الحلقة 10 | مراحل الإدراك الحسي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في التأمل فيما أفاده السيد الشهيد قدس سره من أن القضايا الحسية ليست من القضايا الأولية، بل هي من القضايا النظرية التي يحتاج إثباتها إلى إقامة دليل حساب الاحتمالات.

وذكرنا في الجلسة السابقة أن هناك مجموعة من الملاحظات في هذه النظرية، ووصل بنا الكلام إلى الملاحظة الرابعة منها.

الملاحظة الرابعة: إننا إذا استطعنا أن نفرز موطن الخطأ في القضايا الحسية فقد استطعنا أن نصل إلى أن القضايا الحسية هل هي من القضايا الأولية أو هي من القضايا النظرية؟

ومن أجل بيان ذلك نتعرض إلى عدة مطالب في هذه الملاحظة:

المطلب الأول: ما هي المطابقة؟ وما هي أركانها؟

عندما يقال: إن القضية خطأ أو إن القضية صواب، فإن مرجع الصواب والخطأ إلى المطابقة وعدمها، وتوضيح ذلك: إننا نرى أن بين الأشياء الخارجية المادية نسبة المطابقة، فمثلاً: عندما نقوم بتطبيق متر من القياس على متر من القماش، يقال: تطابق متر القياس مع متر القماش، وأما عندما نطبق متر القياس على النقطة التي لا امتداد لها فلن تحصل هناك مطابقة.

وكما أن بين القضايا الخارجية مطابقة، فكذلك بين الأفكار وواقع الأفكار توجد مطابقة، وهي معيار الخطأ والصواب، ولكن ما هي أركان هذه المطابقة؟

والجواب عن ذلك: إنّ المطابقة لها ثلاثة أركان: النسبة ووحدة القياس والحكم، ومن غيرها لا تكون هناك مطابقة يُتصوَّر بلحاظها الخطأ والصواب.

الركن الأول: وجود نسبة.

إذ لو تصور الإنسان في ذهنه صورة البيت أو صورة الجهاز أو صورة محمد، فإن هذه الصورة مفهوم إفرادي، والمفهوم الإفرادي المجرد من النسبة لا يتصف بخطأ أو صواب.

الركن الثاني: أن يكون هناك نسبة مقيسة إلى شيء، وبين المقيس والمقيس عليه وحدة.

فمثلاً: عندما نقول بأن الأربعة أكبر من الثلاثة فهذه نسبة توفر الشرط الأول، لكن لو قسنا هذه النسبة إلى أمر ليس بينه وبينها أيّة وحدة لاختل الركن الثاني، كما لو أردنا معرفة حقيقة هذه النسبة فقسناها على أن الثلج أقل حرارة من النار، مع أنه لا ربط بينهما، فلا يمكن أن نقول بأن القضية الأولى اتصفت بالخطأ لأنها لم تطابق القضية الثانية؛ إذ ليس بين المقيس والمقيس عليه وحدة كي يقال بلحاظ تلك الوحدة أن هناك صواباً أو خطأً.

الركن الثالث: أن يكون هناك حكم.

فلو فرضنا أن هناك نسبة تصورية من دون أن يكون هناك حكم في البين، فحينئذ لا يمكن أن تتصف القضية بالخطأ أو الصواب.

فمثلاً: عندما أتصور في ذهني سيارة متحركة فهذا مجرد صورة خيالية، أي أنها من قبيل العلم التصوري لا من قبيل العلم التصديقي، فإن هذه السيارة المتحركة لم أنظر إليها حاكية عن واقع، ولم ألحظها على نحو ما به يُنظر بحيث تحكي واقعاً وراءها، فهنا توجد نسبة ولكن ليس هناك حكم، فلا يمكن أن تتصف هذه القضية بالخطأ أو الصواب.

المطلب الثاني: هل يوجد خطأ في القضايا الحسية؟

عندما نحلّلل القضايا الحسية، نجدها تمر بمراحل أربع لا خطأ فيها إطلاقاً:

المرحلة الأولى: تفاعل الحس مع الواقع الخارجي.

فمثلًا: مرّت سيارة أمام عيني، ونتيجة انعكاس الأشعة على شبكية العين انتقلت صورة السيارة إلى ذهني، فهنا لا يوجد أي خطأ.

المرحلة الثانية: عندما يقوم الذهن بتحليل الصورة، يرى أن الصورة فيها مجموعة نسب:

نسبة اللون: هل لون السيارة أبيض أم أسود؟

نسبة الحركة والسكون: هل كانت متحركة أم ساكنة؟

نسبة الشكل: شكل السيارة المتحركة مثلث أم مستدير أم مستطيل؟

نسبة القرب والبعد: الصورة قريبة أم بعيدة؟

نسبة الكبر والصغر: كبيرة أم صغيرة؟

فهذه النسب كلها تجتمع في هذه الصورة التي انطبعت وارتسمت في الذهن، وهنا أيضًا لا يوجد أي خطأ.

المرحلة الثالثة: مرحلة تمليك الصورة.

فالذهن استقبل الصورة، وقام بتحليلها، والآن يقوم بوضع الصورة النهائية لما ارتسم فيه، وهنا أيضاً لا يوجد أي خطأ فيما يقوم به الذهن من تجميع العناصر والأجزاء التي تكوّن الصورة الكاملة.

المرحلة الرابعة: مرحلة الحكم.

بمعنى أن الذهن يلحظ هذه الصورة مقيسة إلى الخارج، فهو يلحظها على نحو ما به يُنظر، فلو افترضنا أن الخارج لا يوجد فيه أي سيارة متحركة، وقلنا: هذا الحكم خطأ، فأين هو موطن الخطأ في هذا الحكم؟

ومن هذا تبين لنا أن المراحل التي تمر بها الصورة الحسية لا توجد فيها أي خطأ، وعندما وصلنا إلى المرحلة الرابعة - ألا وهي مرحلة الحكم - قلنا بأن هناك خطأً؛ لأننا لا نرى هذا الحكم متطابقاً مع الخارج، فأين موطن الخطأ في الحكم؟

المطلب الثالث: الحكم ليس فيه خطأ بما هو شأن من شؤون النفس، فإن الحكم هو فعل نفسي، وكما أن الصور التي ترتسم في النفس هي من قبيل العلم الحضوري - أي أن علم النفس بالصورة علم حضوري - والعلم الحضوري لا يخطئ، فكذلك ما تقوم به النفس من أفعال لا خطأ فيها، وقيام النفس بالحكم يعني قيام النفس بلحاظ القضية والصورة مقيسة إلى الخارج، فهذا العمل النفسي الذهني ليس فيه خطأ، بل علم النفس به علم حضوري لا خطأ فيه، فليس الخطأ في الحكم من حيث كونه فعلاً معلوماً للنفس علماً حضورياً.

ولأجل ذلك، هذا الحكم تستطيع أن تجعله مفهوماً إفرادياً ولا تجد فيه خطأ، فتقول عن «السيارة متحركة»: حركة السيارة، و«حركة السيارة» مفهوم إفرادي لا يقبل الاتصاف بالخطأ والصواب.

وبما أن الحكم بما هو هو مفهوم حرفي متقوم بطرفين: سيارة وحركة، فإنك تستطيع أن تجعله مفهوماً اسمياً وموضوعاً لقضية أخرى، فتقول مثلًا: حركة السيارة تغاير حركة الطائرة.

وعلى ذلك، فنفس الحكم بما هو حكم لا يتصف بالخطأ أو الصواب، بل هذا الحكم نفسه تستطيع أن تجعله علماً تصوريا بحتاً - لا يستتبع جزماً - فلا يكون متصفاً بالخطأ والصواب، فإذا كان الحكم بما هو فعل من أفعال النفس لا يتصف بالخطأ، فمتى يتصف بالخطأ؟ وأي نكتة تقتضي اتصافه بذلك؟

المطلب الرابع: لا يخفى أن الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يمكن أن يرتفعا معاً؛ فإن ارتفاعهما من قبيل ارتفاع النقيضين، وهو محال.

وبناء على هذه القاعدة نقول: لا يمكن أن تكون القضية لا خطأ ولا صواب، ولا يمكن أن تكون القضية خطأ وصواباً، بل كل قضية تتضمن خطأ تتضمن صواباً، فأي قضية نفترضها سوف نكتشف أنها من جهة خطأ ومن جهة صواب، فمثلاً عندما نقول: جاء محمد إلى البيت، مع أنه في الواقع ما جاء إلى البيت، فأين الخطأ في القضية؟

نقول: إما في الموضوع، وإما في المحمول، وإما بلحاظ متعلق المحمول والموضوع، فلعل محمدًا وضع رجله على عتبة البيت، لكن الذهن بدل صورة وضع الرجل على العتبة جعل الصورة «مجيء»، مع أنه لم يكن مجيئاً، فهنا الخطأ في الموضوع. وقد يكون هناك مجيء لكن الجائي ليس محمداً بل هو علي، إلا أن الذهن قد وضع صورة محمد بدل صورة علي. وربما محمد جاء فعلًا، إلا أنه لم يأت إلى البيت، بل جاء إلى بيت الجيران، لكن الذهن وضع صورة مجيء محمد إلى البيت بدل صورة مجيء محمد إلى بيت الجيران، فأين الخطأ؟

في الصورة الأولى: وَضْعُ محمد رجله على عتبة البيت قضية صائبة وليست مخطئة.

في الصورة الثانية: مجيء علي إلى البيت أيضاً قضية صائبة وليست قضية خاطئة.

في الصورة الثالث: مجيء محمد إلى بيت الجيران أيضاً قضية صائبة وليست قضية خاطئة.

وإنما الخطأ في عمل القوة المتخيلة، وإلا فالصورة المحسوسة ليس فيها أي خطأ، ولكن القوة المتخيلة تضع صورة مكان صورة أخرى؛ لتشابههما.

فتارة القوة المتخيلة وضعت صورة المجيء مكان صورة وضع الرجل على العتبة، فنشأ عن ذلك الخطأ. وتارة أخرى وضعت القوة المتخيلة صورة محمد مكان صورة علي؛ لتشابههما، فحصل الخطأ. وتارة ثالثة وضعت القوة المتخيلة صورة مجيء محمد إلى البيت مكان صورة مجيء محمد إلى بيت الجيران.

ومن خلال هذا التحليل وصلنا إلى أنه لا يوجد خطأ في القضايا الحسية، بخلاف ما ذكره السيد الشهيد قدس سره الشريف، من أن وقوع الخطأ في القضايا الحسية شاهد على أنها ليست قضايا أولية، ولذلك يحتاج إثباتها إلى دليل حساب الاحتمالات.

فقد تبين لنا أنه لا يوجد خطأ في القضايا الحسية إطلاقاً، بل مركز الخطأ في عمل القوة المتخيلة التي تضع صورة مكان صورة، وإلا فالقضية الحسية لو جُرّدت من عمل القوة المتخيلة لما كانت قضية متصفة بالخطأ.

ولو صحّ إخراج القضايا الحسية عن إطار القضايا الأولية وإداخلها في إطار القضايا النظرية بسبب القوة المتخيلة، لصحّ ذلك حتى في القضايا الفكرية والوجدانية، فمثلاً: عندما يقول لنا الملحد: الله ليس موجوداً، نقول: هذه القضية خطأ، مع أن وجود الله ليس قضية حسية، بل هي من أبده القضايا، فمن أين جاء الخطأ؟

والجواب عن ذلك: إن الخطأ قد يكون في صورة الموضوع، وقد يكون في صورة المحمول، كما لو تصور الملحد أن الله هو عبارة عن قوة مادية وراء الطبيعة، فهذا خطأ في الموضوع، إذ لا يوجد قوة مادية وراء الطبيعة.

وأما الخطأ في المحمول فكما لو قال شخص: الله كما هو - واجب الوجود - ليس بموجود، ويقصد بالموجود الوجود المادي المحدود بزمن أو مكان، فيكون معنى قوله: الله ليس بموجود، هو أنه ليس بموجود في إطار عالم المادة.

فالخطأ في التحفظ على نفس الموضوع ونفس المحمول وتصرف القوة المتخيلة في إبدال أحدهما مكان الآخر.

والخلاصة: بما أنه لا خطأ في القضايا الحسية في حد ذاتها، وإنما مركز الخطأ في الحكم وتصرف القوة المتخيلة، إذن بالنتيجة: ما أفيد لا يثبت أن القضايا الحسية ليست قضايا أولية وإنما هي قضايا نظرية.

الملاحظة الخامسة: إن السيد الشهيد قدس سره - كما في الجزء الرابع من كتابه في علم الأصول - قاس الصورة المحسوسة حال الوعي على الصور الحسية حال النوم، فقال: إن الإنسان قد ينام ويرى في النوم أنه سافر إلى مشهد ورأى فلاناً ورأى كذا، ثم يجلس من النوم ويرى أن هذه الصور التي رآها في النوم لا واقع لها، مع أنها صور مرتسمة، فلو رأى هذا الإنسان في عالم اليقظة صورًا وارتسمت في ذهنه فلا دليل على أن هذه الصور صحيحة، إذ من حيث الصور لا فرق بين الموردين، بل كما أن الإنسان في حال اليقظة يرى في ذهنه صوراً، فإنه في حال النوم يرى في ذهنه صوراً، فما معنى أن هذه الصور لا واقع لها وتلك الصور صحيحة؟ عدم وجود واقع للصور في الفرض الأول يعني أن الصور الحسية في عالم اليقظة لا دليل على صحتها وأن إثبات صحتها يحتاج إلى دليل، ألا وهو دليل حساب الاحتمال.

ما هو تعليقنا على هذا المفاد الذي ذكره السيد الشهيد قدس سره؟

أولاً: ليست جميع الصور الموجودة أو المرتسمة حال النوم لا واقع لها، بل أحياناً تكون هذه الصورة متطابقة مع واقع، غاية ما في الأمر أن الواقع لم يحصل بعد، بل سيحصل في المستقبل، ولكنها على كل حال صور متطابقة مع واقع، سواء كان واقعاً فعلياً أم واقعاً مستقبلياً.

ثانياً: لو فرضنا أن هذه الصور لا واقع لها، فإن قياس الصور الانفعالية على الصور الفعلية قياس مع الفارق، إذ الصور التي يراها النائم صور فعلية لا انفعالية، وأما ما يراه الإنسان حال اليقظة فهو من مقولة الانفعال لا الفعل، أي أنه من العلم الانفعالي الناشئ عن انفعال عمّا في الواقع.

وبالتالي لا يصح قياس أحدهما على الآخر، فقد اشترطنا في المطابقة أن تكون هناك وحدة قياس، وهذا يعني أن عدم الواقعية للصور التي هي من قبيل مقولة الفعل لا يستلزم عدم الواقعية في الصور التي هي من قبيل مقولة الانفعال.

ثالثاً: إن النقطة المهمة هي: ماذا يريد السيد أن يصل بهذا الاستدلال؟ فهل يريد أن يصل به إلى أنه كما أن الصور التي يراها النائم في أحلامه لا واقع لها إذن الصور التي يراها المستيقظ مما يحتاج إلى دليل الاحتمالات؟ فهنا نقول: لا ملازمة بين الأمرين.

وإذا كان يريد أن يصل إلى هذه النتيجة: بما أن الصور التي يراها النائم في أحلامه ليس لها واقع، فإذن الصور التي يراها المستيقظ حال يقظته قد لا تكون مطابقة للواقع، فمراده أن يصل إلى هذه النقطة فقط: «قد لا تكون مطابقة للواقع»، وهذا المقدار صحيح لكنه لا يثبت أن القضايا الحسية قضايا نظرية يحتاج إثباتها إلى دليل حساب الاحتمال، بل غاية ما يفيد هذا الاستدلال أن الصور المحسوسة حال اليقظة قد لا تكون مطابقة للواقع، وهذا أمر صحيح يسلّم به الجميع، لكن هذا لا يعني أنها قضايا نظرية يحتاج إثباتها إلى دليل حساب الاحتمالات؛ لما ذكرناه سابقاً من أنه قد لا تكون مطابقة للواقع لكن السر في عدم المطابقة هو خطأ الحكم، والسر في خطأ الحكم هو تصرف القوة المتخيلة، لا أن القضايا الحسية في نفسها قضايا نظرية يحتاج إثباتها إلى دليل حساب الاحتمالات.

الملاحظة السادسة: ذكر السيد العلامة صاحب الميزان أعلى الله مقامه تفصيلًا في القضايا الحسية حاصله: إن إدراك أصل القضايا الحسية إدراك بديهي من القضايا الأولية، وأما العلم التفصيلي في القضية الحسية فهو الذي يحتاج إلى منبه، وقد يكون المنبّه دليل حساب الاحتمالات.

وما ذكره هو الصحيح؛ فقد يتعرض الإنسان إلى مثير حسي، كما لو تعرض إلى حرارة ففرضت الحرارة نفسها عليه، فهنا لا مجال لإقامة دليل الاحتمالات أبداً أبداً، بل تعرض الإنسان للحرارة اقتضى أن الحرارة فرضت نفسها عليه فارتسمت صورة الحرارة من حيث يريد أو لا يريد في ذهنه، وهنا نقول: العلم الإجمالي بوجود حرارة أمر من القضايا الأولية، وأما تفاصيل هذه الحرارة: هذه الحرارة من النار، أو من الشمس، أو من الحركة؟ كم درجة هذه الحرارة؟ فهذه القضايا التفصيلية يحتاج إثباتها إلى منبّه، وقد يكون هو دليل حساب الاحتمالات.

لماذا نقول بأن إدراك أصل القضايا الحسية هو من الأمور الأولية؟

لأن المناط في كون هذه النسبة قضية أولية هو أن النفس تجزم بها وتجزم بعدم انطباقها على غيرها، أي أن النفس تجزم بأمرين: بجانب ثبوتي وبجانب سلبي، ونتيجة الجزم بهذين الجانبين تعتبر القضية قضية أولية.

مثلاً في علم المنطق يقولون: الكلي ينتزع من الجزئيات، كما لو كان أمامي محمد وعلي وحسن وحسين، فانتزعت من هذه الجزئيات صورة كلية، وهي صورة الإنسان المسمى باسم شريف، ولكن ما هو الدليل على أن هذه الصورة الكلية منتزعة من هذه الجزئيات؟ ولماذا لا تكون هذه الصورة فعلاً من أفعال النفس وليست منتزعة من الجزئيات؟

يقولون: النفس عندما تدرك هذه الصورة تدرك الجانب الثبوتي لها وهو انطباقها على هؤلاء الأفراد، وتدرك الجانب السلبي وهو عدم انطباقها على غيرهم، هل تنطبق هذه الصورة على «مايكل»؟ هل تنطبق هذه الصورة على «سوزان»؟ لا، بل هذه الصورة تنطبق على هؤلاء ولا تنطبق على غيرهم، فجزم النفس بانطباق الصورة على مورد وعدم انطباقها على غيره يجعل إدراك النفس للصورة إدراكاً أولياً؛ ولذلك قالوا: الكلي منتزع من الجزئيات وليس مختلقاً من النفس.

ونفس هذا الاستدلال يأتي في إدراك أصل القضايا الحسية، فالإنسان قد يتعرض جسمه لمثير خارجي، كما إذا تعرض للحرارة، ففرضت الحرارة نفسها عليه، وارتسمت صورة للحرارة في ذهنه، فالذهن خلال لحظة من ترليون ثانية يدرك هذه الصورة ويجزم بها، غيجزم بأن هنا حرارة ويجزم بعدم انطباق هذه الصورة على غيرها، كالثلج والحجر.

إذن جزم النفس بالعنصر الإيجابي للصورة والعنصر السلبي لها يجعل إدراك النفس للصورة إدراكاً أولياً، وهذا منطبق على إدراك أصل القضايا الحسية، وأما التفاصيل فتحتاج إلى منبّه كدليل حساب الاحتمالات.

وبذلك انتهينا من هذا البحث، وهو بحث الأوليات، ومنها القضايا الحسية، ويأتي بحث مهم في نظرية المعرفة، ألا وهو: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ نبحث هذا في الجلسات القادمة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين