ماهو الجديد في الرسالة المحمدية؟

الليلة التاسعة من محرم الحرام 1441هـ

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]

صدق الله العلي العظيم

هناك فكرة طرحتها مجموعة من الأقلام، وهي عبارة عن تساؤل: ما هو الجديد في شريعة النبي محمد ؟ ماذا أضافت شريعة النبي لثقافة المجتمع البشري الذي ولد فيه الإسلام؟

وهنا أمامنا مقالتان:

المقال الأول: مقالة الكاتبة الإنجليزية كاتي بعنوان: من بنى الكعبة؟ وفي هذه المقالة تتبنى الكاتبة أن فكرة من بنى الكعبة وشيد البيت هو إبراهيم وإسماعيل «عليهما السلام» كما ذكر القرآن الكريم ليست فكرة صحيحة، وذلك لدليلين:

  1. الدليل الأول: أن الكتاب المقدس لم يذكر زيارة إبراهيم للجزيرة العربية أبداً، فمتى دخل مكة وبنى البيت!
     
  2. الدليل الثاني: أن السور المكية التي صدرت في مكة المكرمة لم تتضمن إطلاقاً فكرة بناء إبراهيم للبيت، وإنما جاءت هذه الفكرة في السور المدنية؛ أي بعد أن غادر الرسول مكة إلى المدينة جاءت هذه الفكرة، ومن الأرجح عند الكاتبة أن الرسول لما عاش صراعاً مع اليهود في المدينة أراد أن يضفي على دينه ورسالته أن لها جذور تاريخية عريقة، وأن دينه امتداد لدين إبراهيم، فاخترع هذه الفكرة أن من بنى البيت الحرام هو إبراهيم وإسماعيل، وأن دينه امتداد للإبراهيمية الحنيفية، فهي إذن فكرة اخترعها النبي من أجل أن يضفي على دينه عراقة وجذوراً متأصلة.

إذن لا جديد وإنما هو مجرد فكرة مخترعة.

وعندما نأتي إلى دائرة المعارف الإسلامية[1] ، يذكر هذا الكتاب أن البيت الحرام لم يكن هو البيت المقدس الوحيد لدى العرب، وإنما كان للعرب كعبات غير هذه الكعبة، فكان في الطائف كعبة، وكان في نجران كعبة، وكان لغطفان كعبة، وكان في اليمن كعبة، فلم يكن البيت الحرام هو مكان الكعبة المقدسة الوحيد، بل كانت هناك كعبات وبيوت وكان لكل كعبة حجر من أصل بركاني أو نيزك يتبركون به كالحجر الأسود تماماً، وبالتالي ما هي القداسة لهذا البيت مع وجود بيوت أخرى كانت معاصرة له، نعم قريش استخدمت عقلية تجارية فقامت وعلقت على الكعبة جميع الأصنام التي تمثل كل الديانات حتى تستقطب الديانات في مكة المكرمة، وفعلا استقطبت القبائل بتعليقها كل الأصنام المعبرة عن كل الديانات المعاصرة آنذاك إلى مكة، وأصبحت مكة بلداً اقتصادياً تجارياً، وأصبح الحج موسماً روحياً واجتماعياً واقتصادياً.

وعندما نأتي لدائرة المعارف البريطانية[2] ، أيضاً تحاول أن تركز هذه الفكرة، وتنقل عن الدكتور الشيخ خليل عبد الكريم في كتابه «الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية»، أن الإسلام ما أتى بجديد، وأغلب الأحكام والتشريعات الإسلامية هي ثقافة جاهلية، فالصلاة كانت في الجاهلية، وصوم شهر رمضان كان في الجاهلية، وحرمة الأشهر الحرم كانت في الجاهلية، الحج ومناسكه كان في الجاهلية، اجتماع الناس في يوم من الأسبوع يسمى يوم الجمعة لأنه يجمع الناس كان في الجاهلية أيضاً، فأي جديد أتى به الإسلام وهذه الأحكام وهذه الطقوس وهذه الممارسات كانت موجودة في الثقافة الجاهلية آنذاك!

المقال الثاني: ما كتبه الكاتب المسيحي سام شمعون بعنوان «محمد والوثنية»، يقول: الدين الإسلامي دين وثني لأن معتقداته وأحكامه وتشريعاته مستوردة من ثقافة وثنية كانت قائمة قبل الإسلام، ثم ينقل عن سيرة ابن هشام، وعن سيرة ابن إسحاق، وعن صحيح البخاري، وعن صحيح مسلم، وينقل مجموعة من الروايات منها: أن العرب في الجاهلية كانوا يطوفون بالكعبة سبعة أشواط لكنهم كانوا يطوفون عراة تعبيراً عن التخلي من الذنوب، وكانوا يسعون بين الصفا والمروة حيث كان على الصفا تمثال لإله، وكان على المروة تمثال لإله آخر «إساف ونائلة»، وكانوا يقفون بعرفة، وقريش تقف بمزدلفة حتى تتميز على العرب، وجاء النبي وجمع بين الموقفين مزدلفة وعرفة، وكانوا يرمون الحجارة لكنهم كانوا يرمون الحجارة على قبر يسمى قبر أبي رغال، وأبي رغال هو رجل كان مصاحبا لأبرهة الحبشي عندما أراد أن يغزوا مكة، وكان دليلاً له على الطريق فلما مات دفن في هذا القبر وصار العرب يرجمونه وقت الحج.

وأن النبي محمداً اكتسب هذه التعاليم من غيره، فصحيح البخاري وصحيح مسلم يرويان أن النبي التقى مع زيد بن عمر بن نفيل، وكان رجلاً متنسكاً في الجاهلية، لا يسجد لصنم ولا يأكل مما ذبح على النصب فأعجب النبي بشخصيته، وإلا فالنبي كان يأكل مما ذبح على النصب، فتأثر بشخصية هذا الإنسان ألا وهو زيد بن عمر بن نفيل ونتيجة هذا التأثر صار نبياً وطرح نفس التعاليم.

إذن بملاحظة هذه المصادر هناك فكرة لخصتها هذه الأقلام أن الشريعة الإسلامية لم تأتي بجديد، وأن هذه الثقافة الموجودة هي ثقافة مجتمع عربي سبق الشريعة الإسلامية، فكيف نعالج هذه الفكرة؟

نسجل هنا مناقشات ثلاث: مناقشة تاريخية وروحية ومناقشة تحليلية.

المناقشة الأولى: المناقشة التاريخية.

ونذكر هنا عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

دائرة المعارف الإسلامية أو دائرة المعارف البريطانية أو ما كتبه سام شمعون، أو ما كتبته كاتي كلها مصادر مستحدثة، ولمعالجة القضية التاريخية لابد أن نرجع إلى المصادر الأولى، فعندما نرجع إلى سيرة ابن هشام، وسيرة ابن إسحاق، وهما قد رويا بعض هذه المعلومات، نجد أن الروايات مرسلة؛ أي لم يعتمد المؤرخان على شهود عاشوا في زمن الجاهلية ورأوا هذه النسك ونقلوها لمن بعدهم، فعندما نريد أن نثبت قضية تاريخية لابد أن نثبتها من خلال من عاصر الحدث، ومن روى الحدث، بشكل مباشر، وعندما لا تنقل هذه النسك وهذه الأحداث عن شهود عاصروا الجاهلية، وشهدوا هذه المناسك ونقلوها لنا إذن يعتبر المصدر مصدراً ضعيفاً لا يمكن الاعتماد عليه في إثبات هذه المعلومات.

وأما ما ذكره صحيح البخاري وصحيح مسلم لا يمثل مختلف الرؤى الإسلامية، بل رؤية ومدرسة من المدارس الإسلامية، وإلا فهناك مدارس أخرى لا ترى تمامية هذه الروايات لا سنداً ولا دلالة، فلا يصح أن نعتمد على مصدر واحد يمثل مدرسة معينة من مدارس المسلمين، أو رؤية محددة من رؤى المسلمين، وإذا أردنا أن نتحدث عن الإسلام فلابد أن ننقل من مصادر اتفقت عليها المدارس الإسلامية، اتفقت عليها الرؤى الإسلامية بجميع أطرافها وجهاتها.

الملاحظة الثانية:

أن الكتاب المقدس ما نقل أن إبراهيم زار الجزيرة، وأن السور المكية لم تتحدث عن بناء إبراهيم للبيت نقول:

أولاً: الكتاب المقدس لم يصل إلينا كما نزل من السماء، فلو وصل الكتاب المقدس إلينا كما نزل من السماء دون زيادة أو نقص ربما نعتمد عليه كمصدر في نفي وقوع الحدث، لكنه لم يصل إلينا كما نزل، فلا يمتلك القيمة التاريخية لنفي هذا الحدث.

ثانياً: أن السور المكية ما تعرضت، فالمعروف تاريخياً أن الدعوة الإسلامية مرت بمراحل، المرحلة الأولى منها هي التي كانت في بدايتها في مكة المكرمة، وكانت مرحلة تركز على ثقافتين: التوحيد واليوم الآخر، وكل السور المكية تدور حول هاتين المفردتين: ترسيخ ثقافة التوحيد، وترسيخ ثقافة الإيمان بيوم الآخرة، ولذلك حتى التشريعات الإسلامية ليست موجودة في السور المكية، التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمعاملات وبالإرث وبالقضايا الاقتصادية وغيرها من التشريعات المهمة كلها جاءت في السور المدنية، ولم ترد في السور المكية، مع أنها أهمُ من نَقْل هذا الحدث التاريخي؛ وهو أن إبراهيم بنى الكعبة، مع ذلك لم ترد هذه التشريعات في السور المكية؛ لأن المرحلة كانت تقتضي ترسيخ الثقافة في هاتين المفردتين: التوحيد ويوم الآخرة.

الملاحظة الثالثة:

القرآن الكريم في سوره المدنية ذكر الحدث ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ «96» فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ «97» [آل عمران: 96 - 97]

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]

﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]

لم ينقل لنا التاريخ أن هذه الفكرة التي طرحها القرآن حصلت على أية معارضة، ما عورضت من قبل أحد مع وجود اليهود، ومع وجود النصارى، ومع وجود المشركين المعادين للنبي، فلو كانت فكرة بناء إبراهيم للكعبة فكرة كاذبة لكانت فرصة للمعارضة، ولكانت المعارضة حادة للنبي وشرسة مقابل النبي وأطروحاته من قبل اليهود، أو من قبل بعض النصارى، أو من قبل مشركي مكة، لكن لم يذكر لنا التاريخ أن أحداً من هؤلاء عارض هذه الفكرة التي طرحها القرآن أو كذبها وهي فكرة أن الذي بنى البيت الحرام إبراهيم وإسماعيل «عليهما السلام». فمن خلال ذلك نكتشف أن الفكرة كانت منسجمة مع الثقافة السائدة آنذاك، ومنسجمة مع المفهوم السائد آنذاك، ولذلك لم تلقى معارضة.

الملاحظة الرابعة:

ذكر المؤرخ اليوناني سيكولس قبل الميلاد ولعله في القرن الثاني قبل الميلاد، ذكر أن للعرب بيت يعظمونه يَقْرب من البحر الأحمر، وجاء المؤرخ الإنجليزي إدوارد ميجون وأوضح مقصوده فقال: مقصوده الكعبة البيت الحرام.

ونقل أيضاً أن هناك كتابات سامرية وجدت في القرن الثاني قبل ميلاد المسيح تؤكد أن الذي بنى البيت الحرام إبراهيم وابنه.

وهذه شهادات من مؤرخين قبل الميلاد على أن من تصدى لبناء البيت هو هذه الذرية الطاهرة، وهذا النسل الطاهر.

الملاحظة الخامسة:

أكد جملة من المؤرخين على أن البيت الحرام كان المقدس ليس عند العرب فقط بل عند شعوب متعددة، فالهنود كانوا يقدسون البيت الحرام لأنهم يعتقدون أن الأقنوم الثالث وهو روح الإله سيفا حلت في الحجر الأسود، والصابئة من الفرس والكلدان يعتقدون أن البيت الحرام أحد البيوت السبعة السماوية على الأرض، وطائفة من اليهود وما زالت موجودة تعتقد أن في الكعبة كان تمثال لإبراهيم ولإسماعيل وهما يحملان الأزلام، ولأجل ذلك كانت الكعبة بيتاً مقدساً لديهم، ولأجل أن البيت الحرام بيت مقدس فقد صُنعت كعبات أخرى.

وهذه الكعبات الأخرى التي تكلمت عنها دائرة المعارف الإسلامية، كعبة في الطائف وفي اليمن وكعبة لغطفان وكعبة لنجران فهذه كانت لقبائل وما كانت بيوتاً مقدسة على مستوى المجتمع العربي، بيوت بنتها قبائل عندها مع قريش خلافات فكانت تعوض عن دخولها مكة ببناء هذه البيوت وهذه الكعبات، وإلا فالبيت المقدس لدى المجتمع العربي وعدة شعوب أخرى آنذاك هو البيت الحرام.

ولذلك بنى أبرهة الحبشة بيتاً في اليمن وطلب من الناس أن يحجوا إليه، وجاء أحدهم من كنانة وتغوط في ذلك المكان فأثار غضب أبرهة الحبشي وعلى أثر ذلك حمل جيشه الكبير، وحصلت حادثة أبرهة الحبشي ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل: 1]

إذن من حيث المناقشة التاريخية لم يصمد ما ذكرته بعض هذه الأقلام في الميزان العلمي للتحقيق التاريخي.

المناقشة الثانية: المناقشة الروحية.

هل كان دور الإسلام دور الاستيراد والتقليد وإمضاء المناسك التي كانت موجودة في المجتمع الجاهلي أم أن الإسلام ضخ ثقافة جديدة لم تُعهد في دين أو شريعة سابقة؟

حتى لو فرضنا جدلاً بأن كل النسك والعبادات والشرائع كانت موجودة ولكن دور الإسلام كان في التغيير الجوهري في حقيقة العبادة، فالإسلام أضاف فلسفة جديدة لحقيقة العبادة، والإسلام أعطى بعداً تغييراً في العلاقة مع العبادة، وذلك من خلال مفردتين:

المفردة الأولى: أن الشريعة الإسلامية ركزت على فلسفة التوحيد، لأن المسألة ليست مسألة نسك وعبادة، بل إن المسألة تكمن في أن حقيقة العبادة تكمن في روح التوحيد ومبدأ التوحيد، لذلك تلاحظ أغلب آيات القرآن تتحدث عن مفردة التوحيد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26]

بل حصرت التعامل والتوكل والارتباط بالله تبارك وتعالى حيث قال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق: 3]، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51]

نكتة: ثقافة الأسماء الحسنى ليست موجودة في الديانات الأخرى، لا في سفر اليهود ولا في الأناجيل، ليست لديهم هذه الثقافة الموجودة في الشريعة الإسلامية، ثقافة الأسماء الحسنى ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]، ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]

وهذه الثقافة ضخها الإسلام، والتي تعني أن كل الكمالات هي لله وحده، كل اسم من الأسماء الحسنى يعبر عن نقطة كمال ونقطة ضوء، كل الكمالات لله وكل الأنوار وكل القداسات وكل الأضواء كلها لله، ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] المحيي المميت الخالق الرازق الباسط... كل الأسماء الحسنى تعود إليه بالأصالة وتعبر عن ذاته القدسية بالأصالة.

هذه الثقافة الروحية ما كانت موجودة لا في المجتمع العربي ولا في مجتمع سابق على المجتمع العربي، والإسلام ضخ هذه الثقافة وهذه الفلسفة ألا وهي فلسفة التوحيد.

المفردة الثانية: ليست العبادة بمظهرها وإنما العبادة بجوهرها، فالعبادة ليست طقوس ولا شكل، وليست العبادة في هذه الطقوس وهذه الشعائر والنسك، وإنما العبادة هي حركة جوهرية وجدانية يعيشها الإنسان المتصل بالله، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج: 36]، ثم يقول: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37] هذه هي حقيقة العبادة التقوى.

وعندما يقول القرآن الكريم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] هذه هي حقيقة العبادة حركة التقوى، فهذا البعد وهذه الفلسفة ما كانت موجودة في الثقافة العربية آنذاك وإنما ضخها الإسلام.

المناقشة الثالثة: المناقشة التحليلية.

ونتعرض في هذه المناقشة لأبعاد ثلاثة: البعد الاقتصادي، البعد العلمي، البعد القيادي.

البعد الأول: البعد الاقتصادي.

من الظلم وعدم الموضوعية أن يقال بأن الإسلام ما أتى بشيء جديد وإنما هو استيراد وتقليد للثقافة العربية آنذاك، فالإسلام طرح مذهباً اقتصادياً، وما زال هذا المذهب الاقتصادي موضع دراسة وتحليل وتأمل ارجع إلى كتاب «اقتصادنا» للشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس لترى مجال المقارنة بين المذهب الاقتصادي في الإسلام وبين المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي، فهناك مذهب وهناك رؤية اقتصادية، وليس فقط قوانين بل فلسفة اقتصادية طرحها الإسلام ورؤية عبر عنها بمذهب اقتصادي.

وهذه بعض المفردات لهذا المذهب الاقتصادي:

  1. المفردة الأولى: أن الإنسان ليس مالكاً حقيقياً للثروة في نظر الإسلام، وإنما الإنسان هو مجرد خليفة ومجرد وكيل عن المالك، فالإسلام يقول ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، ليس الإنسان أصيلاً في الكون، الأصيل في الكون هو الله، والإنسان مجرد خليفة، والذي يمتلك الثروات ملكاً حقيقياً هو الله، والإنسان مجرد نائب ووكيل لا أكثر من ذلك.

    ​فهذه الرؤية التي طرحها الإسلام رؤية الخلافة وأن المالك الحقيقي للثروات والأموال هو الله وليس الإنسان يقول القرآن الكريم ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7]، والخلافة تعني أن الزكاة والخمس ليس شيء تتفضل به على الفقير عندما تعطيه سهماً من الزكاة أو سهماً من الخمس، هذا المال من الأصل ليس لك ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] أي أن الفقير يمتلك جزء من ثروتك شئت أم أبيت، أنت لست متفضلاً عليه فهو يملكه بالأصالة، ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين : ما جاع فقير إلا بما متع به غني. وإلا هذا الجزء الذي تتمتع به ليس ملكك بل هو ملك ذلك الفقير، الخمس والزكاة هي هذه الرؤية الإسلامية لها أنها ملك للفقير، وأنت لست متفضلاً في إعطائها، أنت توصل الملك لأهله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]
     
  2. المفردة الثانية: أن الملكية الفردية وسيلة للملكية العامة، ملكيتك للأموال هي مجرد وسيلة لملكية المجتمع بأسره، ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء: 5] السفيه قانوناً يملك هذه الأموال، ولكن ليس من حقه أن يستلمها لأنه سفيه ولا يضع الثروة في مواضعها، وهذه الأموال إنما هي وسيلة لقيام المجتمع قياماً اقتصادياً، ومجرد أداة من أجل تحقيق النهوض الاقتصادي بالمجتمع.
  3. المفردة الثالثة: أن الإسلام ألغى الفائدة الربوية مع أنها أساس المذهب الرأسمالي، والإسلام ألغاها وأبدلها بالمضاربة، لماذا يتجه المذهب الرأسمالي للفائدة الربوية؟ يرى المذهب الرأسمالي أن: أولاً بقاء هذه الأموال تحت يدك هو تجميد لهذه الأموال عن الاستثمار والانتفاع بها، ومقابل تجميد الانتفاع والاستثمار بهذه الأموال مدة زمنية معينة يأخذ عليك نسبة من الفائدة، ثانياً عنصر المخاطرة مقابله يأخذ منك نسبة من الأرباح.

فالمذهب الرأسمالي يضع مبررات لأخذ الفائدة الربوية على أنها تعويض عن تجميد المال عن الاستثمار مدة زمنية، وأنها بإزاء عنصر المخاطرة.

وجاء الإسلام وألغى ذلك أولاً لتربية الإنسان على روح العطاء بلا مقابل، فطبيعة الإنسان إذا لم يُلْزَم لا يلتزم، والإسلام حتى يربينا على الإحسان وهو العطاء بلا مقابل، وعلى الروح الغيرية، ويربينا على التحرر من الأنانية ألغى الفائدة الربوية وقال اقرض بلا فائدة، سلم الأموال بلا فائدة لأن في ذلك تربية لك على الإحسان، وعلى العطاء، والعطاء المجاني بلا مقابل، لذلك ترى القرآن يجعل مقابلة بين الربا وبين الصدقة ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: 276] المقابلة أن في الربا تقوقع حول الأنانية والتكريس للأنانية والاستئثار بالثروة، بينما في الصدقة ترسيخ للغيرية والإحسان والعطاء المجاني.

وورد عن النبي محمد : إنما مُنع الناس من الربا لكي لا يمتنعوا عن اصطناع المعروف. وثانياً: الإسلام أبدل المعاملة الربوية بالمضاربة، والمضاربة تعني بدل أن يقدم لك البنك قرض وعليه نسبة يقول لك يبقى المال لي وأنت تصبح عامل عندي، أي أنت تستثمر أموالي، فبدل أن تصبح مقترض تصبح عاملاً مستثمراً، فيسلمك الأموال على أن تكون عاملاً من قبله في الاستثمار، ولك نسبة من الأرباح مقابل عملك وجهدك، وللبنك نسبة منها، ويقول لك حتى أضمن رأس المال أشترط عليك ضمن عقد المضاربة التعويض، ويعبر عنه الفقهاء بشرط الفعل لا بشرط النتيجة، أشترط عليك ضمن عقد المضاربة تعويض خسارة المال لو خسرت رأس المال في مجال الاستثمار. فإبدال المعاملة الربوية بعملية المضاربة هي رؤية اقتصادية طرحها الإسلام، وليست المسألة مجرد تبديل قوانين أو تشريعات.

البعد الثاني: البعد العلمي.

لن تجد ثقافة علمية في كتاب سماوي آخر كما هي في القرآن الكريم، بحيث ستكتشف فعلاً أن الإسلام ضخ ثقافة لم تعهد قبله بل ولا بعده في كتاب بشري ديني، ولا يحتاج أن أتحدث عنه لأنه في كثير من الليالي تحدثت عن النقاط العلمية المرتبطة بالقرآن الكريم ويمكن الرجوع إلى محاضراتي المختلفة.

﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 32] الغلاف الجوي يحمي الأرض من خطر النيازك.

﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] لا يمكن اكتشاف الحياة في أي كوكب من الكواكب إلا مع وجود عناصر مائية.

﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر: 22] انتقال حبيبات اللقاح من موقع إلى موقع آخر، والقرآن عبر عنها ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ

القرآن الكريم يقول: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88] تعبير عن حركة الأرض.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47] حركة التوسع والتمدد في الفضاء، نظرية هابل للتمدد في الفضاء وإن لم تصبح إلى الآن حقيقة، فلعل هذه الآية القرآنية إشارة إليها.

عندما تقرأ قوله تعالى ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25]، ﴿وَأَنْزَلْنَا أي أن الحديد ليس من الأرض، الحديد عنصر يُطبخ في الأفران الهائلة في النجوم، أي في السماء، ثم ينزل إلى الأرض عبر هذا الشتات والفتات، فيتفاعل كيميائياً مع تراب الأرض، ويستخرجه الإنسان ويسميه بعنصر الحديد، وإلا طَبْخ هذا العنصر وبلورته هو في هذه الأفران السماوية الهائلة ألا وهي النجوم.

﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ كل عنصر مثل الهيدروجين والهيليوم إذا أعطيته طاقة يعطيك طاقة إلا الحديد، الحديد لديه ميزة ليست موجودة في كل العناصر، يمتص الطاقة لا أنه يعطي طاقة، فلأجل ذلك الحديد هو أحد العناصر الموجودة في هذه الشموس، فإذا طغى الحديد على الشمس يقتلها، الحديد هو العنصر الوحيد الذي يقتل الشموس، إذا طغى هذا العنصر بدأت الشمس تعطيه طاقة وهو يمتصها، تعطيه طاقة وهو يمتصها إلى أن يستنفذ طاقتها فتنكمش، وإذا انكمشت انفجرت وتحولت إلى عناصر أخرى.

العنصر الذي يقتل هذه الشمس العملاقة التي ربما تكون أربعة أضعاف هذه الشمس التي نحن نعيش تحت دفئها العنصر الوحيد الذي يقتلها هو عنصر الحديد ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد: 25]

﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49] زوجين ليس من الكائنات الحية فقط بل من كل شيء، مادة زائد مادة مضادة، سالب وموجب، لولا التزاوج بين المادة والمادة المضادة ما تكونت هذه الطاقة في هذا الجسم الذري، كل ذلك ببركة التزاوج بين المادة والمادة المضادة، وهذا ما تقوم عليه القوة الكهرومغناطيسية.

إذن بالنتيجة هذه الثقافة العلمية لم تذكر في أي كتاب ديني لا في التوراة ولا في الإنجيل، ودعوى أن الإسلام ما أضاف شيء جديداً وما أعطى بعداً جديداً، فماذا تسمى هذه الثقافة العلمية التي ضخها القرآن الكريم قبل أن يكتشفها الإنسان!

البعد الثالث: البعد القيادي.

لنفترض أن الإسلام ما أضاف شيئاً جديداً، لا على مستوى العبادات ولا على مستوى البعد الاقتصادي ولا على مستوى البعد العلمي والثقافي، يكفي في عظمة الإسلام وفي جِدَّته أنه أعطى للتاريخ شخصية قيادية لا مثيل لها ألا وهو الرسول محمد .

لم تمتلك أمة من الأمم ما ملكته هذه الأمة من هذه الشخصية العملاقة محمد بن عبدالله ، يكفي هذا البعد الذي أضفته الشريعة الإسلامية أنها ارتكزت على هذه الشخصية العملاقة العظيمة، شخصية الرسول الأعظم .

الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان رجل تخصص في قراءة الفلسفة والعرفان، وعكف على دراسة الفلسفة الشيعية والعرفان الشيعي، عكف على دراسة كتب ملا صدره الشيرازي، وبينه وبين العلامة الطباطبائي صاحب الميزان مراسلات علمية وفكرية كثيرة إلى أن أسلم وتشيع، يطرح فكرة الوجود المقدس، وهذه الفكرة موجودة لدينا ويعبر عنها في علم الكلام بقاعدة اللطف، ومعنى قاعدة اللطف أن الهدف من وجود الإنسان هو أن يصل الإنسان إلى الكمال ولذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] الأحسن عملاً هو الذي وصل إلى الكمال لأن الهدف من وجود الإنسان هو أن يصل إلى الكمال.

وبما أن الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى الكمال فمقتضى اللطف والحكمة أن يُوجِدَ لنا الله شخصية متكاملة تصب وتُعَبِّد الطريق لنا من أجل الوصول إلى الكمال، فإن الكمال لا يمكن أن يصل إليه الإنسان عبر النظريات وعبر الأقوال، وإنما يصل الإنسان إلى الكمال إذا تجلت وتجسدت أمامه شخصية متكاملة تكون قدوة له في الوصول إلى الكمال ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] إذن لابد من وجود شخصية كاملة حتى تصبح هي القدوة والأسوة.

قال كوربان: إن الله هو المقدس ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجمعة: 1]، والهدف من وجود الإنسان أن يحمل الإنسان القداسة كي يكون وجهاً لله، فبما أن الهدف من وجود الإنسان أن يكون الإنسان وجهاً لله أي أن يتصف الإنسان بالقداسة كما اتصف الله بها، وبما أن الهدف من وجود الإنسان أن يصل الإنسان إلى القداسة فلابد من وجود شخصية مقدسة في كل زمان تشق الطريق إلى القداسة، وتكون هي المنار في طريق القداسة، والشخصية الأولى التي حملت منار القداسة محمد.

يقول كوربان: في كل زمان لابد من وجود شخصية مقدسة، والشخصية المقدسة في زماننا صاحب الهيبة المحمدية والإشراقة القدسية قائم آل محمد.

الشخصية المحمدية جمعت بين جهات ثلاث هي شخصية قيادية، شخصية ترابية، شخصية كمالية.

من حيث أنه شخصية قيادية ضرب أروع المثل في قوة الإرادة، وفي الصمود، وفي التحدي، وعدم التراجع عن طريقه، قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

عندما تسمع عن شخصية بهذا الحجم إرادة لا تزل ولا تضعف ولا تتراجع، تتصور أن هذا الإنسان متعالي لأن إرادته قوية، بينما هذا الإنسان صاحب الإرادة القوية كان شخصية ترابية يتحدث عنه الإمام علي ويقول: كان النبي يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته ويهيئ زاده وكان يركب الحمار ويردف من شاء معه، وكان يذهب بنفسه إلى السوق ويشتري حاجاته، ويأتي بها إلى بيته، وكان يجلس مع العبيد على الأرض، ويأكل من حشف التمر، وكان إذا جلس مع أصحابه يجلس كجلسة أحدهم لا يتميز عليهم، وما كان فحاشاً ولا فظاً ولا غليظاً، ولا كثير الحديث، بل كان أغلبه الصمت وذكر الله.

هكذا كان محمد شخصية ترابية متواضعة، فهو جمع بين الشخصية القيادية العملاقة التي تقود الدولة وبين الشخصية الترابية المتواضعة المبتسمة، وبين الشخصية الكمالية وهبه الله كاريزما جذابة مؤثرة على من يراه،

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني
خُلِقتَ  مُبَرَّءً  مِن  كُلِّ  عَيبٍ
  وَأَجمَلُ  مِنكَ  لَم  تَلِدِ النِساءُ
كَأَنَّكَ  قَد  خُلِقتَ  كَما iiتَشاءُ

وكان من أملح الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً وقد قيل له: هل أنت أجمل أم يوسف؟ قال: يوسف أبيض مني وأنا أملح منه. والملاحة تختلف عن اللون، كان جامعاً بين نقاط الكمال ومنابع الضوء والنور، وهذه الشخصية الجذابة سرت إلى ذريته ونسله ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 34]

جاء رجل نصراني قد أسلم إلى المدينة وقال أريد أن أرى رسول الله فقد سمعت الناس يتحدثون عن جماله وبهائه وكماله ونور صفاته فقالوا له: إن الرسول قد توفي منذ زمن بعيد. قال: ألا يوجد شبيه برسول الله خَلقاً وخُلقا؟ قالوا: بلا، إن لدى الحسين ولداً هو أشبه الناس برسول الله خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً، في بأس حمزة وفي شجاعة حيدر بإباء الحسين وفي مهابة أحمد وتراه في خلق وطيب خلائق وبليغ نطق كالنبي محمد.

 

[1]  الجزء الأول ص 77.
[2]  في الجزء الأول.