الإمام علي (ع) يشارك الحسين (ع) في صنع الثورة

1442-01-10

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

في حديثنا عن المشروع الحسينيّ الإصلاحيّ، نتناول محورين:

  • منطلقات المشروع الإصلاحي الحسيني.
  • الحضور العلوي في الخطاب الحسيني.

المحور الأول: منطلقات المشروع الإصلاحي الحسيني.

المنطلق الأول: رفع راية الإسلام وإعادة هيبته للوجود.

إنَّ الجاهلية ليست مرحلة تاريخية وُلِدَت وانقضت، وإنما الجاهلية ظاهرةٌ سلوكيةٌ تتكرّر وتتجدّد بمرور الزمن، ولقد شخّص الحسين بن علي عودة الجاهلية من خلال بني أميّة حينما تربّعوا على عرش السلطة في تلك الفترة، هنالك عدة معطيات استنتج الحسين منها عودة الجاهلية على يد بني أميّة:

المعطى الأول: نهب خزينة الدولة وبيت المال، حيث استأثر الأمويّون بالفيء والغنائم والثروات، وبنوا الثراء العريض، فدبّ الفقر وانتشرت المجاعة في كثير من بلاد المسلمين، وعاش المجتمع الإسلامي طبقية واضحة بين أغنياء يعيشون على موائد بني أميّة وفقراء يرزخون تحت خطّ الجوع لتحصيل لقمة العيش، حتى قال سعيد بن العاص كما يروي العقد الفريد: إنّما السواد - أي النخيل بين البصرة والكوفة - بستانٌ لنا، أو بستانٌ لقريش.

المعطى الثاني: إشاعة دور المجون والرقص واللهو في المدينة ومكّة المكرّمة على يد ولاة بني أميّة، دون رعاية للقيم والمبادئ.

المعطى الثالث: انعدام الأمن في بلاد المسلمين، حيث كثرت الاغتيالات والتصفيات لكل شخص يحتمَل منه المعارضة لبني أميّة، حتى انتشر الذعر والخوف، وأصبح الكلّ يطلب السلامة والأمن، وممّا عزّز ذلك شراء الضمائر والأديان بأموالهم وثرائهم.

المعطى الرابع: تصفية كبار الصحابة، صحابة رسول الله الذين عاشوا مع الرسول ونهجوا نهجه، لأنهم اتخذوا خطّ المعارضة لبني أمية، فاغتيل حجر بن عدي مع سبعة كانوا معه، وصُفِّي ميثم التمّار وصُلِب على جذع النخلة، وقُتِل عمرو بن الحمق الخزاعي ورُفِع رأسه على رأس الرمح، وكان أول رأس يُرفَع في الإسلام.

وأمام هذه المظاهر البشعة والمعطيات المريعة لعودة الجاهلية، كان ذلك منطلقًا لحركة الحسين في مشروعه الإصلاحي، حيث قال: ”لقد سمعنا من رسول الله أنه قال: من رأى منكم سلطانًا جائرًا مستحلًا لحرم الله ناكثًا لعهد الله فلم يغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله، ألا ترون إلى الحق لا يعمَل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه“، وقال : ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، انطلاقًا من الآية المباركة: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

المنطلق الثاني: تحرير إرادة الأمة.

لقد ماتت إرادة الأمة بعد مقتل الإمام علي ، وتراجعت الأمة عن الانتصار للمبادئ والقيم، وشاعت أخلاقية الهزيمة بين أبنائها، لقد كان وجود الإمام علي مهمًّا، يضفي على الأمّة لهيبًا يحرّك ضمائرها وقلوبها ومشاعرها، لقد كان وجود الإمام علي يعطي الأمّة طاقة حرارية وغليانًا مع المبادئ والقيم والانتصارات، فلمّا فقدت الأمة مصدر تلك الطاقة الحرارية فقدت إرادتها، وماتت بشكل تدريجي، وبدأت تتراجع وتتثاقل عن نصرة المبادئ والقيم، وصار كل واحد يبحث عن السلامة ولقمة العيش وتغطية أموره المعاشية، دون أن يعبأ بأي صرخة للمبادئ والقيم، ورأى الحسين بنفسه أنّ أخلاقية الهزيمة بدأت تشيع وتخيّم على المجتمع الإنساني آنذاك، فلاحظ عدة مظاهر مريعة جدًا:

المظهر الأول: نصيحة الأقربين.

الأقربون للبيت العلوي هم الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج، محمد بن الحنفية، عبد الله بن عباس، عبد الله بن جعفر، الذين عاشوا في المبدأ العلوي ونهلوا مبادئه هم الذين قالوا للحسين لا تخرج وتريّث ولا تلقِ بنفسك، فاستغرب الحسين منطقهم لأنهم عاشوا مبادئ علي وقيمه وثباته وإصراره، فكان منطقهم مظهرًا مريعًا بالنسبة لخطّ الحسين .

المظهر الثاني: مواجهة بعض الصحابة الموالين.

إنَّ الصحابة الذين كانوا في جيش الإمام علي ، وكانوا متفانين في خدمة الإمام علي واجهوا الحسين بلسان لذع، وبكلمات جارحة، عمرو بن لوذان والأحنف بن قيس قالا للحسين: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ، وكأن حركة الحسين تهوّر أو مجازفة أو استخفاف، حتى نطقوا أمامه بهذه الآية المباركة.

وأعظم من هذا، أنَّ عبيد الله بن الحر الجعفي الذي كان من خُلِّص أصحاب الإمام علي كتب إليه الحسين يريد أن يزوره، فرفض لقاء الحسين، وقال للرسول: أعفني فلقد خرجت من الكوفة كراهة أن ألقاه فكيف ألقاه في الطريق؟! فأصرّ الحسين على أن يزوره ليقيم الحجّة عليه، فدخل عليه خيمته، فألقى على الحسين اعتذارًا باردًا أتعب قلب الحسين ، ثم قال للحسين: أواسيك بفرسي وسيفي، وأما نفسي فلا. فقال الحسين: أما إذا بخلت بنفسك فلا حاجة لنا في فرسك وسيفك.

المظهر الثالث: تخلّي زعماء القبائل.

لقد كتب الحسين إلى زعماء البصرة الموالين للإمام علي وليس غيرهم، كتب إليهم، أرسل رسوله إليهم يدعوهم إلى النصرة، فكتموا الأمر وانهزموا وتفرّقوا في نخيلهم حتى لا يراهم أحد، أما المنذر بن الجارود فقام بعمل أفدح، أخذ الرسول والكتاب وسلّمهما لعبيد الله بن زياد طلبًا للسلامة وفرارًا بحياته، وقد أزعج الحسين الخبر عندما وصله عن مقتل رسوله على يد أحد أصحابهم، ألا وهو المنذر بن الجارود.

المظهر الرابع: ما جرى في الكوفة.

الكوفة هي عاصمة الإمام علي التي سمعت مواعظه، ورأت صلاته، وشهدت مواقفه، ورأت حروبه، ومع ذلك هذه العاصمة نفسها يُقتَل مسلم بن عقيل بمرأى ومسمع من أهلها، ويُجرّ هو وهانئ بن عروة في السوق بمرأى ومسمع، بل خرج من هذه المدينة نفسها القبائل تتسابق لقتال الحسين لكي تحصل على الجائزة وعلى المال الموعود به.

كل هذه المظاهر كشفت أخلاقية الهزيمة التي مُنِيَت بها الأمّة آنذاك، فرأى الحسين أنَّ المرض مستفحل وعميق، ولا علاج له إلا التضحية والفداء، فإنَّ إراقة أغلى دم على الأرض آنذاك هو الكفيل بأن يحرّك إرادة الأمة ويوقظ ضميرها، ويجعلها تعي من سباتها، لتلتفت إلى مبادئها وقيمها، فكان ما كان.

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا   إلا   إذا   دمه  في  كربلا  iiسفكا

فقال: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا إني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر، وأيم الله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركَب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله ، ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ“.

المنطلق الثالث: حقّ الأمة في القيادة الرشيدة.

حتى لو لم يرتكب بنو أميّة أية مفسدة فإنَّ للأمة حقًّا في أن تتولاها القيادة الرشيدة، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين عندما قال: ”ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بالحق، الحابس نفسه على ذات الله“.

المحور الثاني: الحضور العلوي في الخطاب الحسيني.

عليٌّ تجسّد في الحسين، صوت عليّ تجلّى في صوت الحسين، خطابات علي تمثّلت في خطابات الحسين ، وذلك في عدّة مواطن:

الموطن الأول: الانتصار للعدالة.

لقد قال علي بن أبي طالب : ”ألا وإنَّ كلّ قطيعة أقطعها فلان أو مالًا وهبه مردودٌ لبيت المال، ولو وجدته تزوّج به النساء وفرّقه في البلدان لرددته، فإنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق“، وصوت العدالة من عليّ تمثّل في الحسين بن علي عندما قال: ”ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه، ألا وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برمًا“.

الموطن الثاني: السلطة وسيلة وليست هدفًا.

هكذا نظر إليها علي بن أبي طالب، وقال: ”إنّ نعلي خيرٌ لي من إمرتكم إلّا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلًا“، وقال: ”اللهم إنّك تعلم إنّ الذي كان منّا ما كان منافسةً في سلطان، ولا التماسًا لفضول شيء من الحطام، وإنّما لنحيي أمور دينك ولنظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك“، الحسين استخدم نفس كلمات أبيه في مكّة المكرمة فقال: ”اللهم إنّك تعلم إنّ ما كان منا لم يكن منافسة في سلطان ولا التماسًا لفضول شيء من الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك، وتقام فرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا ولم تنصفونا قوي عليكم الظلمة، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم“.

الموطن الثالث: عزّة الدين.

لم تكن بيعة الحسين ليزيد ذلًّا لشخص الحسين أو شخص الأسرة العلوية فقط، إنّما كانت بيعة الحسين ليزيد إذلالًا للدين والإيمان، وهذا ما أدركه الحسين بن علي، فنطق بمنطق العزّة كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وقال الإمام أمير المؤمنين علي : ”أفضل الناس من ذلّ للحق فأعطاه من نفسه، وعزّ بالحقّ فقام به، وحسن عمله به“، وقال: ”إني لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة“، ونفس هذا المنطق هو منطق الحسين عندما قال: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد“.

الموطن الرابع: لا مساومة على المبادئ ولا أنصاف في الحلول.

نفس ما تعرّض له عليٌّ تعرّض له الحسين، الموقف هو الموقف، عندما استلم الإمام عليّ الخلافة أقبل الشيوخ والوجهاء ناصحين مخلصين وقالوا للإمام علي: ثبّت سلطانك ودولتك أوّلًا ثم اعزل الولاة ولا تعجل على عزلهم حتى يتوطّد لك الأمر، فقال: ”لا والله، أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله؟!“، رفض المساومة على المبادئ. ربّما يقول بعض الكتّاب: لِم لَم يقدّم عليّ الأهم على المهم؟ الأهم أن يقيم سلطة عادلة، المهم بعض المبادئ الخفيفة يتنازل عنها من أجل إقامة سلطة عادلة، لكن عليًا أبان للأجيال كلّها أنَّ الأهمّ من كلّ ذلك الثبات على المبادئ، لا يوجد أهم من الثبات على المبادئ والإصرار عليها، لا يوجد أهم من أن يكون عليٌّ رمزًا للعدالة والثبات على المبادئ، ما هي السلطة عند عليّ؟! السلطة عند عليّ عبّر عنها: ”عمرك قصير وخطرك كبير“ وعبّر عنها بأنّ ”نعلي خيرٌ من إمرتكم“، وعبّر عنها بأنَّها ”أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها“، وأصرّ على عدم المساومة على المبادئ، وعلى الثبات عليها من أجل هدفين:

الهدف الأول: أن يربّي قادة التاريخ على الثبات على المبادئ والإصرار عليها، وهذا ما حصل له، الحسين بن علي، سليمان بن صرد الخزاعي، الحسين بن علي صاحب معركة فخ، المختار الثقفي، كلّهم أصرّوا على نفس المنهج بعد رحيل الإمام عليّ .

الهدف الثاني: أن يبرز للأجيال أنّ المعركة ليست معركة شخصية بين الحسين ويزيد، وليست معركة بين قبيلتين كما يقول بعض الكتّاب! قبيلة بني هاشم وقبيلة بني أميّة! ليست هناك عصبية قبلية، وإنما المعركة معركة رسالية، معركة الحق مع الباطل، صراع الفضيلة مع الرذيلة، صراع الإيمان مع الفسق.

هكذا أصرّ الحسين كما أصرّ أبوه على خوض المعركة على أن تكون هي المعركة الرسالية، فقال الحسين ما قال أبوه: ”أيها الناس، انسبوني من أنا ثم ارجعوا لأنفسكم فعاتبوها، هل يحلّ لكم قتلي أو انتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق برسوله بما جاء به من عند ربّه؟! أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟! أو ليس جعفر الطيار عمّي؟! أو لم يبلغكم قول رسول الله فيّ وفي أخي الحسن: هذان إمامان قاما أو قعدا، حسين مني وأنا من الحسين، أحب الله من أحب حسينًا، حسين سبطٌ من الأسباط، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حرمتي؟! فإن كرهتم مقدمي عليكم فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض، فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عبد الله، انزل على حكم بني عمّك - جاءت المساومة - فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه، ولك صكّ الأمان منا، قال: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد“.