العروج الملكوتي في عبادة إمام المتقين (ع)

1442-01-08

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث حول العبادة في محاور ثلاثة:

الاتجاه الفطري نحو الله.

حقيقة العبادة في آفاق العرفان.

جمال المناجاة في عبادة إمام المتقين أمير المؤمنين علي .

المحور الأول: الاتجاه الفطري نحو الله.

اتجاه الإنسان إلى الله هل هو ميل فطري موجود وكامن في طبيعة الإنسان، أم أن توجه الإنسان نحو الله خاضع لتلقين أسري أو ثقافة اجتماعية أو إملاء قسري؟ نحن المسلمين نعتقد أن اتجاه المخلوق نحو الخالق أمر فطري فإن القرآن الكريم يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وتؤكد هذه الحقيقة كلمات مجموعة من فلاسفة وعلماء الغرب أن الاتجاه نحو الله بعد فطري كامن في الإنسان، نذكر كلمات بعض هؤلاء الفلاسفة والعلماء:

الفيلسوف الأول:

شليرماخر فيلسوف ألماني كان في القرن الثامن عشر له كتاب «عن الدين.. خطابات لمحتقريه من المثقفين» ترجمة أسامة الشحماني يقول في هذا الكتاب في تعريفه للدين: الدين هو الإحساس بالتواصل مع المطلق والطعم اللانهائي في المعنى ولا يتحقق فهم الدين من دون كمال هذه الدائرة، ويقول في عبارة أخرى: إن ما يمارسه المتدينون هو البحث عن الله في داخلهم.

ماذا يعني ماخر بهذه العبارات؟

ماخر واجه في زمانه مجموعة من النخب المثقفة أقصت الدين عن الحياة، طبعا نحن لا نتهم كل مثقف فبعض المثقفين تاج على رؤوسنا إنما هناك بعض المثقفين يحاولون في الغرب والشرق إقصاء الدين تماما عن الحياة، هو بهذا الصدد قبال هؤلاء يقول إن إقصاءهم للدين ناشئ عن سوء فهمهم للدين، ليس الدين قوة سياسية حتى يخاف منه، الدين بنظره تجربة وجدانية عميقة تعني إحساسا داخليا بتواصل مع المطلق اللا محدود، يشعر الإنسان في داخله أنه متجه نحو اللا محدود، نحو اللا نهائي، كما يقول علماء العرفان عندنا: فناء المحدود في اللا محدود، ذوبان المتناهي في اللا متناهي، هذا الشعور وهذا الإحساس هو الدين، ويقول بأن هذا الإحساس ينمو ويكبر كلما فهم الإنسان وأدرك ترابط مناحي الوجود، يقول الوجود كله مترابط، كله أسرة واحدة، الإنسان بالطبيعة بالوجود اللا مطلق، هناك وجود مترابط يشعر الإنسان به أنه جزء من هذه المنظومة المرتبطة بالوجود المطلق اللا محدود.

الفيلسوف الثاني:

رودولف أوتو كان موجودا بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين فيلسوف ألماني لاهوتي، اشتهر بنشر مفهوم عبروا عنه «نومينوس» المقصود به الظواهر الخارقة للطبيعة، أوتو له كتاب اسمه «فكرة القدسي» يتمحور هذا الكتاب حول رحلة الإنسان نحو المقدس المطلق، نحو الإله، فيقول في هذا الكتاب: كيف نفسر شعور الإنسان بالإقبال على الإله مع أن الإله ليس إنسان؟ يقول إن هذا التواصل ليس معطى عقلاني وإنما نتلمس آثاره في ذات الإنسان، هذا التواصل له آثار في ذات الإنسان، وهناك ثلاثة أبعاد:

البعد الأول: البعد الغيبي الجليل.

هو عبارة عن حالة تنتاب الإنسان من الفزع والخوف عندما يدرك القوة المطلقة، القوة المطلقة قوة مسيطرة على الوجود تبث جبروتها وملكوتها وهيمنتها من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، متى التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة تنتابه حالة من الرعب والخوف، وإذا انتابته هذه الحالة نفسه تميل إلى الانصعاق والانمحاء في تلك القوة المطلقة، هذا يلتقي مع مفهوم عرفاني عندنا، مفهوم الصعق ومفهوم المحو يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبّه لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا لما رأى الجبروت الإلهي ورأى العظمة الإلهية كيف تحكمت وحولت الجبل إلى هشيم خر موسي صعقا.

البعد الثاني: الغيبي الساحر.

يقول أن نفس تلك القوة التي إذا التفت الإنسان إليها تصبح عنده حالة من الخوف والفزع هي نفسها إذا التفت الإنسان إليها رآها معين من الحب والرحمة والعطف ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إذا التفت الإنسان إلى هذا المعين تنتابه حالة من الحنان والحب والرجاء والتعلق، هذا أيضا يلتقي مع المفاهيم العرفانية عندنا، كيف يعيش الإنسان جمال الله وحب الله تبارك وتعالى.

البعد الثالث: البعد المهيب.

هو قوة توازن بين قوتين، يعني الإنسان لديه قوتان متجاذبتان هذه تجذبه إلى اليمين وهذه تجذبه إلى اليسار، القوة الأولى الخوف من الله، والقوة الثانية حب الله، قوة تجذبه وهي قوة الخوف من الله والفزع منه ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا قوة تجذبه إلى الله وهي قوة الرجاء والحب، فكيف نجمع بين هاتين القوتين؟ هناك قوة ثالثة، بعد ثالث في الإنسان يعبر عنه: المرجع الموضوعي الذي يشكل توازنا بين البعد الأول والبعد الثاني، في مفاهيمنا العرفانية نعبر عنه بالحكمة، كما أن لدى الإنسان غريزة الخوف وغريزة الحب، هناك قوة تؤلف بين هاتين الغريزتين وهي قوة الحكمة، لذلك ترى النصوص الإسلامية تركز على التوازن، فإذا كنت تخاف من الله فقط تفقد العبادة معناها، وإذا كنت تحب الله فقط إذن قد تكون لك جرأة على المعاصي، فلابد من التوازن بين الخوف والرجاء، لذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، ويقول: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًاۖ، ويقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”إذا استطعتم أن يشتد خوفكم من الله وأن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما“، ويقول الإمام الصادق : ”لايكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولايكون خائفا راجيا حتى يعمل لما يخاف ويرجو“، الشيخ حسن الدمستاني يقول:

تعادل الخوف فيهم والرجاء فلم   يفرط  بهم  طمع  يوما ولا ملل

الفيلسوف الثالث:

هوعالم دكتور جاستن باريت بروفيسور في علم النفس متخصص في علم الإدراك الديني والتنمية البشرية بجامعة اكسفورد، هذا الدكتور قام بعدة تجارب ودراسات توصل من خلالها إلى كتاب طبع «فطرية الإيمان» أن الإيمان بالله أمر فطري، وقال في هذا الكتاب: إن الأطفال يولدون وهم مؤمنون بالله، وفي عبارة أخرى يقول: بغض النظر عن أي ثقافة أو تلقين أو إملاء قسري فإن الأطفال يكبرون مع نزعة للبحث عن المغزى والمعنى لمحيطهم، لذلك فإن عقولهم تتطور وتنمو بشكل طبيعي، ويوصلهم البحث في النهاية إلى الإيمان بأن العالم مصمم بدقة وبشكل هادف، وأن صانعا ذكيا يقف وراء هذا التصميم وأنه مطلق القدرة، واسع العلم والمعرفة، سرمدي الخلود، وأنه واضع القيم الأخلاقية.

المحور الثاني: العبادة في أفق العرفان.

العبادة لها مسارات: المسار اللغوي، المسار الفقهي، المسار العرفاني.

المسار اللغوي:

علماء اللغة عندما يتناولون العبادة يقولون: العبادة هي الخضوع، القرآن الكريم يقول: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، أو يقول تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ، يقول الإمام الحسين : ”الناس عبيد الدنيا“، "من أصغى إلى ناطق فقد عبده.

المسار الفقهي:

الفقهاء عندما يعرفون العبادة يقولون: العبادة إذافة العمل إلى الله بداعي الاستحقاق. أصلي لله يعني أضيف الصلاة إلى الله، أصوم لله يعني أضيف الصيام إلى الله، بداعي أنه يستحق ذلك لأن الخضوع له دواعي قد يخضع الإنسان بداعي الشهوة كما لو خضع للشيطان، وقد يخضع بداعي المحبة ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، وقد يخضع الإنسان بداعي الاستحقاق، يخضع لله لأن الله مستحق للخضوع والعبادة، يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”ماعبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك“.

المسار العرفاني:

علماء العرفان يقولون العبادة أعمق من هذا الكلام، ليست العبادة مجرد خضوع وليست مجرد إضافة عمل إلى الله عز وجل، العبادة ليست هي الأذكار والحركات، كل هذا مظهر وصورة للعبادة، العبادة أعمق من هذا كله، العبادة علاقة جلالية وعلاقة جمالية فاختر واحدة من هاتين العلاقتين.

العلاقة الجلالية:

أن يعيش الإنسان جلال الله في قلبه، يقول السيد صاحب الميزان الطبطبائي عليه الرحمة في الجزء الأول من الميزان صفحة 37 عندما يتحدث عن قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ يقول: فرق المفسرون بين كلمة العبادة وكلمة العبودية، فسروا العبادة بمعنى والعبودية بمعنى، والحال أن الكلمتين مشتقتين من مادة واحدة وهي الملك، كل ما في الكون ملك لله لأنه مفاض من قبل الله ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ كل ما في الكون ملكه ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا يعني مملوك، بما أن الوجود ملك لله وأنت أيها الإنسان جزء من الوجود فأنت ملك لله فالعبادة الجلالية تعني إبراز المملوكية، أن تبرز أنك مملوك لله، هذه هي الصورة الجلالية للعبادة ولذلك لا تجتمع العبادة مع الاستكبار، يقول القرآن الكريم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ.

الصورة الجمالية:

الكثير من الناس يحب أن يعيش جمال الله، أن يعيش المضامين الجمالية لله، أن يتحلى بالعبادة الجمالية، وتعني مجموعة من الصور:

الصورة الأولى: أن العبادة تربية للروح وتزكية للنفس لأن العبادة تطهر النفس من درن الذنوب وتوقظ فيها ذكر الله والإحساس برقابة الله وهذا مايعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.

الصورة الثانية: أن العبادة مظهر لحب الجمال المطلق، كما أنك تحب الجمال الإنساني وتحب جمال الطبيعة وجمال الزهرة والوردة فالجمال المطلق الذي لو أدركته لمت عشقا وحبا له، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ.

الصورة الثالثة: العبادة انتصار للروح على البدن، انتصار للمعنى على عالم المادة، عندما تنتصر على قيود المادة وتتحرر من أغلالها تعيش مشغولا بالله وذكر الله والتأمل في الله تبارك وتعالى، يقول القرآن: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً.

الصورة الرابعة: العبادة سفر، الروح تسافر من عالم التراب إلى عالم السماء، من عالم المحدود إلى عالم اللا محدود لكي تستجلي الأنوار الإلهية، هناك صعود، هناك عروج يعيشه الإنسان حال عبادته ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.

المحور الثالث: جمال المناجاة في عبادة إمام المتقين وسيد الموحدين علي ابن أبي طالب .

هنا زوايا ثلاث في جمال عبادته:

الزاوية الأولى: عندما يقارن الإنسان بين المعلقات في عهد الجاهلية وبين كلمات نهج البلاغة كلاهما في قمة البلاغة ومتقاربان في العهد، بين المعلقات وكلمات علي أربعين أو خمسين سنة وأقل، الفرق بينهما أن المعلقات تكلمت عن الجمال والجِمال والرماح والسيوف والحرب والسلم والكواعب والحواجب، وأيضا كان في بعضها قراءة تأملية للحياة كما في معلقة زهير ابن أبي سلمة التي عبرت بمجموعة من الحكم والمواعظ عن عالم الدنيا:

سئمت  تكاليف  الحياة ومن iiيعش
علمت  بما  في اليوم والأمس iiقبله
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
ومن   هاب  أسباب  المنايا  iiينلنه
ومن  لم  يصانع  في  أمور  كثيرة
ومن  يفعل المعروف في غير iiأهله
لسان  الفتى  نصف  ونصف فؤاده
ومهما  تكن  عند  امرئ من خليقة






 
ثمانين   حولا   لا   أبا  لك  iiيسأم
وإني  عن  علم  ما  في  غد  iiعم
تمته   ومن   تخطئ  يعمر  فيهرم
وإن   يرق  أسباب  السماء  iiبسلم
يضرس   بأنياب   ويوطأ   iiبمنسم
يكن    حمده   ذما   عليه   ويندم
فلم  يبقى  إلا  صورة  اللحم  والدم
وإن  خالها تخفى على الناس iiتعلم

لكن عليا قدم فلسفة تحليلية للحياة بأبعادها المختلفة، ومن أبعادها فلسفته للعبادة وحديثه عن العبادة، ”إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار“ لماذا نحن نستثقل من العبادة، لماذا نستثقل من صلاة الليل، لماذا نستثقل؟ لأننا لا نعيش عبادة الأحرار، لو كنا نعيش عبادة الأحرار لم نستكثر الركعات، كما يقول الشاعر:

وإذا  حلت  الهداية iiقلبا   نشطت للعبادة الأعضاء

يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة فاستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا ما استوحشه الجاهلون“.

الزاوية الثانية: قوام العبادة عند علي بالذكر، ماهو الذكر؟ الذكر يقظة القلب أن يستيقظ قلبك ويدرك أن هناك رقيبا عليك، يدرك أن هناك إلها بدأك وسيأخذك يوما، يدرك أن منه وإليه ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يقظة القلب هي ذكر الله تبارك وتعالى، هذا الذكر يقول عنه الإمام أمير المؤمنين علي : ”إن الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر به بعد العشوة وتنقاد له بعد المعاندة“ ما هو الذكر الذي يوقظنا ويحركنا نحو عبادة الله، الإمام أمير المؤمنين علي يروي لنا مراتب ودرجات لهذا الذكر:

الدرجة الأولى: التعلق بالله.

مع الأسف نحن نعيش جفاف روحي ويبوسة عاطفية وتبلد داخلي، نحن لا نعيش التعلق بالله، لا نعيش معنى العبادة، أول درجة من درجات العبادة نحن لا نعيشها، لاحظوا هل نحن نشعر بطعم الصلاة؟ هل نحن نشعر بطعم النافلة؟ هل نحن نشعر بطعم الدعاء؟ نحن نصلي كأي ممارسة رياضية، نتنفل كأي عمل روتيني، نقرأ القرآن كأي كلام نتلوه بيننا وبين أنفسنا، ندعو ربنا لأننا لابد أن ندعو، نحن لا نعيش طعم العبادة، وذوق العبادة، نعيش جفافا قاتلا، نعيش جفافا ساحقا ترك قلوبنا رمال صحراوية جافة لا ماء فيها ولا نبع ولا معين فيها، نحن لا سمح الله نخاف أن نصل إلى مدلول هذه الآية المباركة: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ نحن نعيش مرض الغفلة، الإمام يوقظنا إلى درجة التعلق بالله تبارك وتعالى عندما يقول: ”أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له برق لامع أبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعت به الأبواب إلى باب السلامة وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة“ البرق اللامع الهداية الإلهية، متى ما شعرت أنك تحب الصلاة فقد برق في قلبك البرق اللامع، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

الدرجة الثانية: الانصهار بالذكر الإلهي.

نحن نمارس القرآن قراءة تبركية، نتبرك به في الفواتح وبعد صلاة الفجر نقرأ بضع آيات وانتهى، القرآن يحتاج إلى قراءة عبادية لا قراءة تبركية، القراءة العبادية أن تلتذ بقراءة القرآن، أن تشعر بطعم القرآن، أن تقرأ القرآن بلحن حزين يوقظ قلبك ويحرك مشاعرك، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق خفت نفوسهم إليها طمعا وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم“.

الدرجة الثالثة: تناغم المشاعر والقلوب مع ذكر الله.

هل نحن نحب الله؟ أنا أحب زوجتي، أحب أولادي، أحب صديقي، أحب من يتقرب مني، أشعر بأن للحب طعما، أشعر أن لحب أولادي طعما في نفسي، هل أشعر أن لحب الله طعما في نفسي أم هو مجرد كلام؟ الدرجة الثالثة من درجات العبادة أن تصل العبادة إلى أن تشعر بأن هناك حبا يملأ قلبك لله تبارك وتعالى، يقول أمير المؤمنين : ”وما برح لله عزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة رجال ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم“.

الدرجة الرابعة: التحول من الوجود الملكي إلى الوجود الملكوتي.

الوجود الملكي هذا الوجود المادي، أما الوجود الملكوتي فهو الهيام بالعالم الآخر، نحن غارقون في الوجود الملكي، في يومك أربعة وعشرين ساعة فكم تصرف في الوجود الملكوتي؟ تستيقظ من النوم، تفطر، تخرج للعمل، ترجع متعب، تأكل، تنام، تلتقي مع أهلك، مع أصدقائك، كل الحياة استغراق في الوجود الملكي، في الوجود المادي، ما نسبة الوجود الملكوتي في حياتك؟ صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء كم تستغرق؟ ثلث ساعة؟ نصف ساعة كلها؟ نصف ساعة من أربعة وعشرين ساعة في الوجود الملكوتي واستغراق في الوجود الملكي، الذكر أن تتحول من الوجود الملكي إلى الوجود الملكوتي، الذكر ما عبر عنه الإمام أمير المؤمنين علي : ”صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب“.

الدرجة الخامسة: لذة المناجاة.

عزيزي أنت أيها الشاب، عزيزتي ابنتي أيتها الشابة، استغلوا ليالي الجمع، استغلوا فرصة الجمعة، ليلة الجمعة أعظم ليلة استغلها في فرصة لذة المناجاة مع الله، حاول أن تختصر وقتك، متزوج؟ اترك زوجتك ولو مقدار ساعة أو نصف ساعة، أولادك، حياتك اترك هذه الدنيا كلها، حاول ليلة الجمعة أن تجلس مع ربك في ظلام الليل، في هدوء الأنفس والكل نائم، أن تتحدث مع ربك، أن تناجي ربك، أن تسترجع الشريط الأسود المليء بالذنوب، بالقذارات والمعاصي، أن تتوب، أن تبكي، أن تنتحب، أن تتوسل، أن ترجو أن تعيش بعض ما يعيشه الأولياء، مايعيشه العباد، ماعاشه الأئمة الطاهرون، حاول أن تستغل لذة المناجاة، لا توجد لذة في الأرض أعظم من لذة المناجاة أبدا ولا توجد متعة أعظم من متعة الجلوس والوقوف بين يدي الله باكيا منتحبا، خاشعا منيبا مقبلا إليه لتحظى بلذة المناجاة ”اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك تشاهدهم في سرائرهم وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم فأسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم إليك ملهوفة إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك“ هكذا كان علي ، أقواله هي أعماله وأفعاله، كان علي قطعة من العبادة، كان علي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة يقطع ثمان ساعات في العبادة لا يسأم ولا يمل، يصلي والحرب قائمة تنفذ السهام إلى بدنه فلا يشعر بها، علي زين العابدين يقول لابنه الباقر : «بني ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين حتى أتأسى بها» فيناوله إياها، فيبكي ويبكي ويبكي ويقول: «من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين».

دخل ضرار بن ضمرة على معاوية ابن أبي سفيان، قال يا ضرار: صف لي عليا، قال: اعفني اعفني، قال: أبيت عليك إلا أن تصف لي عليا، قال: إن أبيت إلا ذلك فاسمع، كان والله يقول عدلا ويحكم فصلا تنطق الحكمة من جوانبه ويتفجر العلم من نواحيه وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يحاسب نفسه إذا خلا ويقلب كفيه على مامضى ويأنس بالليل ووحشته ويستوحش من الدنيا وزهرتها يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين وكان مع حبه إلينا ودنوه منا لانكلمه هيبة منه فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ولقد رأيته ليلة من لياليه واقفا في محرابه قابضا على شيبته يتململ تململ السليم وهو يقول: ”آه يا دنيا غري غيري لقد بنتك ثلاثا لارجعة لي بعدها فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير آه من قلة الزاد ووحشة السفر وبعد الطريق“.