البعد الإجتماعي في الشخصية المحمدية

الليلة الأولى من محرم الحرام 1441هـ

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث حول هذه النقطة: كيف يصبح الإنسان رحمةً للآخرين؟ كيف يتحول الإنسان من كونه أنانيًا لا يفكر إلا في نفسه، إلى أن يكون رحمة لغيره؟ وهذا يقتضي أن نتكلمَ في محاور أربعة:

  • المحور الأول: تحليل جهاز السلوك الاجتماعي
  • المحور الثاني: البعد الاجتماعي جيني أم اكتسابي في الإنسان؟
  • المحور الثالث: الصراع بين الأنا والغير.
  • المحور الرابع: معالم الرحمة المحمدية التي تجلت في شخصية النبي محمد .
المحور الأول: تحليل جهاز السلوك الاجتماعي.

الدكتور كريستاكس لديه كتاب الأصول التطورية لمجتمعٍ جيد، هو متخصص في الصحة الاجتماعية، يحلل لنا جهاز السلوك الاجتماعي. جهاز السلوك الاجتماعي لدى الإنسان يتألف من بعدين:

  • الحس الاجتماعي
  • والجناح الاجتماعي.

ما معنى ذلك؟

البعد الأول: الحس الاجتماعي.

هو عبارة عن القدرة على أن تصنع حبًا، أن تصنع صداقةً، القدرة على أن تتعلم أو تُعلِّم. كل إنسان منا بفطرته، بطبيعته، يمتلك هذه القدرة. كل إنسان بفطرته يمتلك القدرة على أن يصنع حبًا، على أن يصنع صداقةً، على أن يعلِّم، على أن يتعلم. هذه القدرة الفطرية، الطبيعية في كل إنسان هي عبارة عن الحس الاجتماعي. كل إنسان يمتلك بالفطرة حسًا اجتماعيًا. القرآن الكريم يؤكد هذه الجبلة الفطرية في الإنسان عندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ما معنى التعارف؟ القدرة على التعارف يعني القدرة على صنع صداقة، القدرة على صنع محبة، القدرة على أن أكتسب تجربتك، وأن تكتسب تجربتي، القدرة على التعليم والتعلّم. هذا هو ما يعبر عنه بالحس الاجتماعي.

البعد الثاني: الجناح الاجتماعي.

الإنسان أيضًا بطبعه وجبلته يميل إلى الفريق المشابه أكثر من ميله للفريق المختلف. حتى نوضح هذا الموضوع: أقيمت تجارب 2011 على مجموعة من الأطفال. مجموعة من الأطفال أُلبِسوا قميصاً بلون أحمر، وأُلبست مجموعات من الأطفال أقمصة بألوان أخرى، وجدوا أن الطفل الذي يلبس قميص بلون أحمر يميل إلى الطفل المماثل إليه، إلى الطفل المشابه إليه، يعني إلى الطفل الذي يرتدي قميصًا بنفس اللون. يعني أن الإنسان بفطرته وجبلته يميل إلى الفريق المشابه، من يشبهني أكثر من ميلي إلى من؟ يختلف معي. أنا أميل لمن هم أبناء قبيلتي، لمن هم أبناء بلدي، لمن يحملون عاداتي وتقاليدي أكثر من ميلي إلى الإنسان المختلف. إذن هناك بعدان متأصلان في شخصية الإنسان يكونان الحس الاجتماعي والجناح الاجتماعي. كل منهما غريزة، الحس الاجتماعي غريزة والجناح الاجتماعي غريزة. نرى الآن الطفل وهو عمره سنة، سنتان إذا رأى طفل أمامه يندمج معه أوتوماتيكيا، لا يحتاج إلى تعليم. الحس الاجتماعي غريزة فطرية يندمج مع الطفل الأخر في اللعب ويذهل عن الاختلاف. ربما الطفل الأخر يختلف معه في الجنس، ربما الطفل الأخر يختلف معه في الشكل، ربما الطفل الأخر يختلف معه في البيئة، لكن الطفل لا يلتفت إلى هذه الفوارق، يندمج مع الطفل الأخر ويلعب معه ذاهلاً عن الفوارق والحواجز. يعني الحس الاجتماعي فطري.

كذلك الجناح الاجتماعي أيضًا فطري. نحن الآن عندما نلتقي مع إنسان في السوق، في الجامعة، كيف نتعرف عليه؟ نتعرف عليه، نسأله عن اسمه، بلده، بيئته، هذا السؤال كل سؤال عن المميزات سؤال عن الفوارق. بينما نحن نستطيع أن نقيم علاقة مع الآخر بدون أسئلة. نستطيع أن نقيم علاقة مع الآخر حتى بدون لغة. نستطيع أن نشترك مع الآخر في عمل بدون لغة. مع أننا نستطيع أن نندمج مع الآخر من غير الحاجة إلى لغة، من غير حاجة إلى حواجز، لكن نحن بطبيعتنا عندما نتعرف نقول: ما اسمك؟ ما بلدك؟ ما لغتك؟ ما تخصصك؟ يعني نضع فواصل بيننا وبينه، هذا ما يسمى بالجناح الاجتماعي. إذن هناك حس اجتماعي، وهناك جناح اجتماعي. لذلك، يحتاج الإنسان إلى عملية توازن. كيف يوازن ويوفق بين الحس الاجتماعي؟ أن يندمج مع الآخر ولو اختلف معه. وبين ميله الطبعي لمن يشبهه، لمن يلتقي معه في الثقافة أو في العادات والتقاليد. يحتاج إلى عملية توازن. لذلك ورد عن النبي محمد : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون“ المؤمن يألف ويؤلف.

المحور الثاني: البعد الاجتماعي جيني أم اكتسابي في الإنسان؟

هل الثقافة الاجتماعية جين في الإنسان أم مكتسبه من بيئته ومن محيطه. لابد من التفريق بين مصطلحين علميين:

  • الحس الاجتماعي
  • والثقافة الاجتماعية

المصطلح الأول: الحس الاجتماعي.

فطري كما شرحنا في المحور الأول.

المصطلح الثاني: الثقافة الاجتماعية.

ما الذي تعنيه الثقافة الاجتماعية؟ يعني: هل أن دماغ الإنسان مبرمج منذ البداية على المهارات الاجتماعية؟ هذا معنى أن الثقافة الاجتماعية قضية جينية لأن دماغنا من الأول مبرمج على المهارات الاجتماعية. أم أننا نكتسب المهارات من بيئتنا، من محيطنا؟ لا يوجد لدينا بحث علمي حاسم يحسم لنا النتيجة، هل الثقافة الاجتماعية جين أم اكتساب. ليس لدينا بحث يحسم النتيجة لكن إذا لاحظنا السمات المشتركة بين الإنسان وبين الحيوان، هناك سمات مادية مشتركة، هناك سمات نفسية مشتركة. إذا لاحظنا السمات المشتركة سوف نصل إلى مؤشر أن المهارة الاجتماعية أيضاً فطرية في الإنسان، كيف؟ نلاحظ إلى عام 1964 كان الأطباء يتحيرون في علاج الأضرار التي تلحق بصمامات قلب الإنسان، كيف يعالجوا الأضرار التي تلحق بصمامات القلب؟ إلى أن جاء الجراح الفرنسي كاربنتير توصل إلى أن العلاج زراعة صمامات من قلب الخنزير في الإنسان. تمت العملية ونجحت إلى يومنا هذا. إذن، هناك مشتركات مادية بين الإنسان وبين الحيوان. كما أن هناك سمات مادية مشتركة، هناك سمات نفسية أيضًا مشتركة.

التجارب دلت على أن الحيوان يعيش مثلنا ثقافة اجتماعية. الأفيال، القردة، الحيتان، الطيور، تعيش ثقافة اجتماعية. ألفة، محبة، تعاون، بناء مجتمع ما بينها، اعتراف بالهوية، محافظة على الهوية. نفس الثقافة الاجتماعية التي نحن نعيشها تعيشها هذه الحيوانات. القرآن يؤكد هذه النقطة ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم أمم يعني مجتمعات، يعني لديها ثقافة اجتماعية مثلنا ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ هذا مؤشر إلى أن الثقافة الاجتماعية أو مهارة السلوك الاجتماعي أمر مشترك بين الإنسان والحيوان. يعني هذا أمر جبلي، جيني، فطري في الإنسان. إنما السؤال يأتي: هل نحن نستطيع أن نصدر الثقافة الاجتماعية إلى أجيالنا وأجيال أجيالنا عبر ممرات جينية؟ يعني نحن الآن في البحرين، في القطيف، في الأحساء، منطقة تتشابه في الأعراف والتقاليد، منطقة لها تقاليد وأعراف معينة، هل يمكن نقل هذه الثقافة، هذه الأعراف، هذه التقاليد، أن ننقلها إلى أجيالنا وأجيال أجيالنا عبر ممرات جينية؟ يعني يولد حفيد حفيدنا وهو يميل إلى هذه التقاليد وهذه الأعراف وهذه الثقافة، هل هذا علمياً ممكن؟ نعم ممكن علميًا. الثقافة ممكن أن تنتقل عبر ممرات جينية. الثقافة بالمصطلح العلمي هي المعلومة التي تنتقل من فرد إلى آخر وتؤثر على السلوك الاجتماعي.

كل معلومة تؤثر على السلوك هي ثقافة. لكن الثقافة أيضا يمكن أن تصبح تكيفاً تطورياً ينتقل عبر ممرات جينية إلى الأجيال وأجيال الأجيال، ممكن. حتى الثقافة الدينية، نحن الآن نعيش ثقافة دينية، نقول لا هذا أمر اكتسابي لكن يمكن أن يصبح أمر جيني. الثقافة الدينية كأي ثقافة أخرى، يمكن أن تنتقل عبر ممرات جينية إلى أحفاد أحفاد الأحفاد، ممكن. علميًا ممكن. نحن لدينا حياة طويلة نسبيًا، ليس مثل حياة أجدادنا، نعيش الآن سنين. ممكن عبر حياتنا الطويلة نسبياً نرسّخ ثقافتنا الدينية وتتحول من سلوك نمارسه إلى جين يعيشه أحفاد الأحفاد. لذلك القرآن يؤكد هذه النقطة: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا الثقافة الدينية يتوارثونها. القرآن عندما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ*ذُرِّيَّةً ما معنى ذرية بعضها من بعض؟ يعني الممرات الجينية تنقل الأثر، تنقل هذا البعد الديني ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ لذلك ورد عن الرسول محمد : ”إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله ومن خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء“

المحور الثالث: الصراع بين الأنا والغير.

ذكرنا أن الإنسان يعيش الحس الاجتماعي بفطرته، وربما يعيش الثقافة الاجتماعية والمهارة الاجتماعية أيضًا بفطرته، لكن مع ذلك الإنسان يعيش صراعًا حادًا بين الأنا وبين الغير. بين نحنُ وبين هم. يعني يعيش صراعًا حادًا بين غريزتين:

  • غريزة البقاء الفردي
  • وغريزة البقاء الجمعي

كيف يعيش صراعاً بين هاتين الغريزتين؟

هناك مثالين:

المثال الأول:

لو غرقت سفينة في البحر وعاش الناس حالة الهلع من الموت، ماذا يفعلون الناس؟ نفسي نفسي المهم أن أنجو أنا. إذن، يعيش الإنسان هنا غريزة البقاء الفردي. أما إذا لا قال المهم أن ينجو غيري، أنا لست ذو قيمة المهم أن ينجو غيري، إذن، هو يعيش غريزة البقاء الجمعي. الإنسان بطبعه يعيش الصراع بين غريزتين: غريزة البقاء الفردي وغريزة البقاء الجمعي.

سنة 1864، تحطمت سفينتان في جزيرة أوكلاند قبال سواحل نيوزلندا، لنرمز للسفينة الأولى «أ»، السفينة الثانية «ب»، كل سفينة نتيجة التحطم نجا مجموعة منها. كيف عاشت المجموعتان إلى أن جاءت فرق الإنقاذ؟ اختلفت إستراتيجية البقاء في كل مجموعة نتيجة اختلاف الغريزة التي تشتغل.

السفينة الأولى رقم «أ» إستراتيجية البقاء بنيت على غريزة البقاء الجمعي، ليس غريزة البقاء الفردي. صارَ كل واحدٍ يتشبث بالآخر، يمسك بالآخر حتى ينجي غيره، ليس حتى ينجو، حتى ينجو غيره.

لذلك، هؤلاء المقدار الذي نجا، استطاعوا البقاء، بل أسسوا مدرسة ما بينهم لكي يتعلم كل من الآخر. يمكن تأتي فرقة الإنقاذ بعد شهرين، بعد سنة. عاشوا إستراتيجية للبقاء تبتني على غريزة البقاء الجمعي. سفينة «ب» السفينة الأخرى لا، عاشت غريزة البقاء الفردي، غريزة البقاء الفردي المهم أنا، ليس أنت. القوي مشى على جثة الضعيف، تركوا الضعاف تتلقى الموت وجهاً لوجه، بل أنهم أكلوا جسدًا ليعيشوا. جسد من الأجساد أكلوه ليعيشوا. عندما جاءت فرق الإنقاذ أنقذت السفينتين. السفينة «أ» التي عاشت على غريزة البقاء الجمعي، كل من نجا، نجا. أما سفينة «ب» التي عاشت على غريزة البقاء الفردي الذين نجوا من التحطم كانوا تسعة عشر. والذين أدركتهم فرق الإنقاذ ثلاثة فقط. ثلاثة من تسعة عشر. لأن كل واحد ينهب الآخر، كل واحد يريد أن يعيش على الآخر. إذن، غريزة البقاء الفردي، غريزة البقاء الجمعي تتصارعان في شخصية الإنسان، أيهما ينتصر؟ أيهما يتغلب على الآخر؟ لكن من الممكن التغلب.

المثال الثاني: مثال من واقعنا نحن.

كيف عاش أجدادنا؟ أسلافنا كيف عاشوا؟ مع انتشار الأمراض، والأوبئة، مع نقص الغذاء، مع تدهور البيئة الصحية، مع ذلك عاش أسلافنا. كيف عاشوا؟ عاشوا على غريزة البقاء الجمعي. تقاسموا قطعة الخبز، تقاسموا لقمة العيش، آثر كل الآخر على نفسه، ضحى كلٌ من أجل الآخر، سمت فيهم غريزة البقاء الجمعي على غريزة البقاء الفردي، تعايشوا وبقوا إلى أن جئنا نحن ولدنا، ولدنا عن سلف عاش غريزة البقاء الجمعي. إذن، الإنسان في الصراع يمكن أن يتغلب، يمكن أن تتغلب في الإنسان غريزة البقاء الجمعي على غريزة البقاء الفردي. ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ

المحور الرابع: معالم الرحمة المحمدية التي تجلت في شخصية النبي محمد .

كيف يصبح الإنسان رحمةً لغيره من بني البشر؟ أنا لست فقط أرحم نفسي، أنا في الأصل رحمة لغيري. كيف يتحول الإنسان من أناني يعيش غريزة البقاء الفردي إلى غيري يعيش غريزة البقاء الجمعي؟ كيف يصبح الإنسان رحمة لغيره؟ كيف يصبح الإنسان مصداقًا للآية المباركة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لنعرّف الرحمة، ما هي الرحمة؟ حتى نعرف الإنسان هل يمكن أن يتحول رحمة لغيره أم لا؟ لنعرّف الرحمة.

  • الرحمة بالمنظور الطبي.

البروفيسور في البيولوجيا وعلم الأعصاب: سابولسكي، هذا أستاذ مشهور في جامعة ستانفورد يتحدث عن هذه النقطة بالذات. يقول سبب المشاكل، سبب الخلافات، سبب الفتن الاجتماعية هو التقسيم. أنا وأنت. منذ أن يصبح التقسيم أنا وأنت تبدأ الفتن الاجتماعية. نحن هم، نحن الأقدر، نحن الأفضل ثقافة، نحن المتفوقون. هم الأتعس، هم الأدنى، هم الأردى. منذ أن تأتي هذه النظرة، منذ أن يأتي هذا التقسيم: نحن وهم، يعني هذه بداية افتراق اجتماعي. منذ أن يأتي هذا التقسيم أنا وأنت يعني بداية عزلة، بداية فراق. أنا وأنت، نحن وهم، هذه أساس المشاكل الاجتماعية. إذن كيف نتعود؟ كيف نطغى عليها؟ كيف نتغلب عليها؟ هناك هرمون موجود في كل إنسان، هذا طبيب يتحدث بمنظور طبي، هناك هرمون موجود في كل إنسان: أوكسيتيسون، هذا الهرمون نسميه نحن هرمون السعادة، هرمون المحبة، هرمون العلاقات البشرية، بأي تسمية نسميه، هذا الهرمون يساعد ثدي الأم على درِّ الحليب. هذا الهرمون يحرك الأم أن تحتضن جنينها وطفلها. هذا الهرمون يجعل الأم ذائبة في طفلها.

الأم لا تفكر في راحتها ولا في نومها ولا في غذائها، كل تفكيرها غيري وليس أناني. كل تفكيرها غيري. كل تفكيرها في هذا الطفل. ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ الأم فعلاً تعيش هذا الهرمون بأجلى صوره. هرمون السعادة، هرمون العلاقات البشرية. ”قال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك“ أمك عاشت منطق الغريزة، غريزة البقاء الجمعي وليست غريزة البقاء الفردي. أمك ذابت فيك، تحولت إلى قطعة من الرحمة لأجلك. أيضًا في الزواج، ترى شخص يتزوج ويعيش مع زوجته يوم جيد يوم سيء. ترى شخص يتزوج لا، يعيش مع زوجته بهذا الهرمون، هرمون السعادة. يعني يعيش علاقة حميمة معها بحيث يشعر أنها جزء منه لا ينفصل عنه ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً نحن نستطيع هذا الهرمون أن نفعله. كل واحد منا موجود فيه. نفعله. صديقنا، نستطيع أن نحول صديقنا إلى أخ عزيز، نستطيع أن نحول أخانا إلى نفس، جزء من نفسنا. عندما نعيش تعلق بصديقنا، حب لصديقنا، احترام، متفانين، نحن نعيش هذا الهرمون، هرمون السعادة والعلاقة البشرية الحميمية. هذا الهرمون مبدأ الرحمة. هذه هي الرحمة بالمنظور الطبي.

  • الرحمة بمنظور علم النفس الاجتماعي.

الرحمة هي استشارة الوشائج الإنسانية. كيف يعني استثارة الوشائج الإنسانية؟ نحن جميعا أسرة واحدة، كل البشر أسرة واحدة، حتى هذا الكافر هو معنا من أسرة واحدة، كلنا نرجع إلى أصول واحدة. عناصر واحدة. مشتركات واحدة. القرآن الكريم يؤكد ذلك: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وورد عن الرسول : ”كلكم لآدم وآدم من تراب“ يعني نحن نعيش بنفس العناصر، نفس الأمزجة، نفس الميول. عندما تثير الوشائج الإنسانية التي بيننا وبين غيرنا سواء اتحد معنا أو اختلف معنا، إثارة الوشائج الإنسانية بيننا وبين غيرنا هذا يعبر عنه بالرحمة. الرقة، العاطفة، الرأفة، الألفة، البسمة الجميلة، هذه كلها مظاهر، مظاهر للرحمة، لاستثارة الوشائج الإنسانية بيننا وبين غيرنا. هنا نتجلى أن نكون رحمة لغيرنا.

  • الرحمة بمنظور علم العرفان.

علماء العرفان يقولون: الرحمة أن تصبح وجهًا لله. كيف أنا الإنسان أصبح وجهًا لله؟ يقولون: الهدف من وجود الإنسان في الأصل، في الأصل لماذا الإنسان وُجِد؟ الهدف من وجود الإنسان أن يكون وجهًا لله. أن يكون مرآة لله. أن تتجلى فينا صفات الله ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أن نصبح كلمة الله. كيف تصبح أيها الإنسان كلمة الله؟ كيف تصبح أيها الإنسان وجهًا لله تبارك وتعالى؟ الطريق ليس طويلاً، بل قصير. أبرز صفة لله: صفة الرحمة. ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ. الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية. عندما تتجلى صفة الرحمة في الإنسان ويصبح مؤثرًا غيره على نفسه ويصبح مضحيًا لغيره يصبح وجهًا لله عز وجل. وكلما تصاعدت درجة الرحمة، كلما كبرت درجة الرحمة صار أقوى مرآتية لله ووجهًا لله. لذلك، أعظم وجه لله وأسمى مرآة لله: محمد . لذلك يقول القرآن: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ أنت في الأصل الرحمة الالهية. أنت مجمع الرحمة الرحمانية والرحيمية. أنت وجه الله في الأرض. أنت أيها النبي المصطفى:

قلب الخافقين ظهرًا لبطنٍ
لم يكن أكرم النبيين iiحتى
  فرأى ذات أحمدٍ iiفاجتباها
علم   الله   أنه   iiأزكاها

إذن، حتى نصبح نحن رحمة للآخرين، لابد أن ننتهج نهج محمد، لابد أن نسلك درب محمد، لابد أن نتقمص معالم الرحمة النبوية في الشخصية المحمدية للنبي . ما هي معالم الرحمة النبوية؟ معالم أربعة:

المعلم الأول: أن تعيش ثقافة الرحمة.

الرحمة ليست كلامًا، ليست حروف نقولها ثم نمضي، الرحمة سلوك. الرحمة ثقافة. أن تعيش ثقافة الرحمة. كيف نعيش ثقافة الرحمة؟ هذا مجتمعنا أمامنا منه الغني، منه الفقير، هل يعطف الغني على الفقير؟ هذا المجتمع أمامنا متعلم ومعلّم. فقير وغني. اختلاف في المستويات. ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا يعني لكي يسخر بعضهم البعض الآخر لخدمته. نحن أمامنا مجالات للرحمة: الجمعيات الخيرية، اللجان الأهلية، الأعمال التطوعية، كلها مجالات نستطيع أن نحول شخصيتنا فيها إلى أن تكون رحمة للآخرين. أن نعيش ثقافة الرحمة. القرآن الكريم يقول: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ يعني ثقافة الرحمة يعيشوها. ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا النبي يقول: ”ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء“، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

المعلم الثاني: السيطرة على الأعصاب والانفعالات.

لا تكن مشدود دائمًا، هون على روحك. السيطرة على الانفعالات والأعصاب معلم أساس من معالم الرحمة. كن رحمة للآخرين. ومبدأ الرحمة أن نضبط أعصابنا، أن نضبط انفعالاتنا. القرآن الكريم يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لنحسن، لنتجاوز، لنعفوا، لنغض النظر، لنكن رحمة للآخرين. البعض يعيش أحقاد، يعيش آلام طويلة، لماذا؟ قال لي شخص كلمة سيئة لا أستطيع نسيانها، ليست هذه أخلاق محمد، ولا تربية محمد، ولا تربية القرآن، اضغط على أعصابك وانفعالاتك. الرسول جاءه إعرابي يريد أن يأخذ الزكاة منه أيام شتاء والرسول يرتدي بردة غليظة على عنقه، جاء الإعرابي أمسك بالرسول من بردته وشدها، قال: يامحمد، اعطني من مال الله الذي هو ليس مالك ولا مال أبيك. النبي قال: صدقت، المال ليس لي هذا المال مال الله، وأنتم عيال الله، ولكن هل يقاد منك يا إعرابي ما فعلته بي؟ أقدر أنا أقابلك بالمثل؟ قال: لا. قال: لِم؟ قال: لأنك لا تقابل السيئة بالسيئة وإنما تقابل السيئة بالحسنة. ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أنت مصداق لكظم الغيظ.

المعلم الثالث: التعاون.

كيف نبني مجتمعنا نحن من غير تعاون؟ إذا كل واحد منا يفكر في راتبه، وعمله وكيف يؤسس نفسه، وكيف يبني لنفسه بيت، ويؤسس له ذرية، ويعيش كأنه وحده في جزيرة منفرد، كيف نبني هذا المجتمع؟ بناء المجتمع يحتاج إلى روح التعاون في الميدان. أن ننزل الميدان متطوعين ونتعاون مع غيرنا في بناء مجتمعنا. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ محمد يخرج مع أصحابه في رحلة، يحتاجون أن يأكلوا، قال شخص: أنا أذبح الشاه، وقال الثاني: علي سلخها، وقال الثالث: علي طبخها، قال النبي: وعلي جمع الحطب. قالوا: إنا نكفيك يا رسول الله. قال: علمت أنكم تكفونني ولكني أكره أن أتميز عليكم. يريد أن يربيهم على خلق التعاون، على روح التعاون ﴿فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا متعاونين.

المعلم الرابع: أرقى درجات الرحمة: الإيثار.

الشيء الذي نحتاج إليه نقدمه لغيرنا. نحتاج إليه ولكن نقدمه إلى غيرنا ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أعلى درجات الرحمة، علي ابن أبي طالب تلميذ محمد، مدرسة محمد. علي ابن أبي طالب يبيت على فراش رسول الله فاديًا له بنفسه لا يفكر في الحياة. يقول له رسول الله: أوتبيت على فراشي وقد يقتلك الأعداء. قال: أوتنجو يا رسول الله؟ قال: بلى. يسجد لله شكرًا فرحًأ مبتسمًا: الحمدلله الذي جعلني فداء لرسول الله. هذا استفاده من الرسول، هو يقول: ”يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علمًا ويأمرني بالإقتداء به، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل“ أصحاب الكساء، القرآن يتحدث عنهم، أصحاب الكساء ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا*وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا وباتوا ثلاثة أيام لا يذوقون إلا الماء. أطفال صغار باتوا ثلاثة أيام لا يذوقون إلا الماء تربية للأمة على الرحمة. حتى تكون الأمة منتهجة نهج الرحمة على أن نكون رحمة لغيرنا. الإيثار، إذا نحن نقرأ التاريخ تمر بنا صور رائعة للإيثار، أروع صور الإيثار في التاريخ: ما تمثل يوم كربلاء. كربلاء مدرسة تربوية. كربلاء مدرسة للقيم. كربلاء مدرسة للمثل. من أعظم المثل التي تجلت في كربلاء مثال الإيثار، قيمة الإيثار. كيف هؤلاء يبادرون إلى الموت، يؤثرون حياة غيرهم على حياتهم، كيف؟ نحن نسمع من الخطباء ونقرأ في التاريخ صور الإيثار يوم كربلاء:

والله   إن  قطعتمُ  يميني
وعن  إمام صادق iiاليقين
  إني أحامي أبدًا عن ديني
نجل النبي الطاهر iiالأمين

ونسمع واحد أخر أيضاً ينطلق يوم كربلاء:

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي
أضربكم  بالسيف حتّى iiيلتوي
  نحن  وبيتِ  الله أولى iiبالنبي
ضربَ  غلامٍ  هاشميٍّ  علوي

ونسمع واحد ثالث يوم كربلاء: حب الحسين اجنني. نسمع هذه الأصوات المتعالية. لو حضرنا نحن يوم كربلاء وأصغينا بسمعنا إلى المخيم وما حول المخيم، ماذا سنسمع؟ نسمع صوت واحد: لبيك أبا عبدالله، لبيك يا حسين.

والحمدلله رب العالمين