الليلة الثالثة عشر من محرم الحرام 1441هـ

هل الأصل في القانون الإسلامي الثبات أم التغير؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

  • حول المقامات المتنوعة في الشخصية المحمدية.
  • حول الأدلة على أصالة الثبات في الأحكام الإسلامية.
  • قدرة العقل البشري على الوصول إلى القانون الإسلامي.
المحور الأول: حول المقامات المتنوعة في الشخصية المحمدية.

عندما نقرأ شخصية النبي المصطفى نجد أن لهذه الشخصية خمسة مقامات: الرسالة، الولاية، القضاء، الإرشاد، والإنسانية.

بمعنى أن القضايا التي تصدر عن النبي هي على خمسة أقسام: قسم يصدر منه بما هو رسول، وقسم يصدر منه بما هو ولي الأمر، وقسم يصدر منه بما هو قاضي بين الناس، وقسم يصدر منه بما هو مرشد للواقع، وقسم يصدر منه بما هو إنسان وبشر.

القسم الأول:

وهو ما يصدر عن النبي من تعاليم لأنه رسول من الله، ومبلغ عن الله، ولأنه مهد الوحي، وفي هذا القسم عندما يقول: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وصلوا كما رأيتموني أصلي، فقد صدرت هذه التعاليم عن النبي بما هو رسول، أي أن هذا القسم يسمى حكم شرعي إلهي، وهذا الحكم الشرعي الإلهي ثابت لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة لأن النبي أصدره بما هو رسول مبلغ عن الله تبارك وتعالى، وقد نظر القرآن الكريم لهذا القسم عندما قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، وقال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.

القسم الثاني: قضايا تصدر من النبي بما هو ولي الأمر.

فالنبي عندما وصل المدينة أقام دولة، فلما أقام الدولة أصبح حاكماً ورئيساً فصدرت منه قرارات لا عن رسالة وإنما لأنه ولي الأمر والحاكم الفعلي، وهذا ما يعبر عنه العلماء بالحكم الولايتي؛ فالحكم الولايتي هو القرار الذي يصدر من ولي الأمر لعلاج مشكلة معينة، والرسول كان يمارس هذا فيعالج بعض المشاكل في زمانه بقرارات وأوامر معينة بالحكم الولايتي، وهذا أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]، وأشار إليه القرآن بقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] أولي الأمر منهم رسول الله؛ أي أن رسول الله يدخل تحت عنوان أولي الأمر عندما يصدر أمراً بما هو رئيس وحاكم في تلك الفترة.

والأصل في الحكم الولايتي أنه مؤقت أي ليس عاماً لكل زمن ولكل مرحلة إلا أن تقوم قرينة على أن هذا الحكم الولايتي دائم، ففي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة سألا الإمام الصادق عن لحم الحُمُر «الحمار» فقال : نهى رسول الله عن أكل لحم الحُمُر الأهلية يوم خيبر، وإنما نهى عنها لأنها حمولة الناس، أي أن لحم الحمار يجوز أكله شرعاً ولكن الرسول نهى عنه إنما بما هو حاكم، فقد كان المسلمون في حرب وكانوا مضطرين لأن ينقلوا البشر والسلاح من المدينة إلى خيبر وليست لديهم وسيلة في ذلك الوقت لنقل البشر والسلاح إلا الحمير، فالرسول للمحافظة على وسيلة النقل نهى عن أكل لحم الحُمُر، فهو قرار ولايتي حكومي وليس حكماً شرعياً مستمراً.

القسم الثالث: ما يصدر عن النبي بما هو قاضي.

يتمتع النبي بالسلطات الثلاث: سلطة تشريعية أي ما يصدر عنه بما هو رسول، وسلطة تنفيذية وهي ما يصدر عنه بما هو رئيس وولي أمر، وسلطة قضائية وهي ما يصدر عنه بما هو قاضي يقضي بين الناس، إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، عدة قضايا صدرت عنه ليست لأنها رسالة وليس لأنها حكم شرعي، وإنما صدرت عنه قضاءً بين الناس، لفض الخصومات ورفع المنازعات، وقد أشار القرآن إلى هذه النقطة في الرسول : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]

رواية عن الإمام الصادق : ”قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أن لا يمنع فضل الشيء، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء“.

يقول جملة من الفقهاء أن «قضى» أي أنه قضاءٌ مؤقت وليس حكماً شرعياً مستمراً، «جاء إلى مشارب النخل» أهل المدينة هم أهل نخيل وكل منهم له مشرب ماء يسقي به نخله، فيفضل الماء أحياناً، فالرسول منع كل شخص إذا فضل عنده ماء أن يحتجزه، فقضى بين أهل المدينة في مشارب النخل أن لا يمنع فَضْل الشيء، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته أن يعطيه لجاره ولا يحجبه عنه ويمنع جاره من الاستفادة منه، فهذا قضاء، وإلا الإنسان مادام يملك الماء فلا يَحْرم عليه شرعاً أن يحتبس الماء لأنه ملكه لكن الرسول قضى بهذا القضاء لأجل حسم المنازعات وسد باب الخصومات في تلك الفترة التي عاشها.

القسم الرابع: قضايا صدرت من النبي بما هو مرشد.

 الرسول يمتلك خبرة بالمجتمع، وانطلاقاً من خبرته ومعرفته بالواقع الذي يعيشه الناس، صدرت منه وصايا إرشادية، وهي ليست أحكاماً شرعية، مثلاً في كتاب الطب النبوي وصايا إرشادية، ويذكر صاحب كتاب مكارم الأخلاق عن النبي أنه يقول: ”كلوا من الكرفس فإنه يورث الحفظ، وإنه طعام الخضر“.

وورد عنه : ”كلوا التفاح على الريق فإنه يخوص المعدة“.

وورد عنه : ”من أكل كل يوم على الريق إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم يعتل إلا علة الموت“.

فهذا القضايا ليست حكماً شرعياً بل هي وصايا إرشادية؛ أي أن الرسول الأعظم لمعرفته بحقائق الأمور يعطينا وصايا طبية، وهذه الوصايا الطبية ليست ملزمة لأنها ليست حكماً شرعي، وإنما هي إرشاد على سبيل الاقتضاء.

فعندما يقول النبي: كلوا التفاح على الريق فإنه يخوص المعدة، فهل هذا معناه أن الأمر مضمون بالأكيد! فهو يقوله على نحو الاقتضاء؛ أي أن أكل التفاح على الريق بالنسبة للإنسان السليم يعطيه استعداد للمناعة ولمقاومة أمراض المعدة وليس أنه أمر حتمي وعلة تامة، فالإنسان الطبيعي إذا أكل والتزم فإن ذلك يعطيه استعداداً للمناعة من الأمراض الأخرى، إذن هذه الوصايا الطبيعية على مستوى الإرشاد والقضية الإقتضائية، لا على نحو العلية التامة، والقرآن الكريم يرشد إلى أن الرسول حريص على الناس في كل شيء، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، ومن مقتضى حرصه ورأفته أن تصدر منه هذه الوصايا وهذه الإرشادات.

القسم الخامس: هناك قضايا صدرت من النبي بما هو بشر.

بشر يمارس فعله الطبيعي كبشر، وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7]، وقال القرآن عن لسانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت: 6].

وقد ذُكر في كتاب مكارم الأخلاق أن الرسول كان يأكل الأصناف من الطعام ولا يقتصر على صنف واحد، وكان أحبها إليه البطيخ والعنب، وكان إذا صام يفطر على الرطب في زمانه، ويشرب عليه اللبن، ويأكل التمر ويشرب عليه الماء، وكان يأكل الهريسة ويحب القرع.

فإذا قيل أن الرسول كان يحب القرع، فهل هذا معناه أن أكلُ القرع مستحب! الرسول من المحتمل أنه كان يمارس هذه الأمور لحاجة بدنه إليها؛ أي أن صحته الجسدية كانت تقتضي أن يتناول هذا النوع من الأطعمة والأغذية، لا أنه في مقام تشريع حكم شرعي وإبلاغ حكم سماوي.

إذن الرسول الأعظم له مقامات خمسة، والقضايا الصادرة منه تصدر على خمسة أنواع، ومن هنا جاء السؤال: إذا جاءنا أمر وشككنا فيه هل هو تشريع صدر من النبي بما هو رسول، أم هو أمر ولايتي صدر من النبي بما هو حاكم، أو قضاء أو إرشاد؟ وما هو الأصل؟ [1] 

بحث قائم وقاعد والكثير من الأقلام دخلت فيه سواء من الحوزة ومن غير الحوزة، عن حد المرتد، فالمرتد الفطري يُقتل، فهل هذا الحد صدر من المعصوم كحكم شرعي أو صدر من المعصوم كأمر ولايتي؟

ففي رواية معتبرة الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق : أن أمير المؤمنين علياً جيء له بمسلم تنصر فاستتابه فأبى، فأمسك بشعره قال طؤوه يا عباد الله، فوطؤوه فمات.

من هنا جاءت الروايات عن الأئمة الطاهرين أن حد المرتد القتل، فإن كان فطرياً مسلم وارتد يُقتل، وإن كان نصرانياً أو يهودياً أسلم وبعدها رجع إلى ما كان عليه يُستتاب.

هل هذا حكم شرعي لا يتغير أو هو حكم ولايتي وكان لظروف معينة وقضايا وقتية معينة أو أنه حكم شرعي دائم؟ يقول أغلب فقهاؤنا أنه حكم شرعي دائم، ولكنه ما زال مجالاً للبحث والتأمل هل أن الأصل فيما يصدر عن المعصوم أنه حكم شرعي أو يقبل أن يُحكم عليه بقسم آخر من الأقسام الخمسة التي تعرضنا إليها!

المحور الثاني: حول الأدلة على أصالة الثبات في الأحكام الإسلامية.

ذهب أغلب علماؤنا وفقهاؤنا إلى أن الأصل فيما يصدر عن النبي أنه حكم شرعي؛ أي حكم دائم لا يتغير إلى أن تقوم قرينة، فإذا لم يكن لدينا قرينة خاصة على أنه ولايتي أو قضائي أو إرشادي فالأصل أنه حكم شرعي دائم، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وطرحوا عدة أدلة على ذلك:

الدليل الأول: عدة روايات عن الإمام الصادق ومنها صحيحة زرارة سأل الإمام الصادق عن الحلال والحرام فقال: ”حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره“.

وقال علي : ”ما ابتدع أحد بدعة إلا ترك بها سنة“.

ويستند الكثير من الفقهاء إلى هذه الرواية لأنها رواية واضحة أن ما يصدر من النبي ثبت أنه دائم، فحلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يتغير ولا يختلف.

الدليل الثاني: إطلاق الآيات القرآنية، فعندما نقرأ قوله تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] نجد أن الآية مطلقة.

وقال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]

فإذن الآيات لم تفصل حتى نفصل، لكن هناك مناقشة لهذين الدليلين.

المناقشة: علماؤنا وفقهاؤنا رضوان الله عليهم في الفقه يقولون أن التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية لا يصح، ومعناه مثلاً عندما يأتيك دليل يقول: أكرم جارك. ورأيت رجلاً في الطريق لا تعلم هل هو جارك أم لا، فهل أكرمه أم لا، فيقال لك أولاً أحرز أنه جارك ثم طبق عليه الدليل، فتطبيق الدليل فرع إحراز الموضوع لهذا الدليل، عندك دليل يقول: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أو يقول ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ أي ما صدر عن الرسول بما هو رسول،

فما صدر عنه من أحكام شرعية يجب علينا تطبيقها، أما إذا شككنا هل صدرت منه بما هو رسول أم صدرت بما هو ولي؟ فالآية ناظرة لدائرة خاصة وهي ما صدر عن هذا الإنسان من منطلق أنه رسول، أما إذا شككنا في هذا الأمر الذي صدر منه هل هو صادر من منطلق أنه رسول أو صادر من منطلق أنه ولي الأمر، أو صادر من منطلق أنه مرشد! فلا نستطيع أن نطبق الآية، لأن الآية لا تحرز موضوعها، ولذلك نفس المناقشة تأتي في الوجه الأول، حلال محمد حلال أبداً أي أنه الحلال الذي صدر عن محمد من جهة الرسالة، والحرام الذي صدر عن محمد من جهة الرسالة، أما إذا شككنا فالرسول حرم الحُمُر الأهلية فلا ندري هل حرمها من جهة الرسالة أم حرمها من جهة ولايته وحكومته، فإذا لم نعلم لا نتمسك بهذه الروايات.

الدليل الثالث: يعبر عنه بالإطلاق المقامي، وهنا مقدمتان:

1. المقدمة الأولى: كيف كان المسلمون يتلقون تعاليم النبي؟ هل كانت لدى المسلمين حالة التردد في معرفة المنطلق لما صدر عن النبي؟ وهل كان المسلمون في عصر النبي يعيشون هذا التقسيم؟ أم كان المسلمون في عصر النبي يتلقون تعاليم الرسول على نسق واحد أي يتلقون تعاليم الرسول على أنها دين ويتناقلونها على أنها دين ولا يترددون في تطبيقها؟ كان المرتكز بين المسلمين في عصر النبي أنهم يتلقون ما يصدر منه على أنه دين، والشواهد على ذلك:

  • الشاهد الأول: يُذكر في أبواب الحج معتبرة معاوية بن عمار أحد أصحاب الإمام الصادق ، عن الصادق : وقف رسول الله بعرفة على ناقته عن ميسرة جبل عرفات، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته فيقفون عندها، فنحَّاها الرسول فذهبوا خلفه إلى جنب الناقة، فالتفت الرسول إليهم وقال: أيها الناس ليس الموقف أخفاف ناقتي وإنما كل هذا موقف وأشار إلى عرفات.

    وهذا يعطينا دلالة على أن الناس كانت تتقيد بحركات الرسول، وكانت تعتبر كل ما يصدر من الرسول فهو دين، ولذلك حتى وقوفه على الناقة اعتبروه دين، فكانوا يتعاملون مع قضايا الرسول على أنها دين ويسارعون إلى تطبيقها.
     
  • الشاهد الثاني: [2]  لما خرج الرسول إلى المعركة نزل في أرض ليس بها ماء، فسأله الحباب بن المنذر فقال: يا رسول أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله أم هو الحرب والمكيدة؟ فقال له الرسول : بل هو الحرب والمكيدة. وحينئذ صار كلام بينه وبين الرسول ، والذي نريد أن نقوله أنه حتى الحباب بن المنذر وهو شيخ عشيرة عاش ما عاشه المسلمون أي كان يتلقى أن الأصل فيما يصدر من النبي أنه دين، لذلك لما استغرب ورأى أن المنطقة مقفرة لا ماء فيها طرح السؤال على النبي .
     
  • الشاهد الثالث: يعتقد فقهاؤنا بالفقهاء القدامى لأنهم كانوا قريبين من عصر المعصومين كالطوسي والمفيد، والمرتضى، وابن الجنيد، وابن أبي عقيل، فهذه الطبقة عاشت قريباً من عصر الإمامين الهادي والعسكري ، فإذا وجدنا الفقهاء القدامى قد اتفقوا على شي فهو يكشف لنا أن لهذا الاتفاق رصيد من عصر المعصومين لقربهم من ذلك العصر، ونلاحظ أن الفقهاء القدامى أيضاً يجمدون على حرفية ما ينقل عن الرسول ويتعبدون بها، فمثلاً: أوقع الرسول صلح الحديبية بينه وبين قريش ونص في هذا الصلح على أن الهدنة عشر سنوات، فلا حرب بينه وبين قريش لمدة عشر سنوات، ولكن قريش نقضت هذا الصلح، وعن هذا النص يقول عنه الفقهاء القدامى ونقرأ عبارة الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي «المبسوط» التي يقول فيها: للحاكم أن يهادن الكفار عشر سنوات. ويأتي الأعلام من بعده العلامة الحلي وغيره ويقولون نفس الشيء، فلماذا عشر سنوات؟ لعل التحديد بعشر سنوات كان أمراً ولايتياً اقتضته معطيات الظروف آنذاك، فلماذا جعلتموه حكماً شرعياً وقلتم للحاكم أن يهادن الكفار مدة عشر سنوات! وهذا يعني أن المرتكز عند الفقهاء هو أن الأصل فيما يصدر عن المعصوم أنه حكم شرعي.

2. المقدمة الثانية: إذا كان الرسول ملتفتاً إلى أن الناس تتلقى كل شي منه على أنه دين، ومع ذلك لم ينبههم، فعدم تنبيه النبي المسلمين على الفرز هو بنفسه دليل على أن الأصل في كلامه وما يصدر منه هو حكم شرعي، وإلا لو لم يكن الأصل في كلامه أنه حكم شرعي لكان عليه أن ينبه الناس، لأن عدم تنبيههم إيقاع لهم في الخطأ نتيجة عدم الفرز، وإيقاع الناس في الخطأ لا ينسجم ولا يتلاءم مع كون النبي المصطفى في مقام الهداية للناس جميعاً حيث قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «45» وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا «46» [الأحزاب: 45 - 46].

فالنبي في مقام الهداية الإنذار والتبشير والدعوة، ومقتضى كونه في مقام الهداية أن ينبه الناس على خطئهم، وعدم التنبيه على الخطأ يكشف لنا أن الأصل في كلامه هو الحكم الشرعي، وأن الأصل في فعله هو حكم شرعي صدر عنه بما هو حكم شرعي دائم ومستمر، إلا أن تقوم قرينة على أن هذه القضية هي قضية وقتيه، مثلاً ما ورد عن الإمام الصادق : ”ليست الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن“، ومعنى الحكرة هو الاحتكار، فليس للتاجر أن يحتكر الطعام لأن الاحتكار حرام، فعندما يقول الإمام ليست الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن فهل يعني ذلك أن الحكرة خاصة بهذه الأشياء! لا، إنما ذكر هذه الأشياء لأنها الطعام المعروف في زمانه فلذلك ذكرها وإلا القوت يختلف في كل زمان باختلاف أهله، ويختلف باختلاف المناطق، وكما في زكاة الفطرة يقول عنها الفقهاء «تخرج الصاع من القوت الغالب»، والقوت الغالب يختلف باختلاف كل بلد.

المحور الثالث: قدرة العقل البشري على الوصول إلى القانون الإسلامي.

وهو عبارة عن أسئلة تم طرحها في الليلة السابقة ونجيب عنها:

السؤال الأول: هل أن الحكم يتغير بتغير العنوان أم لا؟

ذكرنا المثال سابقاً وقلنا أن القرآن الكريم ذكر أن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، والآن تغير العنوان أي أصبحت المرأة مكافئة للرجل في المستوى الذهني والثقافي والوظيفي فهل يتغير الحكم بتغير العنوان! وذكرنا في الليلة السابقة إنما يتغير الحكم بتغير موضوعه، فهل الموضوع لشهادتي امرأة بشهادة رجل هو موضوع التفاضل؛ أي هل كون الرجل سابقاً أكثر ثقافة من المرأة وامتلاكه موقعاً وظيفياً بينما لم تكن المرأة كذلك لذلك جُعلت شهادتان بشهادة؟ هل هذا هو الموضوع؟ إذا كان الموضوع هو التفاضل في المستوى الثقافي والوظيفي نقول نعم تغير الموضوع فتغير بذلك الحكم، ولكن لا دليل عندنا على أن هذا هو الموضوع حتى بمجرد أن يتغير تغير معه الحكم، فالآية القرآنية مطلقة ولم تحدد لنا ما هو الموضوع حتى نقول إذا تغير الموضوع يتغير الحكم، ﴿لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282].

وليس في مطلق الأحوال تكون شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا الحكم في قضايا الحقوق وليس في كل قضية، وإلا في بعض الموارد لا تقبل إلا شهادة المرأة، كأن يكون مثلاً في العدة والحيض إلى النساء فإذا ادعت صُدقت، فالمرأة يشترط في طلاقها أن تكون في طهر لم تواقع فيه، والمرأة هي الدليل على أنها في طهر وليس لدينا دليل آخر، ففي بعض المواطن لا تقبل إلا شهادة المرأة، وفي مواطن تكون شهادة امرأتين بشهادة رجل.

السؤال الثاني: هل أن الأحكام الولايتية تشمل موارد التزاحم، وتشمل تحديد المصاديق أم لا؟

والجواب على ذلك في الأمثلة:

المثال الأول: الحج واجب على المستطيع، ولكن لو كان فتح المجال لجميع الحجاج لحصلت أضرار، وللحفاظ على البيئة الصحية الآمنة للحجيج لابد من تحديد عدد الحجاج، ومقتضى تحديد عدد الحجاج أن لا يحج الإنسان إلا بترخيص حتى يدخل ضمن العدد أو لا يدخل، ويبين السيد السيستاني بحرمة مخالفة النظام.

بالنسبة لنفس الحاج فليس لديه تزاحم، لما استطاع وجب عليه الحج، ويحتمل أنه لو حج لأضر بغيره من الحجاج، ويحتمل أنه لن يضر غيره، فهو بالنسبة إليه لا يوجد لديه تزاحم لأنه ليس في حقه حكمان فعليان حتى تحصل المزاحمة بيهما، لديه حكم واحد وهو وجوب الحج على المستطيع.

ولكن بالنسبة للحاكم الشرعي فلديه تزاحم يدور بين محذورين، بين فتح الباب للحاج لكي يؤدي الواجب الذي عليه لأنه صار مستطيعاً، وبين تحديد عدد الحجاج حفاظاً على البيئة الصحية الآمنة، وكحاكم شرعي أصبح بين محذورين، فيقول أنه يقدم الأهم بحسب تشخيصه على المهم، إيجاد بيئة صحية آمنة أهم من أداء الحاج للواجب الذي عليه، فتقديماً للأهم على المهم يكون العدد محصوراً ولا حج إلا بترخيص، فهل للحاكم الشرعي الولاية في منطقة التزاحم بأن يقدم الأهم بنظره على المهم وإن كان الفرد الآخر ليس لديه تزاحم، أم لا؟

المثال الثاني: في المصاديق، فلو أن مثلاً أوقف أحدهم عمارة فيقول: أوقفت هذه العمارة على الفقراء، فعنوان الفقراء أصبح يملك العمارة، أو يقول وقفت هذه العمارة على طلبة الطب فصار هذا العنوان يملك، فإذا كان العنوان يملك فهل البنك يملك؟ البنك عنوان وليس أفراد فهل عنوان البنك يملك هذه الأموال التي تحت يده كما يملك عنوان الفقراء وكما يملك عنوان الطلبة؟ يقال أن هذا من موارد ولاية الحاكم الشرعي فيأتي الحاكم الشرعي ويقول: أنا أعتبر البنك مالكاً للأموال التي تحت يده لأن المصلحة العامة تقتضي ذلك، فأجعل البنك مالكاً.

حق الاختراع، هل يملك المخترع حق اختراعه؟ فعندما يقول الحاكم الشرعي: نعم بولايتي أعتبر له حقاً. فهل ولاية الحاكم الشرعي فيها هذه السعة ويعملها في موارد التزاحم ويعملها في إيجاد المصاديق أم لا؟

هذا مبحث خلاف بين الفقهاء، فبالنسبة للسيد الخوئي قدس فعنده الولاية ليس فيها هذه السعة، ومقصورة على دائرة ضيقة، وهي في كل أمر نحرز أمر الشارع المقدس به، وأنه لم ينصب له ولياً خاصاً، وتسمى بالأمور الحسبية؛ أي أنه يقتصر في الأمور الحسبية على القضايا الضرورية اللازمة، ففي خصوص القضايا الضرورية اللازمة للحاكم الشرعي الولاية وإلا فلا.

بينما السيد السيستاني دام ظله فالولاية عنده أعم، الفقيه له الولاية في كل ما يحقق المصلحة العامة، سواء كانت المصلحة ضرورية ولازمة أو مصلحة غير لازمة لكنها مصلحة عامة بالنتيجة، فكل ما يحقق المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي فللفقيه الولاية فيها، ولذلك السيد السيستاني عنده أن جميع الأنظمة والقوانين التي تشرعها الدول لأجل مصلحة عامة يجب الالتزام بها وتنفيذها شرعاً، والفقيه له الولاية في الأمور العامة وهي كل ما يحفظ المصالح العامة.

السؤال الثالث: هل أن في لائحة التشريع توجد منطقة فراغ؟ أي أن الإسلام ترك منطقة في لائحة التشريع فارغة ولم يجعل فيها أي حكم، وأوكل تعبئة هذه المنطقة للعقل البشري من أجل أن يُبرز العنصر المتحرك في الشريعة الإسلامية المواكب لمتغيرات البيئة والظروف؟

أولاً: اختيارنا نقول لا يوجد منطقة فراغ فالتشريع متكامل، ولدينا دليل من الكتاب ودليل من الروايات، الدليل من الكتاب قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] والقدر المتيقن من الآية أن الدين ما ترك واقعة وإلا ووضع لها حكماً فلا يوجد منطقة فراغ، وأما في الروايات فلدينا 62 رواية، 21 رواية منها صحيحة السند، و31 رواية مفادها واحد، ومنها موثقة سماعة بن مهران، ومعتبرة عبد الأعلى بن أعين، وذكر في هذه الروايات أن ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة، أو ما من شيء في الشريعة إلا وفيه كتاب أو سنة، وهذا المجموع من الروايات يورث الوثوق بعدم وجود نقطة فراغ في لائحة التشريع.

ثانياً: هناك فرق بين الدين الصادر والدين الواصل، فالدين الصادر من الله لا يوجد فيه فراغ، ولكن الدين الواصل لنا عبر القرآن وعبر الروايات هل غطى كل شيء أو لا؟ لا نعلم بذلك لأن الظالمين وضعوا حواجز أمام وصول الدين للمجتمع البشري، فكم من المكتبات أحرقت وكم من الكتب أتلفت، وكم من أصحاب الأئمة صلوات الله عليهم قُتلوا، وكم حوربوا وكم إمام منع عن لقاء الناس كالإمام الهادي والإمام العسكري ، إذن نحتمل أن هناك تعاليم صدرت من النبي وأهل البيت لكنها لم تصل إلينا نتيجة حجب الظالمين وتدخلهم وإعاقتهم لوصول الدين بتمامه إلى المجتمع البشري، فنستطيع أن نقول أن الدين الصادر استوعب، ولكن الدين الواصل لا نعلم هل استوعب كل النقاط أم لم يستوعب كلها.

من هنا نقول لو فرضنا أنه جاءتنا مسألة ما وجدنا عليها دليلاً لا من الكتاب ولا من سنة النبي، ولا أصل أولي ولا أصل عملي، وما استطعنا أن نصل إلى حكم المسألة من منفذ معين بالمقدار الموجود عندنا من الروايات والآيات، فهل يمكن الاتكاء على العقل البشري في استخراج حكمها؟

الجواب: عندنا مبحث في الفقه والأصول يسمى ببحث الملازمات بين حكم العقل وحكم الشرع، أن ما حكم به العقل حكم به الشرع[3] ، والمقصود بذلك أن كل حكم عقلي قطعي جمعي فهو يؤخذ به، أما الحكم العقلي الظني فلا يفيد، ولا يمكن الاعتماد على عقل واحد فقط، كما نرى من بعض الأقلام من الشيعة والسنة التي تكتب في الأحكام الشرعية وتطرح الفرضيات على الأحكام، ولكن هذه الفرضيات قامت بناءً على ماذا؟ فما افترضوه قائم على حكم عقل فردي وليس عقل جمعي، والعقل الحجة هو ما اتفق عليه العقلاء، فما اتفقت عليه المجتمعات العقلائية، والقوانين العقلائية هو الحجة لا العقل الفردي.

ولذلك نقول إنما نستفيد حكماً شرعياً من العقل إذا أردك العقل القطعي الجمعي الكبرى والصغر؛ ى أي القانون والمصداق، فإذا أدرك العقل القطعي الجمعي الكبرى والصغرى كان ذلك حجة.

المثال الأول: حفظ النظام ضروري عند جميع العقلاء، كل القوانين العقلائية منذ زمان المسيح إلى يومنا هذا تقر بأن حفظ النظام ضروي لأن في حفظ النظام حماية للأنفس وحماية للأعراض، وحماية للأموال، وأي اختلال في النظام يعني تعريض الأنفس والأعراض والأموال والحقوق إلى التلف والضياع، فحفظ النظام ضروري وهي قضية اتفق عليها العقلاء كلها، ولأنها قضية اتفق عليها العقلاء فهنا نقول أن العقلاء اتفقوا على الكبرى؛ أي اتفقوا على القانون.

ولكن هل أن أنظمة البلدية وأنظمة التعليم وأنظمة الصحة داخلةً في حفظ النظام؟ هل أن هذه الأنظمة التي تشرعها أي دولة تدخل تحت هذا القانون قانون ضرورة حفظ النظام أم لا؟ هنا نحتاج إلى رؤية عقلائية، كما احتجنا إلى رؤية عقلائية في القانون نفسه، فنحتاج إلى رؤية عقلائية في المصداق، فإذا تقرر الأمرين يعني أن المجتمعات العقلائية قررت القانون وقررت المصداق، إذن حينئذ للعقل البشري أن يستخرج الحكم الشرعي من خلال هذا الاتفاق العقلائي على الكبرى والصغرى، على القانون وعلى المصداق.

المثال الثاني: كل المجتمعات العقلائية اتفقت على أن العدل جميل والظلم قبيح، ولا خلاف فيه إنما الكلام هل أن المخترع له حق؟ بحيث أننا إن لم نسلمه يعتبر ذلك ظلم، وإذا سلمنا به يعتبر ذلك عدل؟ فالجميع يتفق على أن العدل جميل والظلم قبيح إنما النزاع في المصداق لا في القانون لا في الكبرى، إنما النقاش في الصغرى، هل أن للمخترع حقاً؟

فلو فرضنا أن المجتمعات العقلائية والقوانين الحقوقية في جميع الأماكن قررت أن للمخترع حقاً وأن سلبه عنه ظلم، وأن تسليمه له عدل، فهم يحكمون بالصغرى والكبرى معاً، يحكمون أن العدل جميل والظلم قبيح ويحكمون بان سلب الحق عن المخترع ظلم، فلو فرضنا ذلك إذن نعم نعتمد عليه، فيمكن الاتكاء على العقل البشري في استخراج الحكم إذا حصل حكم عقلي قطعي جمعي في الكبرى والصغرى.

فأين يكون قول «إن دين الله لا يصاب بالعقول وإن أبعد شيء من عقول الرجال دين الله»؟ يكون في الصغريات، نحن نتفق على الكبرى وهي الظلم قبيح، ولكن هل هذا واقعاً ظلم أم لا؟ وهل الشارع يراه ظلم كما نحن نراه أم لا؟ هنا يأتي الخلاف في تشخيص المصاديق، قد لا تدرك عقولنا تمام الحيثيات والمعطيات التي تجعلنا نتفق اتفاقاً قطعياً جمعياً على الصغرى لأننا نحتمل أن للإسلام حيثيات أخرى نحن لا ندركها.

إذن النتيجة هناك فرق بين العقلية البشرية والعقلية المعصومة كعقلية النبي محمد وعقلية الإمام المعصوم، فعقلية العصمة لا تخطئ أبداً، ودائما أحكامها قطعية ويقينية، أما العقلية البشرية المعرضة للخطأ فمن أين نضمن حكماً عقلياً قطعياً جمعياً فيها؟ لذلك لا يقاس من لديه معرفة بالكتاب مع من لديه علم الكتاب، الآية المباركة: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: 43] ورد عن الإمام الصادق أنها نزلت في أمير المؤمنين بأنه لديه علم الكتاب، كتاب التكوين وكتاب التدوين، أي لديه علم القرآن وهو كتاب التدوين، ولديه علم الكون وهو كتاب التكوين الذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] فمن لديه علم الكتاب ألا يستطيع التصرف في الكون!

لما توفي سلمان المحمدي الفارسي كان في مدائن كسرى بين العراق وإيران، فذهب إليه الإمام علي وهو في المدينة فجهزه وكفنه وصلى عليه ومن ثم رجع إلى المدينة في نفس اليوم، فالإمام علي طويت له الأرض، وقد يستغرب أحدهم من هذه الحادثة، ولكن من لديه علم الكتاب فهو بالتأكيد لديه قدرات علمية على مستوى الفيزياء وعلى مستوى الرياضيات وعلى مستوى المعادلات، ومن لديه قدرات علمية بالطبع سيكون قادر على أن يسخر لنفسه وسائل طبيعية ويقطع المسافات في لحظات.

وعندما تقرأ القرآن في حق آصف بن برخيا، لما قال النبي سليمان لقومه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38] وعرش بلقيس في اليمن وسليمان في بيت المقدس، ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]، ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل: 40] ولا يقصد بالكتاب القرآن، وإنما المقصود به هو كتاب الكون أي عنده قدرات علمية على مستوى هذه العلوم الطبيعية ومن خلالها يقتدر على تسخير وسائل طبيعية لطي المسافات الطويلة في لحظات، ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40]؛ أي في لحظة آتيك بالعرش من اليمن إليك، فإذا كان من لديه علم من الكتاب قادراً على طي المسافة في لحظات بوسائله العلمية فكيف بمن لديه علم الكتاب كله وهو علي بن أبي طالب وأبناؤه الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وكما أن ابن أبي طالب ذهب من المدينة إلى المدائن، وجهز سلمان وعاد في نفس اليوم إلى المدينة كما أخبر هو ، كذلك ابنه السجاد خرج من الكوفة إلى كربلاء، وجهز والده الحسين بن علي ورجع إلى الكوفة في وقت قريب، فالعلة هي العلة والمناط هو المناط، والملاك هي الملاك.

[1]  يعقد الفقهاء هذا البحث وهو عن الأصل فيما يصدر عن النبي.
[2]  ليس لدينا نحن الشيعة أنه بطريق صحيح ولكنه وارد عن إخواننا السنة أنه بطريق معتبر
[3]  يفصل العلماء في سلسلة علل الأحكام، وفي سلسلة معلولات الأحكام، وتستطيع أن تراجع الكتب المعنية لتعرف هذا التفصيل، وقاعدة الملازمة لا يقرها جميع العلماء.