دولة الأمّة في الخلافة العلوية

1442-01-05

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ

هناك فرقٌ بين مصطلح الدولة ومصطلح الحكومة، فالدولة كيانٌ سياسيٌّ سياديٌّ في نطاق إقليمي معيّن، يمارس أجهزته في ظلّ الاعتراف الدولي بسيادته وشخصيته القانونية، كأن يقال: المملكة العربية السعودية، الكويت، سلطنة عمان، دولة، كيان سياسي، وأما الحكومة فهي جزء من الدولة، لأن الحكومة هي سلطة من سلطات الدولة، فالدولة تتضمن سلطة قضائية وسلطة تشريعية وسلطة تنفيذية، والحكومة إحدى سلطات الدولة، وأما الدولة فهي كيان سياسي سيادي قائم بذاته.

ولكن نحن عندما نتحدّث عن مصطلح الدولة المدنية أو دولة الأمّة فإننا نقصد بهذا المصطلح هو السلطة، دولة الأمة يعني السلطة القائمة على إرادة الأمة، والدولة المدنية هي السلطة القائمة على الإرادة المجتمعية، وحديثنا في هذا الإطار في ثلاثة محاور:

  • تاريخ مفهوم الدولة المدنية.
  • الدولة المدنية ودولة الإمّة الالتقاء والافتراق.
  • مبادئ الدولتين في الخلافة العلوية للإمام أمير المؤمنين علي .
المحور الأول: تاريخ مفهوم الدولة المدنية.

الدكتور أحمد بوعشرين الأنصاري له دراسةٌ «مفهوم الدولة المدنية في الفكر الغربي والإسلامي»، وهذه الدراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفي هذه الدراسة يذكر لنا تاريخ مفهوم الدولة المدنية، فالدولة مرّت بمراحل أربع:

المرحلة الأولى: التأسيس للسلطة المطلقة باسم الدين، وهو ما مارسته الكنيسة في أوروبا، ونظّر له جانبودان في كتابه «كتب الجمهورية الستة».

المرحلة الثانية: مرحلة السلطة المطلقة ولكن اعتمادًا على العقد الاجتماعي، حيث بقيت السلطة مطلقة ولكنها استندت للعقد الاجتماعي، وهو ما نظّر له هوبز في القرن السابع عشر.

المرحلة الثالثة: التأسيس لسلطة مقيّدة وليست مطلقة، وهذا ما نظّر له جان لوك في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، حيث ذكر أنَّ من الضروري أن ينتقل المجتمع البشري من مجتمع عفوي بسيط إلى نظام يقوم على قضاء عادل وقانون ثابت وفصل بين السلطات وتغيّر منتظم في السلطة التشريعية، كلّ ذلك استنادًا لعقد اجتماعي، والعقد الاجتماعي يعني أن يتنازل الإنسان عن سلطته ويفوّض الأمر إلى سلطة تقوم على تنفيذ القانون وحماية الحرّيات والحقوق.

المرحلة الرابعة: المرحلة التي نظّر لها الفيلسوف الفرنسي روسو الذي قال هي مرحلة سموّ الإرادة الاجتماعية، أي أنَّ العقد الاجتماعي ليس تعبيرًا عن تنازل، بل العقد الاجتماعي هو تعبيرٌ عن حرّية الإنسان وإرادته، فكل فرد من المجتمع عندما ينتخب ويدخل ضمن العقد الاجتماعي فهو يمارس حرّيته وإرادته من خلال تفويض الإرادة العامّة في تشكيل سلطة تنفّذ القانون وتحمي الحقوق والحرّيات، في زمن روسو بُذِرَت بذرة الدولة المدنية، وتطوّرت بعد تطوّر دستور الولايات المتّحدة الأمريكية.

الدولة المدنية الآن في العصر الحديث تقوم على مجموعة ركائز:

  • الركيزة الأولى: استناد السلطة إلى الإرادة الاجتماعية العامّة.
  • الركيزة الثانية: سيادة القانون، فلا شيء فوق القانون، في القضاء والعلاقات وفي كلّ الأمور القانون هو السائد.
  • الركيزة الثالثة: الفرق بين السلطات، سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية.
  • الركيزة الرابعة: التداول السلمي للسلطة.
  • الركيزة الخامسة: ضمان الحقوق والحرّيات.
المحور الثاني: الدولة المدنية ودولة الأمة.

ما هي مواطن الالتقاء ومواطن الافتراق؟ حتى نبحث هذا الموضوع، نذكر هنا نقطتين:

النقطة الأولى: تاريخ دولة الأمّة.

دولة الأمّة هي ما ترسّخ في الفكر الإسلامي، والدولة المدنية هي ما ترسّخ في الفكر الغربي، وكما تحدّثنا عن تاريخ الدولة المدنية، نتحدّث عن تاريخ دولة الأمة، كيف نشأت دولة الأمة؟ هنا مراحل مرّت بها الدولة:

المرحلة الأولى: البيعتان اللتان أبرمهما الرسول محمّد في العقبة وفي بيعة الرضوان، في العام العاشر من النبوة وفي العام الثاني عشر من النبوة، هاتان البيعتان كانتا مع أهل يثرب الذين جاؤوا للحج، وقد تضمنت هاتان البيعتان تأسيس مجتمع مدني يقوم على التعاون والحرّية والعدالة والإنصاف، فبدأت المرحلة الأولى من مراحل هذه الدولة.

المرحلة الثانية: عندما وصل النبي المصطفى إلى المدينة، أوّل عمل قام به حتى يرسّخ دولة الأمة عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، آخى بين كل مهاجر وأنصاري، ثم آخى بينه وبين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وآلهما، وعقد المؤاخاة يعني تجسيدًا حيًّا لإرادة مجتمعية اتّفقت على تلاحم الطاقات والخبرات والجهود في بناء دولة تستند إلى هذا التلاحم من الطاقات والخبرات والقدرات والمعلومات المتبادلة بين أهل مكّة وأهل المدينة، كانت هذه هي المرحلة الثانية.

المرحلة الثالثة: عندما أسّس النبي دولة وجيشًا ووُضِعت ثغور وعُرِفَت خزينة الدولة، عقد النبي عقدًا بينه وبين الأنصار - وهم أهل المدينة - وبين أهل الكتاب، المدينة كان فيها يهود، يهود بني قريظة، يهود خيبر، كان يقطنها فئة كبيرة من اليهود، وكانت بيدهم التجارة في ذلك الوقت، بيدهم قافلة تجارية ضخمة تذهب إلى اليمن والشام وترجع بالبضائع إلى مكّة والمدينة، النبي المصطفى أجرى عقدًا بينه وبين الأنصار وبين اليهود، واُعْتُبِر هذا تطورًا واضحًا في دولة الأمة وصل إليه النبي ، تضمّن هذا العقد قيام الدولة على أسس:

الأساس الأول: أنّ المواطنة ليست على أساس ديني، فاليهودي مواطن، والمسيحي مواطن، والمسلم مواطن، فالمواطنة ليست على أساس ديني، وإنما على أساس السلم، فما دام الإنسان مسالمًا فهو مواطن.

الأساس الثاني: التعاون بين المسلمين وبين أهل الكتاب في بناء مرافق الدولة وفي الدفاع عن حريم المدينة المنوّرة، لأن الدولة كانت صغيرة بقدر المدينة.

الأساس الثالث: أنّ لكل دين ولكل ملّة حرّيتها في إقامة طقوسها وشعائرها، وإذا حصل خلافٌ بين المسلمين وبين أهل الكتاب فالمرجع في الحكم هو الله والرسول .

تم تطوّرت هذه الدولة وصارت فيها أنظمة وأجهزة أخرى، ولما وصل الأمر إلى خلافة الإمام أمير المؤمنين تجّسدت دولة الأمة بأجلى صورها وأروع مضامينها في ذلك الوقت.

النقطة الثانية: نقاط الالتقاء والافتراق.

ما هي نقاط الالتقاء بين الدولة المدنية في الفكر الغربي ودولة الأمة في الفكر الإسلامي؟ دولة الأمة سبقت، الدولة المدنية في القرن السابع عشر والثامن عشر، بينما دولة الأمة قبل 1400 سنة بدأت بذورها وتشكّلت، فما هي نقاط الالتقاء والافتراق؟ أما نقاط الالتقاء بين الدولتين فأربع:

النقطة الأولى: الهدف.

الهدف واحد، وهو عبارة عن ثلاثة أشياء: تنظيم الحياة الاجتماعية عبر قوانين ثابتة، وتوفير الأمن لحماية الأنفس والأعراض والأموال والحقوق، وحرّية ممارسة الطقوس والشعائر، الهدف هدف واحد لكلتا الدولتين، وهنا يقول ابن حزم الظاهري في كتابه الفصل في الملل والنحل وهو من علماء القرن الخامس: اتّفق جميع أهل السنّة والمرجئة والمعتزلة والشيعة والخوارج على وجوب الإمامة - ويعني بالإمامة القيادة - وعلى أنّ الأمّة فرضًا واجبًا الانقياد لإمام عادل يسوسهم. وقال ابن خلدون في مقدمته: إنّ نصب الإمام واجبٌ بالإجماع، لا بدّ من وجود قيادة تسوس المجتمع وتديره وتطبّق الأهداف التي ذكرناها.

النقطة الثانية: العقد الاجتماعي.

فكما تقوم الدولة المدنية على عقد تقوم دولة الأمّة على عقد، وهنا قد يقول قائل: النبي لا يحتاج إلى عقد، فهو نبي، والإمام لا يحتاج إلى عقد فهو إمام، النبي محمد نبوّته ورسالته وإمامته مجعولةٌ من قبل الله تبارك وتعالى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فلا يحتاج إلى إقامة عقد حتى يبني دولته، والإمام علي له ولاية مجعولة من قبل الله، ”ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله“، فلماذا هذا العقد الاجتماعي؟

هناك فرق بين ولايتين: الولاية الجعلية والولاية الاجتماعية، الولاية الجعلية المنصوصة من قبل السماء تنفذ على من يؤمن بها، من يؤمن بأن هذا نبي يؤمن بولايته، ومن يؤمن بأن هذا إمام معيّن من قبل الله يؤمن بولايته، وأما الولاية الاجتماعية فهي عقد بين طرفين يلزم كلا الطرفين وإن لم يؤمن أحدهما بالنبوة ولا بالإمامة، كما تبرم أنت عقدًا بينك وبين إنسان آخر، عقد بيع أو عقد إجارة، هذا العقد يلزمك، هو مشمول لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، العقد يلزم طرفيه، والنبي حتى يلزم أهل الكتاب بقوانين دولته أجرى معهم عقدًا، آمنتم بنبوتي أو لم تؤمنوا، هذا عقد ملزم، الإمام علي حتى يطبّق القانون على جميع مواطني دولته آمنوا به كإمام أو لم يؤمنوا أجرى معهم عقدًا اجتماعيًا ألا وهو عقد البيعة، فإذن العقد الاجتماعي - عقد البيعة - قام به الرسول وقام به الإمام علي انطلاقًا من تحقيق ولاية عقلائية اجتماعية تنفذ حتى على من لا يؤمن بالمنصب السماوي كالنبوة والإمامة.

ولذلك الإمام علي احتجّ على معاوية بهذا العقد، معاوية يقول له أنا لا أؤمن بإمامتك، ولكن الإمام يقول له: هناك عقد وأنا أحتج عليك بهذا العقد، ”أما بعد، فقد بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر على ما بايعوهم عليه، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار - عقد البيعة - فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إمامًا كان لله فيه رضا، ولم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد“، هذا عقد انتهى ملزم لجميع الأطراف، فالنقطة الثانية التي تلتقي فهي الدولتان هذا العقد الاجتماعي.

النقطة الثالثة: الحاكمية للعدالة وسيادة القانون.

هذا تؤمن به جميع الدول والملل وجميع المجتمعات المدنية.

أين مواطن الافتراق؟ عندنا ثلاثة فوارق بين الدولتين:

الفارق الأول: سيادة القانون.

كلاهما يؤمن بسيادة القانون، لكن أي قانون؟ كلاهما يؤمن بسيادة القانون، لكن المرجعية العليا للقانون في الدولة المدنية هي ما ذكره التيّار العلماني: فصل الدين عن الدولة، القانون الديني لا يحكم، فالمرجعية العليا للقانون الوضعي، بينما المرجعية العليا في دولة الأمّة في التاريخ الإسلامي قائمة على الخطوط العامة المستفادة من الكتاب والسنّة.

الفارق الثاني: رقابة الأمة.

كلتا الدولتين تعتمد على رقابة الأمّة ومحاسبتها، كما أنَّ الدولة المدنية تعطي المجتمع حقًا في الرقابة عليها ومحاسبة وزرائها والمطالبة بعزل الفاسد منها، دولة الأمة أيضًا تعطي هذا الحق للأمة والمجتمع، ولكن الفرق أنه في الدولة المدنية الرقابة والمحاسبة حقٌ يمكن أن يتنازل عنه المجتمع، بينما في دولة الأمة واجب وليس حقًا فلا يستطيع المجتمع أن يتنازل عنه، بل يجب على المجتمع الإسلامي في دولة الأمة أن يقوم بدوره في الرقابة والمحاسبة، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، ليست مسألة حق، بل واجب.

وهنا نقطة فكرية جميلة ذكرها السيّد الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه في كتابه «الأئمة تنوّع أدوار ووحدة هدف»، هنا دوران: دور لرأس السلطة، وهو المعصوم، القيادة، ودور للأمة نفسها، وهو الرقابة والمحاسبة، على أي أساس تم توزيع هذه الأدوار؟ على أساس العصمة والطاقة الحرارية، يقول: كلّ اتجاه عقائدي على الأرض يؤمن بالعصمة، ليس الإسلام فقط، بل كل اتجاه عقائدي يؤمن بأن تكون قيادته لإنسان معصوم، ما معنى العصمة؟ إذا عندنا اتجاه عقائدي، هذا الاتجاه العقائدي يريد أن يصوغ المجتمع البشري على طبق عقيدته، لا يمكن له أن يصل إلى هذا الإنجاز وينجح فيه إلّا إذا كانت قيادته - قيادة هذا الاتجاه - قيادة منصهرة بمبادئه وقيمه روحًا وفكرًا وسلوكًا، وهذا الانصهار هو العصمة، نحن عندما نقول يعني انصهار، لا نقصد شيئًا غير هذا.

مثلًا: نأتي للاتجاه الماركسي، هناك فرق بين الاتجاه الماركسي والاتجاه الرأسمالي، الاتجاه الرأسمالي ليس عقائديًا وإنما هو مذهب اقتصادي، بينما الاتجاه الماركسي اتجاه عقائدي، عنده فلسفة للكون وللمجتمع ومقاطع فكرية ومعتقدات، وليس اتجاهًا فارغًا، الاتجاه الماركسي كاتجاه عقائدي حاول أن يصوغ المجتمع البشري على طبق معتقداته، لا يمكن أن يتحقق له هذا الإنجاز ما لم يمتلك قيادة منصهرة في مبادئ هذا الاتجاه روحًا وفكرًا وسلوكًا، وهذا الانصهار هو ما نسمّيه بالعصمة.

نحن كذلك اتجاه عقائدي، الإسلام اتجاه عقائدي، الإسلام جاء ليغير المجتمع، الإسلام جاء ليبعث من المجتمع البشري مجتمعًا موحدًا، لا يمكن أن يصل الإسلام إلى هذا الإنجاز ما لم تكن قيادته قيادة منصهرة بالإسلام ومبادئه روحًا وفكرًا وسلوكًا، وهذا الانصهار هو عبارة عن العصمة، إذن لا بد أن تكون القيادة معصومة، وبما أن رأس الهرم معصوم فله دور القيادة.

بينما الأمة لا تمتلك عصمة، بل تمتلك طاقة حرارية، يعني تفاعل مع المبادئ، هذه الأمة جاهدت بين رسول الله وبذلت أنفسها وأموالها وجاهدت بين يدي الإمام أمير المؤمنين وبذلت أنفسه وأموالها، وكان لهذا الجهاد طاقة حرارية، يعني طاقة التفاعل مع هذا المنهج ومع هذه المبادئ والقيم، لم تصل الأمة إلى حدّ الانصهار، وإنما وصلت إلى مستوى الطاقة الحرارية، ولذلك كان دور الأمة ليس هو القيادة، وإنما دور الأمة دور المراقبة والمحاسبة.

النقطة الثالثة: التداول السلمي للسلطة.

الدولة المدنية تقول: لا بد من تداول سلمي للسلطة، دولة الأمة في الإسلام لا يوجد هذا البند فيها، الخلفاء والإمام علي وغيرهم لم يكن تداول سلمي للسلطة عندهم، نعم يموت خليفة ويأتي الخليفة الآخر مكانه، ولعل منشأ هذا في دولة الأمة في التاريخ الإسلامي أن التداول السلمي للسلطة بنظر الفكر الإسلامي مجرد وسيلة وليس هدفًا، بما أنه وسيلة والهدف هو تحقيق العدالة بأروع صورها فمتى تحقق هذا الهدف كان هو المطلوب، وإن لم يكن هناك تداول للسلطة.

المحور الثالث: مبادئ الدولتين في الخلافة العلوية.

من الطبيعي أن النبي لم يتمكن من إقامة دولة السماء ولا الإمام علي، الدولة التي أقامها الرسول والإمام علي ليست هي دولة السماء بكامل تفاصيلها، دولة السماء تحدث عنها القرآن: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، دولة السماء هي التي قال عنها القرآن الكريم: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، لم يرثوا الأرض إلى الآن.

إذن الدولة التي أقامها رسول الله والإمام علي «صلوات الله عليهما وآلهما» مبادئ دولة الأمة، مجموعة من المبادئ، مبادئ دولة الإنسان ودولة الإسلام، دولة الإنسان ودولة السماء، مجموعة من المبادئ بمقدار ما سمحت الظروف وبمقدار ما أوتوا من طاقة بشرية تساعدهم على إقامته، مجموعة من المبادئ جسّدها الرسول والإمام علي بمستوى الظروف الاستثنائية التي عاش فيها الرسول والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي عندما قال: ”لولا حضور الحاضر“ المسألة ليست بيدي، الظروف ليست كلها متاحة أمامي، ”لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها“، ما هي المبادئ مبادئ الدولتين دولة الإنسان ودولة الإسلام؟ ما هي مبادئ الدولتين التي تجسّدت في خلافة الإمام علي ؟

المبدأ الأول: الحرّية.

الحرّية شعار الدولة المدنية، وهي أيضًا شعارٌ في دولة الإمام علي ، وأنقل لك الآن بحثًا طريفًا ذكره المفكّر المسيحي جورج جرداق في كتابه «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية»، بحث جميل حول الحرية، يقول: هناك فرقٌ بين مقالتين: مقالة قالها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهم أحرارًا؟! والمقالة الأخرى ما قاله الإمام علي: ”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا“، ما هو الفرق بين المقالتين؟ كلتا المقالتين تتحدث عن الحرية، شعار من شعارات دولة الأمة، لكن ما هو المضمون لهذه ولتلك؟

المقالة الصادرة عن الخليفة الثاني هي بندٌ قانونيٌّ، الخليفة الثاني حاكم، ولي أمر المسلمين، والحاكم من شأنه أن يصدر قوانين، أصدر بندًا قانونيًا لمجتمعه: لا يجوز لأحد أن يستعبد إنسانًا آخر، ليس من حقّ فئة أن تستعبد فئة أخرى، هذا يسمّى بندًا قانونيًا، بينما المقالة الثانية ليست بندًا قانونيًا، بل هي نصٌّ حقوقيٌّ، البند القانوني يرتبط بالدولة، بينما النصّ الحقوقيّ يرتبط بالفكر، بعلم الحقوق، إذن المقالة الثانية للإمام عليّ نصٌّ حقوقيٌّ فكريٌّ يرتبط بعلم الحقوق، وهو ما ذكره علماء الحقوق: أنَّ حقوق الإنسان منتزعة من طبيعة الإنسان، من أين عرفنا أنّ لك حقوقًا؟ من خلال طبيعتك، وُلِدَت حرًّا مساويًا لغيرك، إذن لك الحرية، ولك حقّ المساواة، وُلِدت مستقلًا، إذن لك حقّ الاستقلال، حقوق الإنسان منتزعةٌ من طبيعة الإنسان، لأن الإنسان وُلِد حرًا كان له حقّ الحرّية، ولذلك الإمام علي يعبّر عن نصّ حقوقي يرتبط بعلم الحقوق: ”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًا“.

الإمام علي مارس الحرّية في نفسه وفي علاقاته وفي دولته، شعار طبّقه الإمام علي، مارسه مع نفسه عندما تحرّر من الشهوات وكان يقول: ”من ترك الشهوات أصبح حرًا“، وكان يقول: ”إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى“، الإمام علي لم تغره بهارج الملك كما أغرت ملوك زمانه، لا حسب ولا نسب ولا مال ولا سلطان، تحرّر من كلّ البهارج وعاش في كوخ الفقراء ولبس لباسهم وأكل طعامهم، لكي يثبت للأجيال أنّه حرٌّ، تحرّر من كل الألوان والبهارج والزخارف. ومارس الحرّية مع أبناء دولته، هناك من بايعه وهناك من لم يبايعه، ترك من لم يبايعه على حرّيته، قال: ”من بايعني طائعًا قبلت بيعته ومن لم يبايع فلا آمره بالبيعة ولا أنكر عليه“.

المعلم الثاني: المنصب وسيلة وليس هدفًا.

المنصب مجرّد وسيلة لتحقيق العدالة، الإمام علي يؤكّد ذلك، دخل عليه ابن عبّاس في منطقة ذي قار في العراق، فرآه يخصف نعله، التفت الإمام علي لابن عباس، قال: يا بن عباس، ما قيمة هذا النعل؟ قال: سيدي، لا قيمة له. قال: ”إنه خيرٌ لي من إمرتكم إلّا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلًا“. إمرتكم مجرد منصب، والمنصب مجرد وسيلة، والمهمّ هو الهدف وليس الوسيلة.

المعلم الثالث: الإرادة المجتمعية الواعية.

ذكرنا في ليلة سابقة أنه يجب قراءة إرادة المجتمع قراءة كيفية لا قراءة كمّية، لا تركز على الأرقام، بل ركّز على الكيف، الإمام علي لم يهتم كم بايعه، خمسة آلاف، عشرة آلاف، حسب ظروف ذلك الوقت، لم يركّز على الرقم، على الكمّ، ليس مهمًا عنده، بل كان يركّز على القراءة الكيفية، من بايعه بايعه عن اختيار ووعي، المهم أن يبايعوه عن وعي، أن من بايعه بايعه عن وعي بأهدافه ورسالته وقيمه التي نادى بها، فكان يركّز على القراءة الكيفية، يعني الإرادة المجتمعية الواعية، ولذلك نرى الإمام عليًا حاول أن يتنصّل من البيعة إلى أن يفهم الناس أهدافه، بعد أن تفهموا أهدافي ورسالتي تبايعوني، حاول أن تكون البيعة بيعة واعية وليست بيعة رقمية.

أقرأ لك حديثه مع من بايعه، قال الإمام علي بعد مقتل الخليفة الثالث: ”دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوهٌ وألوانٌ، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول قائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزير خيرٌ لكم مني أمير“، لا بد أن تكون البيعة بيعة واعية منكم، لا بد أن تعرفوا ماذا سيحصل من مستقبل مظلم خطر، لذلك إذا بايعتموني فستسيرون على طبق قيادتي. وقال : ”من شاور الناس شاركهم في عقولهم، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إليه“.

المعلم الرابع: التواصل مع القاعدة المجتمعية.

كان كثير التواصل مع الناس، لا يغيب عنهم يومًا، ولا يقطع صلاتهم، يصلي بهم، يقضي بينهم، يدخل السوق، يشتري، يذهب إلى الفقراء، تواصل اجتماعي يومي وبشكل واضح، أهدافه واضحة، طريقه واضح، رسالته واضحة، هذا التواصل شكّل معلمًا مهمًّا من معالم دولة الأمة، الدولة العلوية، لاحظوا ما قال: ”أيها الناس، إنَّ حقًا على الوالي ألا يغيّره على رعيّته فضلٌ ناله، ولا طولٌ خُصَّ به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوًا من عباده، وعطفًا على إخوانه، ألا وإنّ لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرًا إلّا في حرب، ولا أطوي دونكم أمرًا إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقًا عن محلّه ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحقّ سواء، فإذا فعلتُ ذلك وجبت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة ولا تفرّطوا في صلاح“ يعني جرّبوني أولًا، انظروا، إذا أنا فعلًا طبّقت ما أقول وإلا بإمكانكم ألا تطيعوني.

وقال بعد معركة صفّين: ”أما بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقًا بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحق مثل الذي لي عليكم“، نحن متساوون في الحق، ”فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له“.

المعلم الخامس: نبذ الإعلام الدعائي.

لا يرضى بأيّ إعلام دعائي، دولة الأمة تثبت جدارتها بنفسها بدون إعلام، بدون دعايات، رفض أيّ إعلام دعائي يمدحه أو يثني عليه، لاحظوا هذا المقطع الجميل منه ، قام رجل يمدحه ويثني عليه فوقف الإمام علي وقال: ”لا تثنوا عليَّ بجميل ثناء، لإخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من التقية البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقال في حقٍّ يقال لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنَّ من استثقل الحقّ أن يقال له والعدل أن يعرَض عليه كان العمل بهما أثقل، فلا تكفّوا عن مقالة حقّ أو مشورة بعدل“.

المعلم السادس: معيار المواطنة.

ما هو معيار المواطنة في دولة الإمام علي؟ هل هو الإسلام؟ هل هو التشيّع؟ لا، المواطنة في دولة الإمام علي كالمواطنة في دولة رسول الله، الإنسان المسالم وإن لم يكن على دين الإسلام أو على مذهب التشيّع الذي برزت بذوره في عهد الإمام علي ، الإمام علي يقول لمالك الأشتر: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية، واللطف بهم، والرفق عليهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أُكُلهم؛ فإنَّ الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق“، ما دام نظيرًا لك في الخلق فله حقّ المواطنة، يعيش معك كما يعيش غيره. وقال عن أهل الكتاب كلمته: ”إنهم دفعوا الجزية ليكونوا معنا، دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا“.

المعلم السابع: إلغاء الامتيازات.

هناك فرق بين المساواة والعدالة، ليست كل مساواة عدالة، لأنه كيف نسوّي بين من يمتلك طاقة ضخمة ومن يمتلك طاقة ضئيلة، بين من ينتج وبين من لا ينتج، من الطبيعي ألا مساواة بينهما، ليست كل مساواة عدالة، وإنما الإمام علي ألغى الامتيازات انطلاقًا من العدالة، حيث إنَّ هذه الامتيازات لم تكن على أساس الكفاءة ولا على أساس الإنتاج، وإنما على أساس الموقع الاجتماعي، قريش أفضل من غيرها، المهاجرين أفضل من الأنصار، الأنصار العرب أفضل من الموالي، هذه الامتيازات كلها ألغاها، فقال في أول خطبة خطبها بعد الخلافة: ”أيها الناس، إنما أنا رجلٌ منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم، ألا إنّ كل قطيعة أقطعها فلان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ إلى بيت المال، فإنّ الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفرّق في البلدان لرددته، فإنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق“.

المعلم الثامن: المساواة.

ولا نعني المساواة في العطاء، بل المساواة أمام القانون، الكل أمام القانون سواسية، لا يفضل أحدٌ على غيره، يقول علي : ”وليكن أمر الناس عندك في الحقّ سواء“، وقال: ”وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، ولا تبغوا على أهل القبلة ولا تظلموا أهل الذمّة“.

أذكر لك قصّة طريفة جدًا عن الإمام علي في المساواة، في عهد الخليفة الثاني تخاصم رجلٌ مع الإمام علي في سلاح، جاء رجل ورأى سيف الإمام جميلًا فقال هذا سيفي! فتخاصما عند الخليفة الثاني، فقال الخليفة الثاني: قم يا أبا الحسن وقف إلى جانب خصمك، تغيّر وجه الإمام، فقال له الخليفة الثاني: أكرهت يا أبا الحسن أن تقف إلى جانب خصمك؟ قال: ما كرهت ذلك، وإنما ساءني أنّك لم تسوِّ بيني وبينه، لأنك عظّمتني بالكنية ولم تعظّمه! قلت لي يا أبا الحسن ولم تقل له يا أبا فلان، ناديته باسمه وناديتني بكنيتي، وهذا تمييز، هذا التمييز هو الذي غيّر وجهي، إلى هذا المقدار الإمام علي يجسّد المساواة أمام القانون.

ولذلك، عندما ينصب قاضيًا يأمره بالمساواة، لا بالمساواة في الحكم فقط، بل في المساواة حتى في النظرة، يقول: أيها القاضي، لا تنظر إلى الخصمين بنظرة متفاوتة، بل انظر إليهما بنظرة واحدة، يقول: ”واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك“.

المعلم التاسع: المحاسبة.

هناك بندٌ من بنود الدولة المدنية: السلطة، المسؤولية، المحاسبة، يعني من تولى السلطة فهو مسؤول، ومن كان مسؤولًا فهو محاسَب، يعني هذه العناوين الثلاثة مترابطة، هذا ما أكّد عليه الإمام أمير المؤمنين قبل 1400 سنة، مبدأ المحاسبة، كتب إلى أحد عمّاله وولاته: ”أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلتَه فقد أسخت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك، فإذا وصلك كتابي فارفع إليّ حسابك - أعطني الصادر والوارد حتى أحاسبك - واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس“.

المعلم العاشر: استحداث مناصب إدارية.

الإمام علي استحدث في حكومته مناصب وإدارات ما كانت موجودة في عهد الخلفاء قبله، وهذا أجمع عليه المؤرخون، أنّ حكومة الإمام علي تميّزت بمناصب لم تكن في عهد الخلفاء قبله، أولًا الشرطة، كان هناك نظام العسس في زمن الخليفة الثاني، والعسس مجموعة يخرجون في الليل يحيطون ببيوت المدينة حتى لا يتسلل إليها من ليس من أهلها، طوّره الإمام علي وجعله نظام شرطة في زمان حكومته، موظفون لهم راتب من بيت المال، موجودون ليلًا ونهارًا يراقبون السوق والثغور والبيوت، يقومون بحفظ الأمن وتوفير الأمن للمجتمع الكوفي آنذاك.

ثانيًا: أحدث ديوان المظالم، لم يكن موجودًا قبله، أي شخص عنده شكوى على وزير أو على مسؤول يذهب إلى ديوان المظالم ويشتكي عليه، أحدث ديوان المظالم وعبّر عنه بتعبير جميل، قال: ”واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا - أي: قطعة من وقتك - تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عامًا، تتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك - استقبل الناس بشكل عفوي بلا حرس ولا جنود - من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع، فإنّي سمعتُ رسول الله يقول في غير موطن: لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع، ثم احتمل الخرق منهم والعيب ونحِّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته“.

المنصب الثالث: الفصل بين السلطات، جعل للقضاء جماعة، وللولايات جماعة، فصل بين السلطات، فنظّم القضاء، صار القضاء مؤسسة لها نظام، وجعل لها بنودًا في عهده لمالك الأشتر، فقال: ”اختر للحكم أفضل رعيتك في نفسك، من لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، أوقفهم في الشبهات، آخذهم في الحجج“، ولم يجعل القاضي دون تأمين اقتصادي، وإلا فإنه يعيش على الرشوات! قال: ”وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، وافسح له في البذل ما يزيل علّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس، ثم أكثِر تعاهد قضائه“ يعني عليك بمراقبة قضائه.

هكذا كانت معالم دولة الأمّة في الخلافة العلوية، هكذا كان التاريخ حفظ هذه المعالم المشرقة، هكذا نقلت الأجيال عدالة عليّ وقيمه ومبادئه، وهكذا سار أبناؤه من بعده على هذه المبادئ والقيم.