صور التقوى ومراتبها

شبكة المنير

أحيت مؤسسة الأبرار الإسلامية ذكرى استشهاد أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب ، فأقامت مجلسا بالمناسبة تحدث فيه سماحة السيد منير الخباز، الذي تحدث حول: ”صور التقوى ومراتبها“، وذلك يوم الخميس 4 أكتوبر 2007. حضر المجلس جمهور من المؤمنين.

بسم الله الرحمن الرحيم

ضوابط العمل الذي يقوم به الإنسان على نوعين:

 فإذا كان عملا بالواجبات وانتهاء عن المحرمات خارجا فهو استقامة.

 أما التقوى فهي من التصرفات التي تقوم بها نفس الإنسان، وينعكس أثرها على سلوكه الخارجي.

فالتقوى إذن هي أن تضع النفس في صراط العبودية لله، ومن الحكمة وضع الشيء في موضعه، وإذا وضع المرء نفسه في الوضع اللائق بها فقد تصرف بحكمة، وعندما يضع الإنسان نفسه في غير موضعها فهو خلاف الحكمة.

الإنسان إذا قرأ نفسه بتجرد وبعيدا عن الرواسب والمؤثرات الخارجية، سيجدها عين الحاجة والضعف، فهو لا يستطيع إن يدفع عنها الضرر، فمهما بلغ من الكبر فهو ضعيف لا يملك حول ولا قوة وبالتالي سيقوده هذا الإحساس إلى أن يضع نفسه في المحل المناسب وهو المملوكية لله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، فمن الحكمة وضع النفس موضع العبودية والمملوكية لله وقد ورد في الحديث عن النبي : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“.

فالله هو الذي يتصرف فيها، والنفس مملوكة لله، وإذا وضع الإنسان نفسه في الموضع الذي خلقت من اجله، فقد حقق التقوى.

صور التقوى:

عندما نرجع إلى مقالات علم العرفان نجد أن الله له تجليات في نفوس عباده، كما جاء في الحديث القدسي: ”كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف“. وتعرف الله للناس من خلال أنفسهم، ووضع في كل نفس إنسانية نورا من أنواره وهذا ما أشارت إليه الآية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]

وعن الإمام علي ”معرفة النفس أنفع المعارف“.

فهنالك معرفتان:

1  معرفة آفاقية لله وهي معرفة فكرية وعقلية.

2  ومعرفة النفس وهي معرف وجدانية وشعورية.

فالإنسان حين يشعر بالجوع والعطش والفرح والحزن هي معرفة وجدانية، ولهذا إذا قرأ الإنسان نفسه سيجد الله في نفسه وهي معرفة شهودية ووجدانية، ”يا من دل على ذاته بذاته“. هنا الوصول إلى الله ليس من خلال مخلوقاته بل من خلال تجليه في روحه وقلبه.

إذن لله تجليات للمخلوقين والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وطريق الإنسان إلى الله هو من خلال نفسه. وباختلاف ذلك التجلي تختلف أساليب الناس في التعامل مع الله.

صورة الخوف:

الله تجلى لبعض المخلوقين من خلال القوة فصاروا يعبدونه خوفا، وتجلى لآخرين من خلال نعمه فصاروا يعبدونه رجاءا، والقسم الذي تجلى الله في قلبه من خلال مبدأ القوة أي من خلال القوة المهيمنة على الوجود بأسره، سيتعاملون مع الله بتعامل الخوف والحذر من بطشه وعقوبته، وهؤلاء يعيشون في حالة خوف قلق: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولهذا هم احرص على اجتناب المحرمات من أي قسم آخر.

صورة الرحمة:

هنالك نوع آخر من التجليات وهو الذي يتجلى الله في قلوبهم من خلال مبدأ الرحمة، وهؤلاء يلاحظ عليهم التفاؤل والأمل لان الله تجلى في قلبه من خلال مبدأ الرحمة، فتراهم أكثر من غيرهم اجتماعيا، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا قالت ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ وتريد أن تقول أن الذين تجلت في قلوبهم رحمة الله انعكس ذلك على سلوكهم فأصبحوا متواضعون وبلا تكبر، إنهم يضبطون انفعالاتهم ومشاعرهم ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، هؤلاء يعبدون الله رجاء، ولهذا تجدهم دائما عندهم سعة بان الله سيغفر لهم، وهم يعولون على الأعمال الخيرة والأفعال القريبة ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

صورة المحبة:

القسم الثالث هو الذي تجلى الله في قلبه من خلال مبدأ الجمال، فأدرك جمال الخلق والاستقامة، فالإنسان ينجذب للجمال الطبيعي، وهذا الجمال محدود ومشوب بالنقص، فكيف إذا أدرك الجمال المطلق الذي لا حد له، فانه سينجذب ويكون محبا لله.

هذا القسم أدرك جمال الله من خلال الحسن الذي ظهر في الوجود ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.

ولهذا أحبوا الله فعبدوه حبا، يقول الإمام علي : ”ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك“. الإمام علي امتلأ حبا لله لأنه أدرك جمال الله وكان يقول ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“.

كيف نتعامل مع الصلاة؟

إننا نتعامل معها كوظيفة وثقل يقع على عواتقنا، أما علي فيتعامل مع الصلاة على أنها لقاء مع المحبوب ولقاء الجمال ولذلك يعشق الصلاة ويحبها. الجنة متاع ولذائذ مادية، ولكن علي يقول: أنا أحب ما هو أعظم من المتع المادية، أنا أحب جمال الله الذي لا حد له ولا أمد له.

مراتب التقوى:

القران يقول ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، درجات التقوى هي درجات حب الله، نجد أننا نقول إننا نحب الله ولكن هل حبنا له حقيقي أم صوري، يقول الله على لسان نبيه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي.

والإمام الحسن يقول:

تعصي الاله وانت تظهر حبه=هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته=إن المحب لمن يحب مٌطيع

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، فهل نحن نحب الله فعلا؟ لحب الله مظاهر ودرجات:

درجة الخضوع:

الدرجة الأولى: من درجات حب الله خضوع القلب والجوارح، فالإمام علي شاهد شخص يصلي وهو يعبث بلحيته فقال: ”لو خضع قلبه لخضعت جوارحه“.

درجةالرضا:

الدرجة الثانية، الرضا وهي درجة كبيرة يختص بها الأولياء، نسلم لله بقضائه وقدره، لأننا لا نمتلك التغيير وليس لدينا وسيلة، ولكن هل نحن راضين عن المصائب التي يقدرها الله لنا؟

لا، لأنني لا املك التغيير، هنالك بشر يرضون بالمصائب ويعتبرونها نعمة وليست نقمة، يعتبرون أن الله لا يفعل بهم إلا جميلا. فمن أحب الله لجماله فسيرى كل ما يفعله الله جميلا، فالوجود كله جمال وخير فلذلك يرضون بما يقدره الله لهم ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، زينب عندما قال لها عبيد الله بن زياد، كيف رأيت ما صنع الله بأخيك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلا.

هؤلاء وصلوا إلى الرضا بقضاء الله وقدره فهم يعيشون اطمئنانا ولا يقلقون. الإنسان إنما يدخله القلق خوفا من المصائب والآية الكريمة قرنت الاطمئنان بالرضا ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

درجة التسليم

المرتبة الثالثة: الإنسان المسلم هو الذي لا يرى الإثنينية، فهو لا يرى إلا الله، ولا يرى شيئا إلا الاستسلام، فالإمام علي : ”ما رأيت شيئا إلا وأرى الله قبله وبعده“. ”ولو كشف الغطاء ما ازددت يقينا“.

هاتان المرتبتان «الرضا والتسليم» عبر عنهما الإمام الحسين في يوم عاشوراء حين قال : ”اللهم رضا بقضائك وتسليما بأمرك“. فالإمام الحسين عاش إلى آخر لحظات حياته بحالة من الرضا والاطمئنان والعشق. والإمام علي عاش الاطمئنان والرضا بربه ولهذا حين أصابه القدر المشؤوم قال : ”فزت ورب الكعبة“.

فهو يقول حياتي بدأت في الكعبة وانتهت في بيت الله، بدأت بالصلاة وانتهت بالصلاة، ولهذا أوصى في آخر حياته: ”الله الله في الصلاة“، وأوصى بنيه حين قال لهم: ”بني حسن، بني حسين، كونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا، الله في الفقراء والمساكين“.