك خطأ بالنسبة إلى حاسة البصر، وبالنتيجة: فوقوع الخطأ في المحسوسات دليل على أن القضايا المحسوسة ليست قضايا أولية بل نحتاج إلى دليل يفرز لنا الخطأ من الصواب فيها.

ولكننا نقول: إن هذا الدليل هو بنفسه يفرز لنا العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي، فيكون العلم الإجمالي بأصل الوجود أولي، والعلم التفصيلي بكيفية الموجود نظري.

وبيان ذلك: إن الإنسان عندما يخطأ في الحس، فإن ذلك يكون في ثلاث مواطن ذكرها السيد العلامة في أصول الفلسفة، والنكتة أن جميع هذه المواطن متعلقة بالعلم التفصيلي:

الموطن الأول: الخطأ في التفسير.

فحينما يقوم إنسان يدير النار بحركة مستديرة، فإن الناظر يفسر ما يرى بأنه نار مستديرة، ولكن هنا لم يكن في أصل وجود شيء في الخارج، ولكن الخطأ وقع في التفسير، أي تفسير هذه النار المتحركة بأنها نار مستديرة، فالخطأ إنما وقع في تحديد كيفية المحسوس.

الموطن الثاني: الخطأ في الحكم.

إن الإنسان يخطئ في الحكم، بينما تسلم مفردات القضية الواصلة لديه من الخطأ، فمن يضع يده اليمنى في ماء حار، ويضع يده اليسرى في ماء بارد، ثم يرفع اليدين ويضعهما في ماء ثالث، فيحكم بأن هذا الماء الثالث حار وبارد، والحال بأن آثار الحرارة في اليد اليمنى هي التي أوهمته هذا الحكم، وآثار البرودة في اليد الأخرى هي التي أوهمته هذا الحكم.

فهنا لا يوجد خطأ في المفردات، فهنالك ماء، وهنالك يد متشبعة بالحرارة ويد متشبعة بالبرودة، وكلتا اليدين موضوعتنا في الماء، فكل ذلك صحيح لا خطأ فيه، وإنما الخطأ في الحكم على أن هذا الماء بأنه حار وبارد معًا، وهذا الخطأ ناشئ من العقل، ولا من نفس اتصال الحس بالواقع الخارجي.

الموطن الثالث: الخطأ في نسبة عمل قوة لقوة أخرى.

فعندما تقول: جاء محمد إلى الدار، بينما جاء شخص آخر غير محمد، فأنت أدركت دخول رجل إلى الدار، ولكن هناك قوة متخيلة لمحمد، وهناك قوة محسوسة للرجل الذي دخل الدار والذي يشابه في صفاته وسماته محمدًا، فنتيجة هذه المشابهة: نسبت الصورة المتخيلة للصورة المحسوسة، فالذي أحسست به هو صورة رجل يحمل سمات معينة، والذي كان مرتسمًا في مخيلتك هو صورة محمد، فقمت بتطبيق الصورة المتخيلة على الصورة المحسوسة، بينما بين الصورتين فرق، فقلت: دخل محمد الدار، والحال أن محمداً لم يدخل الدار، وإنما دخل رجل مشابه له، فهنا نسبنا عمل قوة - وهي المتخيلة - لقوة أخرى - وهي قوة الإحساس -.

بعد ذلك نصل إلى النتيجة: مادام الوجود المحسوس ينفرز إلى قسمين: قسم لا يقع فيه الخطأ - وهو العلم الإجمالي بأصل الوجود -، وقسم يقع فيه الخطأ - وهو التفسير والحكم ونسبة عمل قوة لقوة أخرى -، فبالنتيجة: إن هذا يؤكد لنا وجود فرق بين العلم الإجمالي بوجود المحسوسات وبين العلم التفصيلي بكيفية المحسوسات، فالأول من القضايا الأولية، والثاني من القضايا النظرية التي تحتاج إلى دليل كدليل حساب الاحتمالات.

الملاحظة الثالثة: إن السيد الشهيد - قدس سره - فصّل بين قسمين من القضايا الحسّية: قضايا وجدانية وقضايا حسية خارجية، فالقضايا الوجدانية هي من نوع العلم الحضوري؛ لأن المعلوم حاضر بنفسه لدى النفس، كإدراك الإنسان جوعه وعطشه وألمه ولذته، فلأجل أن المعلوم - وهو حالة الجوع مثلًا - حاضر بنفسه لدى العالم، فتعتبر القضايا الحسية الوجدانية قضايا أولية؛ إذ لا توجد واسطة بين العالم والمعلوم، بينما القضايا الحسية الخارجية كالإحساس بالطاولة وبالنار، فإنّها من القضايا الحسية النظرية.

ولكن نقول: نفس ما ذكره في القضايا الحسية الخارجية يأتي بنفسه في القضايا الحسية الوجدانية. كيف؟

عندما ترتسم صورة في نفسي لشخص معين، فإن إدراكي لهذه الصورة إدراك حضوري، حيث أن الصورة بنفسها حاضرة لدى النفس؛ وعليه: فإدراكي للصورة إدراك أولي لا يحتاج إلى دليل، ولكن الكلام كل الكلام في هوية صاحب الصورة؟ فهل هي صورة صديقي أم صورة عدوّي؟ وهل أن النفس تعاملت مع هذه الصورة بالألم والحزن؟ أم تعاملت معها باللذة والفرح؟ وهل هذه الصورة قديمة أم جديدة؟

فهذه المعرفة التفصيلية لما هو حاضر بنفسه في الوجدان تحتاج إلى دليل حساب الاحتمالات، مع أن المعلوم حاضر بنفسه لدى العالم، إلا أن هناك فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي، فالعلم الوجداني بأصل وجود الصورة في النفس علم بديهي، وأما تفاصيل الصورة وسماتها فهو مما يحتاج إلى عملية تقوم بها النفس بالمقارنة بين الصور المختلفة إلى أن تصل إلى حد الجزم بهذه السمات.

فكما أن القضايا الحسية هي على قسمين، فإن القضايا الوجدانية كذلك قسمان، لا أن القضايا الوجدانية كلها من قبيل القضايا الأولية كما فُرض في كلام السيد الشهيد قدس سره.