الإمامة في آفاق وثيقة الغدير

1442-01-03

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محاور ثلاثة:

  • ما هي حقيقة الإمامة؟
  • الإمامة بين النص وإرادة الأمة.
  • في آفاق حديث الغدير.
المحور الأول: ما هي حقيقة الإمامة؟

ربما يتصور الإنسان أن مفهوم الإمامة واحد عند جميع العلماء وعند جميع الاتجاهات، ولكن عند التأمل نرى أن تعريف الإمامة يختلف باختلاف الاتجاهات الفكرية المتنوعة، فهنا اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول: الاتجاه المدرسي.

وهو عبارة عن تعريف الإمامة بأنها مصدر التشريع، فكما أن النبوة مصدرٌ للتشريع باعتبار أنّ النبي - أي نبي كان - هو من يحمل رسالة التشريع علمًا وتبليغًا وتطبيقًا، كذلك الإمامة هي امتدادٌ للنبوّة، فالإمام هو من يحمل رسالة التشريع علمًا وتبليغًا وتطبيقًا، فالإمام حجّة لأنه مصدرٌ للتشريع، ولعلّ حديث الثقلين يرشد إلى ذلك: ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي“، فكما أن القرآن مصدر للتشريع، فأهل البيت مصدرٌ آخر للتشريع.

الاتجاه الثاني: الاتجاه العرفاني.

وهو الذي ينطلق من رؤية عرفانية، وهذا الاتجاه يعرِّف الإمامة بأن الإمام هو الإنسان الكامل، بحيث لا يوجد كمالٌ في هذا الوجود إلا وهو متضمّنٌ في شخصية الإمام. السيد الإمام في كتاب البيع يتبنى أن الإمامة هي الخلافة الإلهية الواقعية، وأن الرئاسة ما هي إلا صورة من صور الإمامة، وإلا فالإمامة هي أمر تكويني واقعي، وهو الخلافة الإلهية الواقعية.

نرى أيضًا أنّ السيد العلامة صاحب الميزان في الجزء الأول ص272 يعرِّف الإمامة بأنها الهداية بأمر ملكوتي، لأن الإمام هو الإنسان الكامل، فمن كماله أنه الواسطة في الفيض، في فيض الوجود على كل ذرة من ذرات هذا الكون، ومن كماله أنه له مقام الهداية الأمرية، له مقام الهداية بأمر ملكوتي، أي أن الإمامة نوعٌ من الولاية على الأنفس وعلى الأعمال، فبقدرة الإمام أن يغرس الهداية في قلب من يريد هدايته، والأمر الملكوتي هو الأمر الذي لا يخضع للزمن ولا للمكان، لأنه أمر خارج عن إطار المادة والمدة.

هنري كوربين فيلسوف فرنسي كان عنده لقاءات كثيرة مع السيد العلامة الطباطبائي، وهو الذي كتب عن علم العرفان عند الشيعة، وترجم كثيرًا من كتب الفلسفة والعرفان عند الشيعة إلى لغات أخرى، كوربين سأل السيد العلامة عن هذا التعريف للإمامة، قال له: هل هذا مأخوذ من التصوف أم التصوف أخذه من التشيع؟ لأن التصوف يعتقد أن الأولياء لهم مقام الإنسان الكامل، والإنسان الكامل له القدرة على التصرف في القلوب والأنفس والعقول بأمر ملكوتي، لذلك انطلق بالسؤال، قال: هذا ما يقوله المتصوفة، فهل التصوف أخذ من التشيع أم التشيع أخذ من التصوف؟ فالسيد العلامة أجابه أن التصوف أخذ هذا التعريف من التشيع، لأن التشيع سبق التصوف بقرون. السيد العلامة عندما يتبنى هذا التعريف للإمامة يقول: أنا أستند للقرآن لا إلى مبادئ عرفانية، عندما نرجع للقرآن نجده يحدد الإمامة بأنها الهداية بأمر ملكوتي، ويستدل على ذلك بمقدمتين:

المقدمة الأولى: أن القرآن كلما ذكر الإمامة قرنها بالهداية الأمرية، قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73]، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة: 24]، إذن الإمامة تساوي الهداية الأمرية.

المقدمة الثانية: ما هو الأمر في ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا؟ قال: الأمر هنا ليس الأمر التشريعي كالصلاة والصوم، بل الأمر هنا أمر ملكوتي، وهو عبارة عن التصرف في الأنفس والقلوب، وذلك من قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، فالأمر الإلهي أمر ملكوتي لا يتقيد بزمن ولا بمكان، خارج عن إطار المدة والمادة، لحظيٌّ، إذن الإمامة هي الهداية بأمر ملكوتي.

ما ذكره السيد صاحب الميزان أعلى الله مقامه محل تأمل ومناقشة عند العلماء.

أولًا: هذه الآيات ليست في مقام تحديد الإمامة، فرق بين التحديد والتوصيف، فرق بين أن تكون الآية في مقام تحديد معنى الإمامة، فنستفيد منها أن الإمامة تساوي الهداية، لأنها في مقام تحديد معنى الإمامة، وبين أن تكون الآية في مقام توصيف الإمام، يعني من أوصاف الإمام أنه يهدي بأمر، لا أن الإمامة هي الهداية، بل الإمامة لها معنى آخر، ولكن من أوصاف الإمام أيضًا أن له الهداية بأمر الله، فهي في مقام التوصيف وليست في مقام التحديد حتى نحدد الإمامة ونقول الإمامة هي الهداية الأمرية، بل الإمام له معنى آخر، لكن من أوصافه ومن مقاماته أن له الهداية.

ثانيًا: لنفترض أن الإمامة في مقام تحديد الإمامة، وهي تقول إن الإمامة هي الهداية بأمر الله، لكن من الذي قال بأن المراد في الأمر هنا هو الأمر الملكوتي؟ القرآن الكريم كما استعمل الأمر في الأمر الملكوتي، استعمل الأمر بمعنى الأمر التشريعي، قال: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5]، يعني التشريع الذي أنزله إليكم عبر الأنبياء والرسل، إذن مجرد كلمة الأمر لا تعني الأمر الملكوتي، لعل المقصود بالأمر هنا الأمر التشريعي، يعني الأئمة يهدون بأوامر تشريعية من الله تبارك وتعالى.

ولذلك عندنا رواية عن طلحة بن عبد الله عن الإمام الصادق في تفسير هذه الآية: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73]، قال: ”يهدون بأمرنا لا بأمر الناس“، يعني أنهم ينطلقون في الهداية استجابةً لأمرنا لا لأمر الناس.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الكلامي.

علماء الكلام عند الإمامية الذين أسّسوا دعائم علم الكلام، كيف عرَّفوا الإمامة؟ الإمامة هي أسّ المذهب الإمامي، أساس المذهب الإمامي هو الإمامة، فماذا قال عنها علماء الكلام؟ كيف تحدثوا عن حقيقة الإمامة؟ عندما نأتي إلى علماء الكلام، الشيخ المفيد في [الإفصاح: ج8، ص27]، السيد المرتضى في الذخيرة، المحقق الحلي في المسلك في أصول الدين، العلامة الحلي في كتاب الألفين ومعارج الفهم ص437، نصير الدين الطوسي في كتاب قواعد القواعد ص108، المقداد السيوري في كتاب الاعتماد في شرح الاعتقاد ص87... هؤلاء قادة علم الكلام عند الإمامية، هؤلاء كيف عرّفوا الإمامة؟ عرّفوا الإمامة بأنها الرئاسة في أمور الدين والدنيا، وبتعبير آخر: الرئاسة في أمور الدين والدنيا هي عبارة عن الولاية، أن له الولاية في مجال التشريع وفي مجال الإدارة.

المقام الأول: الولاية في التشريع.

التشريع في منطقة الفراغ، الإمام لا يشرِّع شيئًا خلاف ما شرّعه الله ورسوله، وإنّما له الولاية على التشريع في منطقة الفراغ، بتعبير السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر، يعبّر عنها بمنطقة الفراغ، وهي منطقة المباحات، ليس فيها إلزام، لا واجب ولا حرام، في منطقة المباحات للإمام أن يشرّع بعض القوانين حفاظًا على المصالح العامة.

مثلًا: في عهد أمير المؤمنين قلّت الموارد الطبيعية، فشرّع ضريبة زيادة، حيث فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين، الزكاة ليست واجبة في الخيل ولا في البراذين، لكن الإمام عليًا دعمًا لميزانية الدولة ودعمًا لبيت المال فرض هذه الضريبة، فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين، هذا تشريع في منطقة فراغ، منطقة مباحات، الدين أباح أن يدفع الإنسان ضريبة أكثر من الزكاة، الولاية على التشريع في منطقة الفراغ من شؤون الإمام.

المقام الثاني: الولاية في مجال الإدارة.

يدير القضايا السياسية، له الولاية على الأنفس والأموال بإعلان الحرب أو السلم، له الولاية على إقامة السدود وفتح الطرقات، له الولاية على القضاء، له الولاية على إقامة الحدود والتعزيرات، كلها تجتمع في الإدارة، الولاية في الإدارة صورة من صور الإمامة.

إذن الإمامة عند علم الكلام هي الولاية في التشريع في منطقة الفراغ وفي إدارة أمور الدولة، ونحن لا نريد أن ندخل في مناقشة ما ذكره السابقون أو اللاحقون، إنما بعض علمائنا من المتكلمين عقّب على هذا التعريف بعدة تعقيبات:

التعقيب الأول: هذه المناصب نحن لا ننكرها، ولكن ليست داخلة في الإمامة، الإمام هو الإنسان الكامل، لا إشكال في ذلك، الإمام له وساطة الفيض، لا ريب في ذلك، الإمام له الهداية الأمرية، لا غبار على ذلك، لكن هذه المناصب هي مضافًا لمنصب الإمامة لا أنها دخيلة في مفهوم الإمامة، الإمام له هذه المناصب كما له منصب الإمامة، نحن نتكلم في تحديد معنى الإمامة، وليس في استعراض مناصب الإمامة، مناصب الإمام كثيرة، مقاماته كثيرة، أما الإمامة ما هي؟ الإمامة هي الرئاسة في أمور الدين والدنيا.

وإلا فالزهراء لها هذه المقامات وليست إمامًا، الزهراء الإنسان الكامل، الزهراء لها الوساطة في الفيض التكويني وغيره، الزهراء لها منصب الهداية الأمرية، لكن ليست بإمام، يعني الإمامة بمعنى الولاية على الأنفس والأعراض والأموال لم تثبت للسيدة الزهراء وثبتت لعلي وذريته صلوات الله وسلامه عليهم.

التعقيب الثاني: التشيع، متى يقال هذا شيعي إمامي؟ عندما يدين الله بألا يأخذ دينه إلا من إمام منصوص عليه معصوم، هذا قوام التشيع، قد لا يعتقد بالوساطة في الفيض، قد لا يعتقد بالهداية الأمرية، قد لا يعتقد بهذه المقامات لشبهة عنده، لكن مناط كونه شيعيًا إماميًا أن يعتقد ألا يأخذ دينه إلا من شخص معصوم منصوص عليه بالإمامة، هذا قوام التشيع، ولأجل ذلك لأن هذا هو قوام التشيع هو الفاصل بين الإمامي وبين غيره.

التعقيب الثالث: هناك فرقٌ بين عناوين ثلاثة لا نخلط بينها، الوصي والحجة والإمام، هذه تختلف معانيها، ليست كلها بمعنى واحد، الوصي هو من يكون مصدرًا للتشريع، هم أئمة وهم أوصياء أيضًا، يعني هم مصادر التشريع كما كان الرسول ، فلهم مقام الإمامة بمعنى الولاية ولهم مقام الوصاية بمعنى أنهم مصدر التشريع، ومن لوازم الوصاية الحجية، لأنه إذا كان مصدر الحجة فلا بد أن يكون حجة على غيره، ولذلك ترى في حديث الدار قال النبي : ”أيكم يؤازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي“، الخلافة غير الوصاية، فأحجم القوم إلا علي، فقال: ”اشهدوا أن هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي“، إذن الإمامة شيء والوصاية شيء آخر وعنوان آخر يثبت للإمام المعصوم .

المحور الثاني: الإمامة بين النص وإرادة الأمة.

هنا سؤالان:

السؤال الأول: هل أن بحث الإمامة يتعارض ويتنافى مع مبدأ الوحدة بين المسلمين؟

ربما يقول شخص: لماذا تطرحون بحث الإمامة؟ تدخلوننا في قضايا مذهبية وجدالات خلافية، بينما أنتم تحرصون على مبدأ وحدة الكلمة بين أبناء المذاهب الإسلامية، هل أنّ بحث الإمامة يصطدم أو يتعارض مع مبدأ الوحدة بين المذاهب الإسلامية في ظلّ راية الإسلام أم لا؟

الجواب: ليس كذلك، لماذا؟ نحن نؤمن بمبدأ الوحدة، مبدأ الوحدة مبدأ مقدّس عندنا، لأن مبدأ الوحدة بين المسلمين هو مبدأ قرآني، ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]، مبدأ الوحدة بين المسلمين مبدأ قرآني مقدّس لا غبار عليه، الإمام علي بعد وفاة رسول الله عندما لم يستلم الخلافة قال: ”والله لأسالمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة“، المهم أن يبقى الإسلام، المهم أن يبقى المسلمون يدًا واحدة، لكن بحث الإمامة نطرحه بهدفين:

الهدف الأول: التعريف بمعتقدنا، فمن حقّ كلّ مذهب أن يعرّف بمعتقداته وتفاصيل مذهبه وبما ينطوي عليه مذهبه من مضامين وتعاليم، إذن انطلاقًا من التعريف بمعتقدنا نتحدّث عن منصب الإمامة، من دون الدخول في جدالات.

الهدف الثاني: الإجابة على أسئلة الداخل، إذ هناك كثيرٌ من أبنائنا وأجيالنا له أسئلة حول الإمامة، أدلّتها، تفاصيلها، شؤونها، مقاماتها، انطلاقًا من الإجابة الشافية عن هذه الأسئلة والحوارات نطرح منصب الإمامة، ونتحدّث عن موقع الإمامة.

السؤال الثاني: هل الاعتقاد بالنص يلغي إرادة الأمة؟

هذا سؤال مهم، قد يقول قائل: إنّ تعيين الإمامة بالنص يصطدم مع إرادة الأمة، أنتم تلغون إرادة الأمة، أنتم عندما تقرّرون أنّ الإمامة بالنصّ والتعيين فهذا يعني أنه ليس لأحد من الأمة خيارٌ في انتخاب الإمام، هذا إلغاءٌ لإرادة الأمة، وقد ذكرنا في ليلة سابقة أنّ من ركائز حقوق الإنسان العقد الاجتماعي، والعقد الاجتماعي كما قال روسو هو تعبيرٌ عن حرّية الإرادة لدى كلّ فرد من أفراد المجتمع، حيث إنّ له الحرية في تقرير المصير، إذن الإمامة بالنص تتنافى مع الإرادة الاجتماعية، مع العقد الاجتماعي، فكيف نجيب عن هذا السؤال؟ نذكر هنا إجابات ثلاثة:

الإجابة الأولى: الفرق بين القراءة الكمية والقراءة الكيفية.

المفكّر القانوني المصري الدكتور عبد الرزّاق السنهوري عنده كتب مشهورة في القانون، عنده كتاب الوسيط في القانون، وعنده كتاب مصادر الحق، هذا المفكّر القانوني يقول: هناك فرقٌ في قراءة المجتمع بين القراءة الكمّية والقراءة الكيفيّة، فالقراءة الكمية هي التي تهتمّ بالرقم، والقراءة الكيفية هي التي تهتمّ بالمعالم الفكرية ولا يهمّها كم هو الرقم، عندما نريد أن نصدر قانونًا هل نعتمد على الرقم أم نعتمد على القرائن والأدلة التي تهدينا نحو الصواب؟ هل رأيت قانونًا في الدنيا يصدر بانتخاب الأكثرية؟! لا، يصدر القانون بعد أن يقوم علماء القانون بدراسة جميع الجهات الدخيلة في تنقيح المصلحة العامة، القوانين لا تخضع للانتخاب، وإنما تخضع لقراءة كيفية لا لقراءة كمّية، ليس المهم أن ينتخب القانون كمٌّ، وإنما المهم أن يصدر القانون عن دراسة وافية على ضوء المصالح العامّة.

نحن الآن نعاني مع كورونا، لم تدع لنا راحة! روسيا قالت إنها أصدرت اللقاح، وجامعة إكسفورد قالوا في طريقه إلى... وهكذا، هل تحديد اللقاح لمعالجة أيّ وباء يخضع للانتخاب؟! لا، بل يخضع لدراسات طبّية ومختبرية إلى أن يتمّ تحديد اللقاح، تحديد الغداء، تحديد الدواء، تحديد القانون، لا يخضع لقراءة كمّية، وإنما لقراءة كيفية.

أيضًا تأتي إلى منصب القضاء، لا توجد دولة في الدول تنصب قاضيًا بالانتخاب، بل يُنْصَب القاضي على أساس الكفاءة وليس على أساس الانتخاب، إذا امتلك خبرة بالقضاء وامتلك نزاهة في السلوك عُيِّن قاضيًا، القضاء تبعٌ للجدارة وليس تبعًا للانتخاب، إذا كان القانون والغذاء واللقاح والقضاء كلّها لا تخضع لقراءة كمّية فلا يهمنا كم الرقم، لا يهمّنا اُنْتُخِب أم لم يُنْتَخَب، وإنّما يهمّنا القراءة الكيفية الناشئة عن الوعي والدراسة وجمع القرائن والأدلة التي توصلنا إلى صورة واضحة شافية على أساسها نتّخذ القرار، فكيف بأخطر منصب ألا وهو منصب الإمامة؟! إذن القراءة المتحكمة في اختيار أخطر منصب هي القراءة الكيفية لا القراءة الكمّية.

هناك أيضًا جهة أخرى لا بدّ من الالتفات إليها، دوركايم مؤسس علم الاجتماع، وفي بعض الأنظار يعتبرونه مجدّد علم الاجتماع حيث سبقه علماء، دوركايم عندما يعلّق على العقد الاجتماعي يقول: العقد الاجتماعي ليس فكرة عملية، العقد الاجتماعي هو عبارة عن انتخاب الأكثرية، العقد الاجتماعي يعبِّر عن إرادة المجتمع وعن حرية الإرادة في تقرير المصير، فلماذا العقد الاجتماعي ليس فكرة عملية؟ هنا تأتي التحليلات، هو ألقى كلمة وأتت التحليلات بعده، ماذا يقصد هو من هذه الكلمة؟ من جملة التحليلات لكلمته أنّ انتخاب الأكثرية ليس بالضرورة تعبيرًا عن الإرادة، بل قد يكون إلغاءً لإرادة الأقلية، أحيانًا انتخاب الأكثرية إلغاء لإرادة الأقلية وعدم مبالاة بهم، انتخاب الأكثرية ليس بالضرورة أن يكون نابعًا عن وعي، الذين ينتخبون في الدول الغربية هل كلهم عن وعي؟! ليس بالضرورة أن يكون انتخاب الأكثرية نابعًا عن وعي بالأهداف وقراءة للمرحلة وفهم للقدرات والآليات، بل قد يكون انتخاب الأكثرية نابعًا عن التلقين الإعلامي والضجيج الإعلامي ليس إلّا، فكيف تكون الإرادة المجتمعية أو العقد الاجتماعي هو مصدر القرار في تحديد الإمامة، مع أنّ انتخاب الأكثرية قد يبتلى بهذه الهنات والمحاذير التي ذكرناها؟! هذه هي الإجابة الأولى.

الإجابة الثانية: الفرق بين النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية.

هناك فرقٌ بين النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية، النظرة الذاتية هي التي تركّز على الخصائص الشخصية، والنظرة الموضوعية هي التي تركّز على الأهداف العليا، نأتي ونتساءل: ما هو الهدف من منصب النبوة ومنصب الإمامة؟ ما هو الهدف من هذا المنصب الديني؟ الهدف حدّده القرآن: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد : 25]، الهدف هو تحقيق العدالة، إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة نسأل: ما هو الطريق الأقرب لتحقيق العدالة؟ ما هو الطريق الأكثر ضمانًا لتحقيق العدالة؟ ما هو الطريق الذي يوصلنا باطمئنان لتحقيق العدالة؟ هل هو العامل الكمّي، الرقم؟ أم هو العامل الكيفي، بمعنى أن يعيَّن من يمتلك القدرة على تحقيق العدالة، من يمتلك الكفاءة، من يمتلك الجدارة؟ أيهما؟ لا إشكال أنه الطريق الثاني، النظرة الموضوعية، الطريق الأكثر ضمانًا وسلامة والأقرب لتحقيق العدالة أن تكون الإمامة بيد الشخص الذي يمتلك الجدارة لهذا المنصب، ما هي الجدارة؟ العلم والعصمة، هذا هو الطريق المضمون، وليس الطريق المضمون انتخاب الأكثرية، بل الطريق المضمون أن يمتلك العلم والعصمة ليكون مؤهلًا بجدارة لهذا المنصب.

لذلك، عندما تأتي وتسأل: لماذا الإمامة اختصّت بعلي وذريته؟ يعني قحط لا يوجد غيرهم؟! كلّ هذه الأسر والعوائل لا يقدر منها أحد على الإمامة إلا علي وذريته؟! هل عقمت الأمّهات؟! لماذا إلا في علي وذريته؟! هذا السؤال يأتي على القرآن نفسه، لماذا الله جعل النبوة والإمامة في إبراهيم وذريته؟! يعني قحط؟! هل عقمت الأمهات إلا في إبراهيم وذريته؟! القرآن يقول: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27]، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ «33» ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 33 - 34]، فلماذا خصوص آل إبراهيم؟! ما هي الميزة؟!

ليست المسألة راجعة لخصائص مادّية في أجسامهم، أو لخصائص نسبية في قبيلتهم، أو لخصائص وراثية حملوها من أسلافهم، لأن الخصائص المادية والنسبية والوراثية موجودة فيهم وفي إخوتهم، موجودة في أبناء الحسين وأبناء الحسن، وموجودة في أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق، لماذا اختصّ هؤلاء من دون غيرهم؟! لا لخصائص مادية أو ذاتية بل لخصائص موضوعية وهي أنهم حملوا العلم والعصمة، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ «45» إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «46» وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ [ص: 45 - 47]، هذه خصائص موضوعية.

الإجابة الثالثة: دور الأمة في الرقابة.

لو كان المذهب الإمامي الذي يرى أنّ الإمامة بالنص يلغي دور الأمة، بحيث يقول: لا دور للأمة في دولة الإمامة، حينئذ ربّما يأتي الإشكال، أنّ هذا إلغاء لحق الأمة، هذا مصادرة لإرادة الأمة، لكن المذهب الإمامي الذي يقول بأن الإمامة بالنص لا يلغي دور الأمة، لأن دولة الإمام علي ودولة الرسول قامت على دعامتين: رأس السلطة إنسانٌ معصومٌ، ولكن جهاز السلطة قامت به الأمة نفسها، لم يُلْغَ دور الأمة ولم تُلْغَ إرادة الأمة، دولة النبي ودولة الإمام علي كلاهما قاما على دعامتين: الدعامة الأولى رأس السلطة، هو معصوم، قيادة معصومية، والدعامة الثانية الأمة نفسها، جزء من الدولة، جزء من إدارة الدولة، لأن للأمة منصب الرقابة على الدولة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104]، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 71]، الأمة لها دور في السلطة.

النبي كان يشاور أصحابه، لماذا يشاورهم؟ يشاورهم في المعارك وفي إدارة الأزمات، لأنّ لهم دورًا في دولته وسلطته، كان يشاورهم. الإمام علي عندما يكتب لمالك الأشتر في عهده: ”وأكثر من مدارسة الحكماء، ومناقشة العلماء“، لماذا؟ هذا الذي يقوله السنهوري: قراءة كيفية لا قراءة كمّية، لا يهم الرقم كم، بل يهم أن من أستشيره حكيم عالم، وليست المسألة مسألة كم، بل مسألة كيف، لذلك المشورة التي أمر بها القرآن حيث قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]، لا يراد بالمشورة الانتخاب، وإنما يراد بالمشورة جمع العقول والتجارب والخبرات، كما ورد عن الإمام علي : ”أعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“، وورد عنه: ”من استبدّ برأيه هلك“، وورد عنه: ”من شاور الناس شاركهم في عقولهم“، إذن المشورة التي هي جزءٌ من كيان الدولة في عهد النبي وعهد الإمام علي بمعنى الاستفادة من التجارب والخبرات وليست بمعنى الانتخاب، انتخاب الأكثرية.

وفي عهد الإمام علي كذلك، صحيح أنّ رأس السلطة معصوم، لكن الوزراء والولاة ليسوا معصومين، ولذلك كانت الأمة تعترض على الولاة والوزراء فيقوم الإمام بعزلهم، كم واليًا عزله الإمام علي عن الولاية؟ عزل أبا الأسود الدؤلي عن القضاء، عزل عبيد الله بن العباس عن ولاية البصرة، عزل ولاة بعد شكوى الناس، لأن للأمة إرادة، لأن للأمة مقام الرقابة والولاية، بمعنى ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذن عندما يؤمن المذهب الإمامي بأن الإمامة بالنص فهو لا يلغي إرادة الأمة ولا دورها.

المحور الثالث: في آفاق حديث الغدير.

نحن لا نبحث الآن عن سند حديث الغدير، فقد كفانا الشيخ الأميني صاحب كتاب الغدير، الذي أثبت تواتر حديث الغدير بين المؤرّخين والمحدّثين وعلماء الأنساب والأدباء والشعراء، من عهد النبي إلى عهدنا هذا، الكلام ليس في سند حديث الغدير، فهو حديث متواتر، وإنما الكلام في مدلول حديث الغدير، ما معنى حديث الغدير؟ هناك من يربط قضية الغدير بالخلاف بين الإمام علي وبعض الصحابة عندما رجع الإمام علي من اليمن، لما رجع الإمام علي من اليمن اختلف مع بعض الصحابة، فقام أربعة من الصحابة وشكوا الإمام عليًا إلى الرسول ، فأراد الرسول أن ينتصر لعلي وأن يرفع التهمة عنه، فقال يوم الغدير: ”من كنت مولاه فهذا علي مولاه“، لا لأجل تنصيبه للإمامة، بل لأجل رفع التهمة عنه والانتصار إليه.

هذا خلطٌ بين المواقع، حديث الغدير أين وقضية اليمن أين؟! الإمام علي لمّا رجع من اليمن ووصل إلى مكّة، هذا قبل الحج، وحديث الغدير بعد الحج، النبي علّق على قضية اليمن قبل الحج، فلا يحتاج أن يعلّق عليها مرة أخرى، لاحظوا الترمذي والطبراني وعدة من أعلام المحدّثين والمؤرّخين يروون هذه الرواية: عن عمران بن حصين: لما بعث رسول الله جيشًا واستعمل عليهم علي بن أبي طالب فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله فقالوا: إذا لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من السفر بدؤوا برسول الله فسلّموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلّموا على النبي، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم ترَ إلى علي صنع كذا وكذا؟ فأعرض عنه الرسول، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته، فأعرض عنه الرسول، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الرابع فقال مثلما قالوا، فأقبل إليهم رسول الله والغضب يُعْرَف في وجهه، فقال: ”ما تريدون من علي؟! ما تريدون من علي؟! ما تريدون من علي؟! إنَّ عليًا مني وأنا منه، وإنّ عليًا وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي“. هذا قبل حجة الوداع، وانتهت القضية بهذا، فلا نخلط بين واقعة الغدير وبين ما حصل للإمام علي بعد رجوعه من اليمن، هذا شيء وذاك شيء آخر.

نحن إذا قرأنا حديث الغدير بسياقه ماذا نفهم منه؟ ”ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه“، ما معنى ولاية النبي؟ النبي يقول: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ كما نصّ القرآن الكريم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]، ما معنى ولاية النبي؟ ليست بمعنى النصرة ولا بمعنى المحبّة، وإنّما بمعنى أنّ له الولاية العامّة على الأنفس والأعراض والأموال، ”فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه“ أي من ثبتت الولاية لي عليه فقد ثبتت لعلي الولاية عليه، كل شخص عربي يفهم هذا الفهم، وكما ذكر الشيخ المفيد في كتاب الإفصاح: من له أدنى فهم في اللغة يفهم الولاية. الآن الإشكالات على حديث الغدير أهمّهما إشكالان أتعرّض لهما باختصار:

الإشكال الأول: غدير خم ليس الموقع الجغرافي المناسب.

لو كان حديث الغدير دالًّا على الإمامة، لكان الموقع الجغرافي المناسب له أن يكون في مكّة، في عرفات، لا أن يكون الموقع الجغرافي لتنصيب الإمامة غدير خم، غدير خم ليس مفترق طرق كما ذكر بعض المؤرّخين، بل غدير خم يبعد عن مكّة 200 كيلو، غدير خم واقع في طريق المدينة، يعني أنّ حجّاج الطائف رجعوا إلى بلادهم، وحجّاج اليمن رجعوا إلى بلادهم، وحجّاج نجد رجعوا إلى بلادهم، لم يبقَ إلّا حجّاج المدينة وما حولها من القرى، فغدير خم ليس موقعًا جغرافيًا مناسبًا لتنصيب الإمامة، لأنه لا يحضره إلا حجّاج المدينة ومن حولها، فلو كان حديث الغدير دالًا على الإمامة لأبلغه رسول الله في مكّة، لأنها هي الموقع الجغرافي المناسب، حيث يجتمع الحجيج، لا في غدير خم، هذا دليل على أنّ حديث الغدير لا يدلّ على الإمامة.

الجواب: أوّلًا: لا تُقْرَأ الأحداث التاريخية بهذه المعادلات، وإنّما تُقْرَأ الأحداث التاريخية من خلال قراءة ظروفها وعواملها، فهل كانت الظروف في مكة وعرفة منسجمة مع إعلان الإمامة وحديث الغدير؟ لا، النبي كقائد سياسي محنّك - لا يشكّ في ذلك أحد - كان يراعي التوازنات الصعبة بين القبائل وبين قريش وبين غيرها، كان النبي يراعي هذه التوازنات في مسيرته الإدارية، وهذه التوازنات فرضت على النبي أن يؤخِّر حديث الغدير إلى أن يصل إلى الغدير، وإلّا فالأمر بتنصيب علي نزل والرسول في مكّة، لكنّ الرسول أخّره إلى أن وصل إلى منطقة غدير خم، لماذا؟

كان القلق يساور النبي من إبلاغ هذا الأمر، ومنشأ هذا القلق الذي يساوره أمران: اتّهامه، وخطر القتل على الإمام علي ، النبي لو أعلن الإمامة في مكّة أو في عرفات لكان موضع الاتّهام بأنه يريد إبقاء السلطة في أسرته وأهله وذريته، يريد أن تبقى القيادة في هذا البيت وفي هذه الأسرة، فسوف يكون في معرض الاتهام، هذا كان قلقًا يساور النبي ، والمنشأ الثاني: الخطر، احتشاد الناس في عرفة وفي مكّة مظنّة خطر القتل بدم بارد، حيث لا يُعْرَف القاتل في وسط احتشاد الناس.

هذه الظروف المخيفة التي كان يعيشها النبي هي التي نقرؤها في الروايات، الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ينقل عن أنس بن مالك، جابر بن سمرة، أنّ النبي في يوم عرفة صعد خطيبًا، فقال ممّا قال: ”لا يزال الدين قائمًا عزيزًا منيعًا حتى تقوم الساعة، ويكون فيكم اثنا عشر خليفة“، فقام اللغط أمامه، يقول جابر بن سمرة: فلم أسمع البقية، فسألت أبي، وكانت راحلته أقرب إلى راحلة رسول الله ، فقلتُ: ماذا قال بعد ذلك؟ قال: قال: ”كلهم من قريش“. هذا علامة على وجود لغط، وعلى وجود نوع من المعارضة.

هذا المعنى يعبِّر عنه الإمام الباقر حيث يقول: ”فلما أتاه الأمر من الله ضاق صدره، وخاف أن يرتدّ العرب عن دينهم، وأن يكذّبوه“، سيقولون: هذا من رأسك أنت، تريد أن تجعل القيادة في بيتك وفي ذرّيتك! وفي رواية ثانية عن النبي : ”إنّ أمّتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمّي سيقول قائل كذا ويقول قائل كذا، وإنّ العرب قومٌ جفاة لم يكن فيهم نبيٌّ ولا كتابٌ، ولا يعرفون فضل الأنبياء وشرفهم، فلن يؤمنوا إذا علموا ببقاء الأمر في أهل بيتي“، إذن هناك ظروف أخّرت إبلاغ الإمامة إلى أن وصل إلى منطقة غدير خم، فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، هذا القلق الذي أنت تحمله سينتهي.

ثانيًا: لم يكن كلّ المسلمين منقادًا إلى النبي ومسلِّمًا لأوامره ومطيعًا لما يصدر منه، وأذكر لك الآن بعض الشواهد: يذكر الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ الرسول لما أمر بالإحلال من عمرة التمتّع وقد بقي على الحج خمسة أيام اُعْتُرِض عليه، هو يبلّغ أمرًا إلهيًا، هذا ليس إدارة ولا سياسة، بل أمر إلهي محض، قال لهم: أحلّوا من العمرة وأحرموا للحج بعد خمسة أيام، فاُعْتُرِض عليه وقيل: كيف نذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيًا؟! لأن من أحلّ من إحرام عمرة التمتّع يجوز له سائر محظورات الإحرام، ومنها التمتّع بالنساء، فقالوا: كيف نحن بين العمرة والحج نواصل نساءنا؟! هذا ليس معقولًا! فقام النبي خطيبًا كما في صحيح البخاري وقال: ”بلغني أنّ قومًا يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبرّ وأتقى لله منهم“، يعني يدفع عن نفسه تهمة، أنا لا أشرّع شيئًا من عندي، لست أخالف مسار التقوى.

شاهد آخر: النبي كما روى مسلم في صحيحه يقول لزوجته عائشة: ”لولا أنّ قومك حديثو عهد بالجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، وأدخلت فيها الحِجْر“، هذه قضايا عادية، ومع ذلك النبي يخشى المعارضة، لأن القوم حديثو عهد بالجاهلية، فإذا كان النبي يعيش هذا القلق لأن القوم حديثو عهد بالجاهلية في أمر بسيط وهو توسعة الكعبة، وإنفاق كنزها في سبيل الله، ومسألة عمرة التمتّع، فكيف بهذا المقام الخطير ألا وهو منصب الإمامة؟!

ثالثًا: حديث الغدير لم يكن مفاجئًا، بل جاء بعد تمهيدات طويلة، حديث الدار: ”إنّ هذا أخي ووصيي“، حديث المنزلة: ”ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي“، حديث المؤاخاة، آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى بينه وبين علي، وقال: ”إنّ هذا أخي“، حديث آية الولاية، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة: 55]، إذن هذه كلها مهّدت الطريق إلى أن يتقبّل أهل المدينة، لأن أهل المدينة عاشوا مع النبي، المهاجرون والأنصار عاشوا فأنسوا بهذه الإعدادات والتمهيدات دون غيرهم.

أي أنّ النبي كان بين خيارين: الخيار الأول: أن يعلن الأمر في مكّة، وتحصل المعارضة، وربّما تكون مظنّة قتل، أو أن يُعْلِن الأمر لحجّاج المدينة ومن حولها، وبما أنّ أهل المدينة هم المهاجرون والأنصار وهم أهل الحلّ والعقد وهم صدر الإسلام وهم الذين تلقّوا التشريعات من أول يوم إلى آخره، وهم الذين عاشوا مع النبي حديث الدار وحديث المنزلة وحديث الولاية وحديث المؤاخاة، لذلك كان أهل المدينة هم الأولى بتلقّي حديث الغدير ومعرفة فحواه، وسيقومون بتبليغ هذا الأمر لبقية المدن والأقوام، كما قاموا بتبليغ الدين كله، الدين لم يكن يُبَلَّغ لكل الناس، بل كان يُبَلَّغ لخصوص أهل المدينة، وكان أهل المدينة يبلّغون الباقي بتعاليم الدين، فكذلك بالنسبة إلى منصب الإمامة.

الإشكال الثاني: لماذا الإصرار على تنصيب علي وهو غير مرغوب فيه؟

إذا كان النبي يعلم أنّ عليًا غير مرغوب فيه، لأنّ بينه وبين قريش ثارات، كما ورد في دعاء الندبة: ”فأودع قلوبهم أحقادًا بدرية وحنينية وخيبرية وغيرهن، فأضبّت على عداوته“، قبيلة قريش كان لها موقف سلبي من الإمام علي ، النبي يعلم بذلك، إذا كان النبي يعلم أنّ عليًا غير مرغوب فيه فلماذا نصبه للإمامة؟! هذا نقض للغرض، هذا خلاف الحكمة، إنّ الغرض من نصب الإمام انقياد الناس إليه، لكي يتمكّن من تطبيق الدين وإقامة الحدود، فلا بدّ أن يكون شخص الإمام شخصًا مرغوبًا فيه، فإذا لم يكن مرغوبًا فيه فنصبه نقضٌ للغرض وخلاف الحكمة، فما هو الجواب عن ذلك؟ الجواب: تارة نتكلم بالمنظور العقلائي وأخرى بالمنظور القرآني وثالثة بالمنظور النبوي.

المنظور الأول: المنظور العقلائي.

إنّ العقلاء في رسم القوانين وفي إعداد المناصب لا يرتكزون على الثقافات الضيّقة الخاصة ببعض القبائل أو ببعض الأقوام، وإنما يعتمد العقلاء في رسم القوانين وإعداد المناصب على المرتكزات العقلائية العامّة، لا على ثقافات خاصة، والله قريش لا ترضى! خيرًا يا طير! والله قريش عندها موقف! خيرًا يا طير! هل المرتكز العقلائي يأبى ذلك أم لا؟ العقلاء يسيرون على طبق المرتكزات والمفاهيم العقلائية، لا على الثقافات الخاصة ببعض القبائل وببعض الأقوام، لذلك العقلاء ينطلقون من منطلق الكفاءة، هل لديه الكفاءة أم لا؟ إذا كان يملك الكفاءة فهو أحق، رغبته بعض الأقوام أم لم ترغبه، تناسب وانسجم مع بعض الأعراف أم لا، المهم الكفاءة، وهذا المنصب يحتاج إلى صفات ثلاث تدعم ذلك: العلم والنزاهة والشجاعة، وكلّ هذه المؤهلات بإجماع المسلمين توفّرت في علي بن أبي طالب، إذن بحسب الرؤية العقلائية عليٌّ خليقٌ بالإمامة، لأنه يمتلك مؤهلاتها: العلم والنزاهة والشجاعة وقوّة الإرادة. والله سنّه صغير! ما هذا الكلام؟! الإمام كان عمره فوق الثلاثين، فأين صغر السن؟! والعقلاء لا يبالون بمسألة السن، نابيليون، الإسكندر، قادة قادوا التاريخ وهم أحداث في السنّ، إذا اكتملوا الكفاءة فإنّ المجتمع العقلائي يقرّ قيادتهم، ولا يركّز على مسألة السنّ.

المنظور الثاني: المنظور القرآني.

هل القرآن يجعل للسنّ قيمة؟ أم يجعل الكفاءة هي ذات القيمة؟ القرآن الكريم يتحدّث عن قوم نوح أنهم رفضوا رسالة نوح لأنّ نوحًا لم يكن من القبائل المرموقة، ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود: 27]، مع أنّ نوحًا لم يكن مرموقًا اجتماعيًا مع ذلك بعثه الله نبيًا، أو مثلًا موسى ، موسى قتل نفسًا من بني إسرائيل، وكان خائفًا أن يدخل إلى مصر نبيًا، ﴿إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33]، وفرعون أيضًا عيّره بهذا الحدث، حدث القتل، ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء: 19]، إذن كانت هناك مشكلة ومع ذلك بعثه الله نبيًا رسولًا وألغى هذه المشكلة التي كانت في نظرهم عيبًا، وكذلك عيسى بن مريم حيث يصرّح القرآن بأنه نبيٌ وهو في المهد، ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «29» قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 29 - 30] وهو في المهد، فلماذا لم يراعِ الله صغر السن؟! النبي محمّد كان في البيوت الفقيرة من قريش، لم يكن في تلك الطبقة الراقية، ومع ذلك بعثه الله نبيًا، ولذلك يقول القرآن: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]، من المفروض أن يختار شخصًا عظيمًا اجتماعيًا لا أن يختار هذا اليتيم الفقير من عائلة فقيرة!! إذن المناصب الدينية لا يراعى فيها الأعراف الخاصة، وإنما يراعى فيها الكفاءة والجدارة.

المنظور الثالث: المنظور النبوي.

إنّ النبي خلّف أسامة بن زيد قائدًا على الجيش وعمره 18 سنة، وكان في الجيش كبار الصحابة، وكان في الجيش كبار المسلمين سنًّا وقدمًا، ومع ذلك جعل القيادة بيد أسامة بن زيد وعمره 18 سنة، وخلّف عليًا على المدينة عندما خرج لغزوة تبوك ولم يكن بذلك السن، قال: كيف خلّفتني مع النساء والصبيان؟ قال: ”ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبي بعدي“، إذن النبي لم يعبأ بمسألة السنّ في التنصيب وفي تأهيل القادة، لذلك لا مجال لهذا الاعتراض على حديث الغدير.

قد يقول قائل: إذا كان حديث الغدير يدلّ على الإمامة، فلماذا لم تحتج به الزهراء ولم يحتج به الإمام علي إذا كان دليلًا واضحًا على الإمامة؟!

أولًا: من الذي قال لم يحتج به هؤلاء؟! صحيح إخوتنا أهل السنة لم يرووا في كتبهم احتجاج الزهراء أو الإمام علي بهذا الحديث، ولكن في كتبنا ورواياتنا، حيث روى الشيخ الصدوق في الخصال ج1، ص173 عن الزهراء : ”وهل ترك أبي يوم غدير خمّ لأحدٍ عذرًا؟!“، ويروي الشيخ الصدوق أيضًا في ج2، ص641 أنّ اثني عشر صحابيًا احتجّوا بحديث الغدير.

ثانيًا: إذا كان المقصود أنّ الإمام عليًا لم يحتج أبدًا بحديث الغدير فهذا ليس صحيحًا، الإمام علي كما ذكر الترمذي والطبراني وصحّحه الألباني على شرط الصحيحين احتجّ يوم الرحبة، صلى الإمام علي وصادف يوم الجمعة ويوم الغدير، صلى في منطقة في العراق تسمّى الرحبة، ووقف خطيبًا واحتجّ على الناس، قال: ”أشهدكم الله، أيّ واحد منكم سمع رسول الله يوم الغدير يقول فيَّ: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فليقم وليشهد“، فقام نيف وثلاثون صحابيًا وشهدوا بذلك. إذن، لا غبار على دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين علي .